الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهاب في عنتاب

رستم أوسي

2013 / 12 / 27
الادب والفن


((دوغري ، دوغري)) صاح المواطن التركي الصالح و هو يلوح بيده نحو الأمام مثل شرطي المرور مجيباً على سؤال شهاب.
شهاب ترك سكة تورمواي غازي عنتاب وراءه و مشى بمحاذاة حديقة أتاتورك ، ليعبر فوق جسر محمد آلتنباش الواصل بين منطقتي غازي مختار و تشارشي. انعطف الطريق قليلاً بعد الجسر و تعالت مبانٍ على طرفيه. غيوم رمادية تكاثفت وحجبت شعاع الشمس الدافئ. قطعة حجر ضخمة تقدمت سوق تشارشي -;- كانت تمثالاً لرجل مدني يمتطي فرساً قصيرة ، بينما توسخ العصافير يده الممدودة نحو السماء. لم يأتِ شهاب الى هذه المدينة سوى مرتين في حياته ، مرة مع قافلة تجارية تحمل أقمشة مطرزة قادمة من حلب ، و هذه المرة. من يستطيع أن يحصي السنوات بين المرتين ، لعلها أكثر من عشرة ، لكن عنتاب مختلفة هذه المرة. سيارات تزحم سيارات و ناس تزحم ناس. أفواه كثيرة تتكلم في وقت واحد و لا أذن تسمع. أكوام خضروات مجففة تدلت من سقوف الدكاكين بألوانها الباهتة و رفرفت أقمشة أكثر زهواً أمام دكاكين أخرى. قطرة ماء ولجت أنف شهاب و حفزته على إسراع الخطى وسط الزحمة -;- سوف تمطر. الرجل الحنطي الكثيف الحاجبين المتوسط القامة انعطف يميناً عندما رأى لافتة تعنيه. رائحة التوابل ملأت أنفه و جعلته يعطس و في ذات اللحظة أطلق بائع قهوة أمام مديرية شؤون المغتربين صيحته. لم يلتفت شهاب ، بل دخل مبنى المديرية مسرعاً.
وقف شابان أسفل قرص الدرج يدخنان. جاهد شهاب بلغته التركية الضحلة لإخبارهما أنه قد أضاع جواز سفره و أنه جاء ليرى ما عليه فعله ، لكن أحد الشابين فاجأه بلهجة حلبية مجلجلة ((الطابق الأول ، ثاني غرفة على اليسار.)). و في المكان المذكور كرر شهاب ذات العبارة الركيكة أمام الموظف التركي ، ثم عجز عن الشرح أكثرعندما رغى الموظف بالتركية و نبرته تدل على الاستفهام. واصل الموظف الكلام دون أن يحصل أي تواصل بينه و بين التائه أمامه ، والذي سيخرج بعدها للانتظار في الرواق. هو التائه دون جواز سفره ، هو الحاضر الغائب على كرسي الانتظار -;- أنا شهاب الدين موسى ، أبو أحمد ، المعروف بين أصدقائي بأنني لا أضع جوالي على الطاولة كي لا أنساه ، المعروف بحرصي ، أضيع جواز سفري! و في أي توقيت. هل يعقل أن هذا من آثار الجلطة الدماغية ، هل ستنحدر حياتي و حياة عائلتي أكثر من ذلك. كنت صاحب ثلاثة معامل في حلب ، الأول قصِف في الليرمون بدايةَ الأحداث ، و الثاني نُهِب في الشيخ مقصود بعدها بعام. أصابتني الجلطة لدى سماع النبأ الأخير و بقيت في الغيبوبة لأيام ، و عندما شفيت قررت أن أترك البلد قبل أن أسمع أخبار المعمل الثالث في الراموسة. نقلتُ عائلتي الى الحسكة حفاظاً على سلامة الأولاد و خططت لتصفية أموري في سورية ، أسافرالى بلغاريا و من ثم أرسل في طلب عائلتي بعد سنة أو سنتين على الأكثر. تمت الموافقة على الدعوة التي أرسلها لي أخي من بلغاريا و طلبت القنصلية البلغارية في عنتاب مقابلتي. خرجتُ في هذاالصباح المشؤوم من منزل نسيبي في حي إبراهيملي و معي كل الأوراق المطلوبة ، تفقدتُ الجواز في جيب سترتي في سيارة الأجرة ، و كان موجوداً حينها. لا أصدق أنه ضاع. ((الى أن صار العرس خُطِفت العروس)) قال له جده. رحمة الله عليك يا جدي.
رنّ هاتفه الجوال ، انها زوجته أو أم الأولاد كما يحلو له تسميتها ، لكنه لم يرد ، لأن أم الأولاد إن عرفت بالأمر فقد يكون وقع ردة فعلها عليه أشد من أخبار معمل الراموسة ، فهي تعرف جيداً أن الحصول على جواز سفر جديد في سوريا قد يستغرق ٤-;- أشهر أحياناً. هذا ان لم يتهموني ببيع الجواز-;- و ساعتها تفضل الى التحقيق يا أبو أحمد. لعل يداً مباركة تجد الجواز على رصيف ما خلال الساعتين القادمتين وتحضره الى مديرية الأجانب. مع أنني بحثتُ على كل الأرصفة. كان شهاب غارقاً في تخميناته عندما لاحت أمامه قشة مع سماعه موظفاَ يتكلم العربية مع أحد المراجعين في الغرفة المجاورة. طرق شهاب الباب و دخل ، وبينما يشرح مشكلته للموظف تائه آخر طرق الباب -;- كان معفراً بالطين مبللاً. ملأ المكان فوضً و ماء حين دخل بنعلين متآكلين كما تتآكل الجيفة تحت التراب.. كان أشبه بياندرتال يتكلم دون توقف ، لم يكن يتكلم العربية ، أو الكردية ، أو حتى لغة الموظفين -;- عرف شهاب ذلك عندما أرخى الموظف فكه السفلي و بهت بالمتكلم. كان عدة تائهين في رجل واحد. لم يكن ما قاله سوى مقدمة باللغة التركية البديلة ، تلتها كلمة عربية واحدة فسرت كل شيء ، قالها بلهجة بدوية مفعمة بالتصحر ((ظيعته)). سأله الموظف ((ما اسمك يا ابني؟))
((مسلم))
((من أين تأتي يا مسلم؟))
((من الرقة ، من سورية))
((أنت أضعت جواز سفرك ، أين أضعته؟ و متى؟))
((هنا في عنتاب ، قبل ثلاثة أيام. لم يكن جوازي فقط ، جواز ابن أخي ضاع أيضاً))
((حسناً يا مسلم ، سوف نكتب لك ضبطاً مفاده أن الجواز قد ضاع في التاريخ الفلاني ، الأمر الذي يجعلك غير مسؤول في حال استخدم الجواز لغرض غير قانوني.))
((ألن تجدوا الجواز؟))
((اذا وجده شخص صالح و أحضره لنا فسوف نتصل بك ، لكن عليك أن تأخذ ورقة الضبط لتوقيعها من مديرية الأمن في حي غازي مختار.))
نظم الموظف ورقة ضبط لشهاب و ورقتين لمسلم و ابن أخيه. خرج الرجلان يغمغان بالشكر ، و لولا أن شهاب دعا مسلم لمرافقته الى مديرية الأمن لجلس الأخير لليوم الثالث على التوالي على كرسي الانتظار حتى ينتهي دوام الموظفين ومن ثم يعود الى منزل ابن أخيه ، حيث يقيم مؤقتاً. ((ماذا أفعل! لم ينادوني.)) قال مسلم. ((لماذا جئت الى عنتاب يا مسلم؟)) سأل شهاب.
((كنت أعمل هنا في البناء. تركت العمل قبل شهرين و عدت الى سورية. بقي لي في ذمة المتعهد مبلغ من المال و جئت أحصله.))
((كم ؟))
((٨-;-٠-;-٠-;- ليرة تركي.))
((و هل أعطاك إياها؟))
((لا ، طلب مني أن عود بعد أسبوع.)).
خرجا من مبنى مديرية الأجانب مطرقين. لم يبدوا قط ، برغم الفارق الكبير في الهندام و الشكل ، كسيد و أجير. بل انه كان واضحاً من نظراتهما الزائغة أنهما يبحثان عن ذات الشيء. لقد كانا ببساطة كأي سوريين ، في طريقهما لتوقيع الضبط الذي لا يعيد لا الجواز و لا النقود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب