الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (8)

وديع العبيدي

2013 / 12 / 31
الادب والفن


وديع العبيدي
احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (8)
عن القصيدة والرموزية الدينية
الواقع الاجتماعي والتراث الشعبي هما مجال اشتغال شعرية سعدي يوسف منذ أمد بعيد، وكان له دور تأسيس في أسطرة كثير من الحالات والظواهر والأفراد شعريا، ويمكن تصنيف هذا المَشغَل على ثلاثة أنماط تبعا للمرحلة الظرفية التي توزعت الشاعر:
1- مرحلة الكفاح السياسي اليساري: وتطبعه الشخصيات الاجتماعية لعمال وفلاحين وصيادين وطلبة، والظواهر النضالية لمواجهة الطغمة الحاكمة، وتوزيع المناشير والتكاتف النضالي، وقد استمرت هذه المرحلة زمنيا حتى الثمانينيات بشكل عام، كما في ديوان [النجم والرماد] مثلا.
2- مرحلة الهجرة والتنقل والسفر الدائم في الجغرافيا العربية: وتتمثل في قصائد ذات بعد اركيولوجي واستنطاق للتاريخ والجغرافيا، وهي المرحلة التي استنهضت حالة من الاعتزاز بالجذور والانتماء العروبي والقومي الذي امتد للغة وحيثيات المكان، ورسّخ البعد التراثي كما يتبدى في ديوان [شرفة المنزل الفقير]- قصيدة العقبة انموذجا.
3- مرحلة الاغتراب الأوربي والإقامة في لندن، حيث تتطور فلسفة المكان في تجربة الشاعر وتتعمق وتتسع. والمعروف ان العلاقة بالمكان هي من نتائج المرحلة (الوسيطة) السابقة والتي تتجذر الآن شعريا وتتخذ من نقطة المكان بؤرة نفسية شعرية، بحيث يرى الشاعر انه لا يستطيع الكتابة بدون وجود المكان وتحديده. والواضح، في لغة سعدي أن وجود المكان تعني العلاقة بالمكان. وهذه الظاهرة أكثر شيوعا وعمقا في انتاج هذه المرحلة، والأكثر شغفا وعمقا (نفسيا) في تجربته كما في الديوان الآيطالي ، قصائد نيويورك، ديوان طنجة وديوان شيراز. - انموذجا-.
ويمكن إعادة تصنيف المراحل الثلاثة بايجاز أشدّ، بأنها مراحل [سياسية، قومية، نفسية] . والمرحلة الثالثة النفسية، مرحلة الاغتراب والنفي من الجغرافيا العربية هي المستمرة حتى الآن، وهي النطاق الرئيس لهذه القراءة تحديدا.
فالعناصر الأساسية المكونة لشعرية سعدي هي: المكان، الجذور والخصائص، الرمز الانساني في بعده التراثي أو الراهني.
في المشغل الشعري لسعدي لا يلعب الزمن الدور الرئيس، وانما اللحظة النفسية. واللحظة النفسية قد تتركز في نقطة الراهن، أو قدحة الذاكرة. وطالما، كانت الذاكرة/ اللحظة النفسية هي العامل الرئيس المهيمن عند الانسان بعد تجاوزه سن الخمسين (بيولوجيا). فأن قصائد الأخضر بن يوسف في الثلاثين سنة الأخيرة –على الأقل- هي من بنات الذاكرة في تلاقحها مع الراهن، أو هي من بنات الراهن (الانطباعي) في تلاقحها مع أصول وعوامل الذاكراتية.
أين هي ذاكرة سعدي يوسف الغنية والواسعة والعميقة!..
تلك هي التي احتفظ بمفاتيحها لنفسه ومنعها من المصادرة أو الوصاية من الخارج.
حتى رفاقه الذين قاسموه جانبا من تلك اللحظات لا يملكون مفاتيحها، لأن الذاكرة النفسية المعتقة وحدها تمتلك حقّ التصوير والتفسير والتأويل، بينما يمتلك الأفراد الغير.. حقوقهم الفردية، ولا وصاية لهم على سواهم.
الذاكرة هي سلطة فردية مستبدة، كالرغبة والحب والجنس، ولا يتشابه فيها اثنان، كالبصمات. الذاكرة، اللحظة، القصيدة هي خصوصية سعدي، سعدي وحده!.
في إطار دراسة تنوع الفضاء المعرفي والنفسي لقصيدة الشاعر في مرحلته الثالثة، تتقدم الرموز الدينية بوضوح- دأب سعدي- وتمثلاتها النفسية المتأثرة بعوامل المكان واللحظة.
هل يلتقي الشيوعي مع الدين؟.. سؤال تقليدي.. والجواب: نعم!. يلتقي الشيوعي مع الدين عبر الانسان. الشيوعي انسان.. والدين حاجة انسانية. والحاجات الانسانية تتوزع في أربع: [اجتماعية، جسدية، فكرية، نفسية]. ويختلف ترتيبها من شخص لآخر. وبالنسبة للشاعر المفكر المبدع، تتقدم الحاجات الفكرية والنفسية على البقية.
الدين هو جزء من الواقع الاجتماعي أيضا، وجانب من التراث الشعبي أيضا.
علاقة الأخضر اليوسفي بالدين هي حاجة نفسية، حاجة اجتماعية!..
علاقة سعدي يوسف بالدين هي من خلال الفلكلور الشعبي أو الطقوس الاجتماعية!..
لكن السؤال الدائم هو.. هل اشتغال الشاعر على ثيمة الدين، أم ثيمة الفلكلور والتراث؟..
في محيط إقامته التونسية - ذاتعهد-، قام الشاعر بمراجعة أعماله الكاملة، واستخرج منها أربعة دفاتر فئة المائة ورقة من قصائده. معياره في المختارات كان ثلاثي اللاءات: لا زمن، لا غرض، لا قيم!. تلك المختارات.. صدرت لاحقا في مصر.
إذا كان هذا منظور الشاعر في شعره، فهل يجوز لأحد تجاوز منظوره لتأويل ما لا يتأوّل؟ .. هذا السؤال مهم جدا.. ايمانا أن المؤلف هو صاحب حقوق الملكية الفكرية الكاملة لأعماله. هذه الحقوق الفكرية تشمل حق التفسير والتأويل، وهي مصونة بضمانة القوانين والأعراف الدولية. لا أحد يستطيع تقويل شيكسبير أو غوتة أو ماركس أو أورويل على هواه. هل يصل المؤلف العربي يوميا، لمصاف المؤلف الغربي في بلده؟.
الرموز التراثية الدينية التي وظفها الأخضر بن سعدي هي أربعة، كما يلي:
1- مرموزية بوذا
2- رموز مسيحية
3- رموز اسلامية
4- مرموزية خضر الياس
ومحاولة الفهم هنا لا يجوز قصرها على جانب دون سواه، أو على رمز دون غيره، أو على قصيدة دون ما عداها. أما اجتراء نص وتعميمه على الشاعر أو الانسان، فهو غير جائز أكادميا ولا منهجيا، ولا أقول أنه مثار سخرية في المحافل الغربية.
أولاَ: مرموز بوذا
المثال (1) قصيدة (الناطور)- مجموعة [حانة القرد المفكر].. النص...
يجلس تحت غصون التينة
ملتفا بغمامته
مختصرا من قامته
وهو يلفّ التبغ الهولنديّ...
ويختلس النظرات
إلى آخر ما يسّاقط من أوراق التين
.......
.......
.......
سوف يجيء مساء آخر
فيعود إلى غرفته
ويرتب من وضع حشيته
ولسوف يرى إذ يغمض عينيه
ملائكة بملابس بحارة
ونساء في لوحة خمارة
ورجالاً يمضون إلى الجنة بالأغلال.
.......
.......
.......
أحيانا يتساءل:
ما معنى أن يجلس تحت غصون التين
وأيلول أتى
والتينة ليس بها حبّة تين؟
(عمان- 1996)
في هذه القصيدة ثلاثة رموز، أثنان منها داخل النص وهما [بوذا، شجرة التين] والرمز الثالث خارج القصيدة، وهو شخص الشاعر. سعدي هنا يقدم صورة عصرية لشخصية بوذا [480- 556 ق.م.] الأمير الثري الذي اعتزل الخلق (متوحدا) تحت شجرة تين لا يبرحها. ولفهم القصيدة نحتاج فهم الرمزين [بوذا، التينة]، - طبعا، كل شخص سيفهمها بحسب قدرته-، ثم يلزم فهم الرمز الثالث –الحاضر الغائب- من النص وهو شخص الشاعر. لكي نفهم الشاعر يلزمنا العودة إلى نص شعري آخر، على شديد الصلة والتماس مع هذا النص. وهو قصيدة (هدوء) من نفس المجموعة/ نفس العام.. وهذا هو النص...
إهدأ الآنَ
إهدأ ولو ساعة
واترك للشرايين عاداتها...
أنت أرهقتها،
وهي لا تحتمل...
أرهقتها
فاهدأ الآنَ
مسّدْ غضون الجبين التي ارتسمت منذ عشرين عاما
و لا تلتبس في سؤال
ولا تلتمس جلنارا بوادي الرّمال
أنت لن تبرأ الكون من طين كفيك
لن ترسم النجم أحمر فوق البيارق
لن تغتذي بالرحيق...
.......
.......
.......
اتئدْ
واهدأ الآنَ
وانظر إلى مطر الياسمينة أبيض
انظر إلى الظلّ
قبل فوات الأوان.
(عمان- 1996)
قصيدة (الهدوء) تصف معاناة مرضية جسدية لشخص في الستين من عمره، مغترب، مهاجر، وحيد، خارج وطنه وبيته وليس بين عائلته وأهله. في هذه القصيدة يتحدث الشاعر مع نفسه، و(الهدوء) - فعل أمر- يوجهه لنفسه، كأنه – شخص آخر- فهو لا يحتمل الآلام، النفسية والجسدية، ويأمر نفسه ب(الهدوء) حيث يكرر الأمر.. أهدأ الآن.. أهدأ الآن!..
ثيمة الهدوء ترد كذلك في قصيدة أخرى من ديوان [حانة القرد المفكر] الذي يؤرخ لمرحلة عمان/ العام 1996 وهي قصيدة (في بلدة ثانوية).. يرد فيها...
الحياة
الهادئة هنا، مثل حجر
الممتلئة مثل حجر
هذه الحياة...
لماذا نتشبث بها
إن كان امتلاؤها عصياً،
وكان الهدوء، هو، المتاح، حسبُ؟.
فالهدوء= كناية عن المرض وطريقة للهروب منه. ولفهم ثيمة الهدوء(هروب) هنا يمكن العودة للطاهر بن جلون في [تلك العتمة الباهرة].. حيث يعمد البطل عبر تمرين (يوغي) لنقل أحاسيسه نحو الداخل والحياة داخل عقله، لتعطيل علاقته بالعالم الخارجي الموضوع فيه [سجن معتم تحت الأرض]، مما يتيح له البقاء حيا حتى مغادرته السجن بينما يموت أكثر زملائه. هذا التمرين اليوغي هو "حالة من حالات الفكر تؤدي بمن يمارسها الى الانعتاق من التوتر الدائم المفروض عليه من حياته العملية اليومية (حيث أن) الانسان الذي تعمل قشرة دماغه عملا نظاميا، يستطيع وقف أعظم الآم في أدنى نشاط ممكن لدماغه"/ [اليوغا سيطرة على النفس والجسد للمستشرق ج. توندريو والعالم النفسي ب. رئال- ترجمة الياس يعقوب العبدلي/ بيروت- دار المعارف ص9، 22]. وهناك قصائد كثيرة في دواوين الشاعر الأخيرة تتناول الألم والمرض والوحدة وعوارضها.
أما شجرة التين = فهي كناية عن اللعنة حسب مصدرها الانجيلي: (وفي صباح اليوم التالي ، وهو راجع إلى المدينة، جاعَ. وإذ رأى شجرة تين على جانب الطريق اتجه إليها، ولكنه لم يجد عليها إلا الورق، فقال لها: لا يكن منك ثمر بعد إلى الأبد!. فيبست التينة في الحال.) (متى 21: 18- 20). فرمز التينة أنها مغرية ولكنها عدية الثمر، مورثة للألم. وجلوس بوذا تحتها –بحسب القصيدة- يمثل وجود الانسان تحت اللعنة = (لا جدوى الحياة).
هذه اللعنة التي لا تبدو بعيدة أو منقطعة عن دلالتها التاريخية في حياة بوذا الذي تجمعه بيسوع ووصاياه تناصات أثيرة. إلى جانب اعتبارها رمزا للعهد القديم في المنظور اللاهوتي المسيحي، مقابل الكرمة رمز العهد الجديد. فجلوس بوذا (تحت التين وأوراقه المتساقطة) دالة للقنوط واليأس، كما يعود الشاعر ليكشفه لاحقا.. [ما معنى أن يجلس تحت غصون التين وأيلول أتى، والتينة ليس بها حبّة تين!]. الشاعر هنا يخرج (بوذا) من إطار بوذيّته، ويمنحه – إذا صحّ القول- صورة بشريّة عادية (شخصنة)؛ فهو يأكل ويدخّن ويفكر بالنساء، مما ينزل به عن صورته التأمّلية الروحيّة التي هي عماد التصوّف. لكن الشاعر من خلال ذلك يعمل على التقريب بين الشاعر والمتصوف، لكي يجتمعا على طاولة واحدة أو ربما نقطة واحدة.
نبي يقاسمني شقتي
يسكن الغرفة المستطيلة
وكل صباح يشاركني قهوتي والحليب وسر الليالي الطويلة
قصيدة (الأخضر بن يوسف ومشاغله)
وهناك مجال واسع للاستطراد في هذا المجال، مما لا يدخل في منهج هذه الدراسة، لذا أكتفي بالايجاز الشديد، للقول، أن الشاعر هنا يماهي بين حالة الوحدة والألم وشعور العبث السارتري التي تحاصره في منفاه، وبين صورة بوذا الذي نقل الألم الفكري والجسدي إلى مستوى روحي ذهني للانتصار على العالم، وهي صورة قريبة من احتمال يسوع للآلام.
تعبتُ منها ؛
من متاهتِها : الـمُطارِدِ والـمُطارَدِ ...
بل تعبتُ من الكلامِ
من المجاملة التي تَزِنُ الحروفَ كأنّها ذهبٌ !
ومن سفَري تعبتُ
من المساءِ تعبتُ
من نفسي تعبْتُ !
لندن 25.08.2012
(يتبع رجاء..)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكينج والهضبة والقيصر أبرز نجوم الغناء.. 8 أسابيع من البهجة


.. بهذه الرقصة المميزة والأغنية المؤثرة... مسرح الزمن الجميل يس




.. المخرج عادل عوض يكشف كواليس زفاف ابنته جميلة عوض: اتفاجئت بع


.. غوغل تضيف اللغة الأمازيغية لخدمة الترجمة




.. تفاصيل ومواعيد حفلات مهرجان العلمين .. منير وكايروكي وعمر خي