الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منزلنا الريفي (29)

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2014 / 1 / 2
الادب والفن



في ذكرى رحيل المثقف " بيكل " ....

فوق الجسر الرابض على ضفتي وادي نهر النفيفيخ، يقف شاب فارع الطول متأملا، وبيديه الصلبتين يمسك بالسياج الحديدي الذي يتخالط بين اللون الأحمر والأبيض، كان ذلك الشاب هو " بيكل " .
كان شخصا نحيفا، لكنه كان رزينا وهادئا شأنه في ذلك شأن من يملك السدادة الفكرية، كان لديه أفق بعيد، ولم يكن يفكر بمثل الطريقة التي يفكر بها القرويون .
لقد كان يقف على الدوام فوق القنطرة، وفي يده اليمنى سيجارة، وبين مصة وأخرى كان ينفذ إلى أورغازم الوجود، إنه يتعالى على شروط الوجود الكرزازي، أما نظرته إلى خرير المياه، فكانت تدفعه دفعة إلى عمق النظام الذي يسري في الطبيعة . كان الوادي هو مدرسته، لقد تعلم فيه فن السباحة، وروح المغامرة، وقوة الشجاعة ؛ تردد على مدرسته القروية، ثم أخفق في مدرسة المدينة، لكن لم يخرج خالي الوفاض، بل كان فاهما للقولبات والتجاذبات التي تحكم السياسة في هذا البلد، كان يعجبه الحديث في أمور السياسة ؛ أكان ذلك قرب الحانوت، أو جانب المقبرة، أو على ضفتي الوادي، مافتئ ينتقد مافيات الانتخابات، ناهيك عن التهميش التنموي، والتمايز بين المدينة والقرية .
********************
لم يستفد " بيكل " من دروس في الرفاقية، لكنه كان رفاقيا حتى النخاع، صحيح أنه لم تتبلور رفاقية قروية بعد، لكنه كان يحب القرويين، ويكن لهم الاحترام، ناهيك عن نقد أوضاعهم، لكن الملفت في فكر " بيكل " هو تعاطفه مع التلاميذ القرويين، لأنه كان يؤمن بالعلم، فهذا الأخير هو الذي يقود الإنسان نحو درب الحقيقة، فعوض أن يظل القرويون بيادقا في يد الآخرين، عليهم أن ينتفضوا ضد بؤسهم، وهذه الانتفاضة لا تكون إلا بالعقل، فالعقل يحمل في طياته ملكة التمييز والوضوح والحكم، والعلية، فبتوظيف هذه الملكات يفهم الإنسان لماذا هو مغبون ومستلب ومستبلد وساذج ؟ لماذا لا يفكر هو عوض أن يفكر الآخرون محله ؟ إن هذا السؤال كان منهجسا به " بيكل "، لهذا فهو يستحق الذكرى، صحيح أنه رحل، ولكن ما أحوجنا إليه باعتبارنا فاتحين أفقا جديدا للقرية المغربية، وأن نبث الحياة في هؤلاء الذين آمنوا بتغيير أوضاع القرية المغربية، ولاسيما في أوساط متكلسة ومفقرة وعيا وثقافة، فعلى الأقل نلتقط إشارات لنبين أن الإنسان حتى وإن فقر وغبن واستبلد، فإنه تواق إلى التغيير، وما شخصية " بيكل " سوى مثال ساطع للنقد القروي .
*******************
ذات صباح، وبينما هو متوجه نحو عمله في ورشات البناء، كان الظلام حالكا، وكان البرد قارسا، غادر " بيكل " منزله، ابتسم في وجه ابنته الصغرى، لكن لم يعرف أن هذه هي آخر ابتسامة سيطلقها نحوها، ودعها، وانطلق هائما في الطريق من أجل لقمة الخبز.
أخذ دراجته المهترئة، مسك بها من المقود، ذهب بعيدا في الطريق مفكرا في شقاوة الحياة، الريف كالصحراء والعمل في المدينة كمن يحترق بالنار .
سيارة تذهب، وسيارة تجيء، قرب القارعة تتفرس دماء مهروقة، وبين الأحراش المنبطحة جثة لفظت أنفاسها، ومن حولها تجلس فتاة تذرف أنهارا من الدموع، أما القرية فتكلست كالأرض الجذباء، لقد مات إنسان، مات الفعل والمشروع، وتلاشت إرادة، وتشظى حلم .

********************
هو رحيل، لكنه حضور، فليس بالضرورة من يرحل يغيب، فلابد من الحضور، ويتم ذلك عن طريق الاستذكار، فالذاكرة تشتغل، والكتابة هي أداة لرفع المطمور، وإحياء الميت، ونظرة نحو المستقبل، وتغور في الماضي، إنها المرونة بعينها، لرفع اللبس، والبحث عن جذور من يحمل الهم التغييري .
********************
أصل كلمة " بيكل " فرنسي، والمقصود بها الأحول، وتعني الذي لا يرى جيدا، ولكنه في حقيقة الأمر هو من يرى، فالعين السليمة ترى بطريقة معكوسة، وبالتالي هذا اللقب في محله كونه يعبر عن نظرة ثاقبة لدى صاحبه، فهو دائما كان يتوق نحو النقد من أجل التغيير، لكن المدينة خيبت تطلعه ومشروعه، وما علينا نحو كشباب قروي إلا أن نسير على هداه .

عبد الله عنتار – الإنسان/ 31 دجنبر 2013 / بنسليمان – المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان وهران للفيلم العربي يكرم المخرج الحاصل على الأوسكار ك


.. محمود حميدة يحمل الوهر الذهبي من مهرجان وهران للفيلم العربي




.. تفاصيل أول زيارة لمصر من الفنان العالمي كامل الباشا?? #معكم_


.. خطبة باللغة العربية.. ما الرسائل التي أراد المرشد الإيراني إ




.. تاريخ كبير للفنان الفلسطيني???? كامل الباشا ?? #معكم_منى_الش