الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحل برة الصندوق

السيد نصر الدين السيد

2013 / 12 / 28
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


ولكم في باقي اسوة حسنة
في السادس من أكتوبر عام 1973 نجح جند مصر في "إذابة" السد الترابي الذي أقامه الإسرائيليون على الضفة الشرقية لقناة السويس. ولقد تصور الإسرائيليون أنهم بإقامتهم هذا السد سيتمكنون من إعاقة أي هجوم مصري محتمل وأنهم بذلك قد خلقوا للمصريين مشكلة يستحيل عليهم حلها. ولم يكن الإسرائيليون مخطئين في تفكيرهم إذ أن استخدام الطرق المعروفة لإزالة السدود الترابية سيمنحهم الوقت الكافي لتدمير من يفكر في الإقدام على هذه المحاولة. وكانت المفاجأة التي أذهلتهم هي استخدام المصريون لطريقة بسيطة وغير مسبوقة. وكانت الطريقة هي "استخدام مضخات المياه" لإزالة السد الترابي. وهي الطريقة التي اقترحها المقدم مهندس باقي زكي يوسف من سلاح المهندسين الذي أرقه وشغل تفكيره وجود هذا السد الترابي. وبعد التأكد من فعالية هذه الطريقة غير المسبوقة تبنتها القيادات العليا للقوات المسلحة المصرية.
التفكير خارج الصندوق
تقدم لنا هذه الواقعة نموذجا مثاليا للتفكير "خارج الصندوق" او لمفهوم "الابتكار" Innovation. فبداية تعتبر هذه الواقعة تجسيدا حيا لهذا المفهوم الذي يعرفه علماء الإدارة بأنه "أي حل غير تقليدي لمشكلة مستعصية تعجز طرق التفكير المألوفة عن حلها". ويلقى هذا التعريف الأضواء على الجوانب المختلفة لعملية "إنتاج الابتكار". وأولى هذه الجوانب هي أن الابتكار كحل غير تقليدي لابد وأن يتضمن إنتاج لمعرفة جديدة. أما الجانب الثاني فيعنى بكيفية تفعيل هذه المعرفة أي باستخدامها في حل المشكلة قيد البحث أو في خلق فرصة جديدة يمكن استغلالها. ولقد أدى ارتكاز اقتصاديات المجتمعات المتقدمة المتزايد على "الموارد المعرفية"، أو المعرفة العلمية والتكنولوجية بكافة أشكالها والتي ينتجها ويحوزها أفراد تلك المجتمعات، وتقلص الدور الذي تلعبه الموارد التقليدية المتمثلة في الموارد الطبيعية والمالية أدى هذا كله زيادة الاهتمام بالابتكارات وبعملية إنتاجها. فلقد وعى علماء الإدارة والاقتصاد ورجال الأعمال في بلاد العالم المتقدم أهمية الدور الحيوي الذي تلعبه "الابتكارات" بكافة أشكالها في تحقيق مزايا تنافسية للمؤسسات الاقتصادية وفى زيادة الدخل القومي لهذه البلدان. وكانت نتيجة هذا الوعي ميلاد علم جديد هو علم "إدارة الابتكار" Innovation Management الذي يهتم بكافة العمليات التي يمكن استخدامها في تطوير منتجات وخدمات وعمليات جديدة أو محسنة. وهكذا لم تعد "إنتاج الابتكارات" عملية تترك للصدفة بل أصبحت عملية عقلانية واعية يتم التخطيط لها ويتم تهيئة المناخ المواتى لنجاحها وضمان استدامتها.

ولم يكتفى علماء الإدارة باستخدام علم "إدارة الابتكار" في تعزيز قدرة المؤسسات الاقتصادية على إنتاج الابتكارات بكافة أشكالها بل سعوا لتطبيقه على المجتمع ككل فظهر مفهوم "المنظومة القومية للابتكار" National System of Innovation. ويعرف العلماء هذه المنظومة بأنها المنظومة التي تتألف من مؤسسات القطاعين العام والخاص والجامعات والهيئات الحكومية وتهدف إلى إنتاج الابتكارات العلمية والتكنولوجية والتنظيمية التي تستهدف حل مشكلات المجتمع المستعصية. الا ان نجاح هذه المنظومة في بلوغ أهدافها المرجوة يتوقف على عاملان: "رفض الوضع الراهن" Status Quo، و"الخروج عن المألوف". وأول هذه العوامل، "رفض الوضع الراهن"، يتعلق بطبيعة القوى المحركة لعملية الابتكار أو "التوتر الخلاق" Creative Tension الذي عرفه عالم الإدارة الأمريكي سينج Senge، في كتابه الشهير "النظام الخامس: فن وممارسة المنظمات المتعلمة"، بأنه الطاقة التي يولدها الوعي بتباعد أحوال الواقع عما هو مأمول فتدفع بمن يعي قدر هذا التباعد، ويعاني من آثاره، الى رفض الوضع الراهن والعمل على تغييره ومن ثم إلى الإبداع والابتكار.

ثقافة الابتكار
أما العامل الثاني، "الخروج عن المألوف"، فيتعلق بـ "ثقافة الابتكار" التي تشكل البنية التحتية الثقافية اللازمة للاستفادة من طاقة التوتر الخلاق واستخدامها في انتاج الحلول غير المسبوقة لمشاكل المجتمع. وثقافة الابتكار هي تلك الثقافة التي توفر بيئة عمل تشجع العاملون باستمرار على التفكير الإبداعي، وتيسر من عملية تجسيد أفكارهم الجديدة على هيئة ابتكارات. فالقدرة على "الإبداع"، أو إنتاج الأفكار غير المسبوقة، وحدها لا تكفي لوصف أي كيان بصفة "المبتكر". إذ يقتضي إطلاق هذه الصفة على كيان ما قدرته على تجسيد هذه الأفكار على هيئة سلع أو عمليات أو خدمات. انها الثقافة التي تعمل على تجاوز الوضع الراهن فتسعى وراء الجديد وترحب بالتغيير، ولا تخشى التعامل مع الأمور التي لا يمكن التنبؤ بها فترحب بالمفاجآت وتتعامل بإيجابية مع الغموض وعدم التيقن، وتسعى بهمة وراء المعرفة والأفكار الجديدة أيا كان مصدرها، داخلي او خارجي، وأيا كانت درجة "شططها" أو غرابتها وخروجها عن المألوف، ولاتخشى خوض التجربة وممارسة التجريب فتتسامح مع الفشل وتعتبره خطوة في طريق النجاح. ثقافة منفتحة لكل جديد ومرحبة به ... تشجع التغيير ولاتؤثم البدع ... ! ... ثقافة لا تقيد فكر الإنسان في أطر ضيقة ولاتحصره في حدود مقررة سلفا. وفى المقابل نرى "ثقافة الوضع الراهن" التي لا تأخذ في اعتبارها الا كل ما يمكن التنبؤ بسلوكه على وجه اليقين فتعمل على تجنب المفاجآت، وتسعى لتأكيد الاستقرار وتعزيز الوضع الراهن وتتجنب التغيير، ولا تتسامح مع الفشل.

نحن وتوترنا الهدام
واليوم والأمة المصرية تمر بمرحلة تحول فارقة تواجه فيها مشكلات مستوطنة طال مكوثها في جسد الامة حتى انهكته، كما تواجه فيها تحديات مستجدة تتعلق بوجودها نفسه (سد النهضة الاثيوبي على سبيل المثال)، تبرز الحاجة الماسة للتفكير خارج الصندوق. ان ما تعانيه الامة المصرية من مشاكل مزمنة وما تواجهه من تحديات يؤكد ضرورة إنشاء منظومة القومية للابتكار وإقامة "البنية التحتية المعنوية"، بمكونيها "التوتر الخلاق" و"ثقافة الابتكار"، اللازمة لضمان نجاحها. فما أحوجنا اليوم إلى تبنى وإشاعة "ثقافة ابتكار" تهيئ المجتمع المصري من ابتداع حلول غير تقليدية لما يواجهه من مشاكل وتحديات. وما أحوجنا إلى حملة قومية لتنقية ثقافتنا السائدة مما يعوق عملية "إنتاج الابتكارات" بدءا من قيم "من فات قديمة تاه" و"من خاف سلم" و"إمشى سنة ولاتعدى قنا" وإنتهاءا بثقافة "العنعنات". وما أحوجنا إلى "عقد اجتماعي" جديد ينظم العلاقات بين مكونات المجتمع المصري فيسمح بالـ "التوتر الخلاق" بينها ليحل بذلك محل "التوتر الهدام" الذي يسود اللحظة الراهنة. هذا "التوتر الهدام" الذي يتبدى فيما تسعى إليه بعض التيارات من إحداث حالة مواجهة وانقسام بين هذه مكونات الامة المصرية. ما أحوجنا إلى "عقد اجتماعي" جديد بين الحكومة وعموم المصريين ينظر إلى الإنسان المصري البسيط في "تحايله على المعايش" لا بوصفه سبب المشاكل بل بوصفه المصدر الرئيسي للحلول المبتكرة. فلقد استقر رأى علماء "إدارة الابتكار" على أن أحد أهم مصادر الابتكارات هم من يعانون معاناة مباشرة من المشكلة ويتأثرون بها، أي أولئك "اللي في وش المدفع". عقد جديد يتبنى فلسفة "من تحت لـ فوق" لحل المشاكل بدلا من فلسفة "من فوق لـ تحت" التي أثبتت عدم فعاليتها فتكتسب الحلول بذلك شرعيتها وتتأكد قابليتها للتنفيذ ويتم تفعيل "التوتر الخلاق" في المجتمع المصري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما محاور الخلاف داخل مجلس الحرب الإسرائيلي؟


.. اشتعال النيران قرب جدار الفصل العنصري بمدينة قلقيلية بالضفة




.. بدء دخول المساعدات عبر الرصيف الأمريكي العائم قبالة سواحل غز


.. غانتس لنتنياهو: إما الموافقة على خطة الحرب أو الاستقالة




.. شركة أميركية تسحب منتجاتها من -رقائق البطاطا الحارة- بعد وفا