الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (10)

وديع العبيدي

2014 / 1 / 2
الادب والفن


وديع العبيدي
احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (10)
ثانيا: رموز مسيحية..
حضور الرموز المسيحية في شعر سعدي لا يخرج عن أمرين: علاقته المباشرة بالناس والفلكلور، وحضور راهنية اللحظة في منطلق قصيدته. وراهنية اللحظة هي راهنية جغرافية تصل بمقام مغتربه الأوربي. هذا المغترب الأوربي عند العربي المقيم المنقطع اليه، ليس غير غربة واغتراب، ووحشة وافتقاد، حياة داخلية أكثر منه حياة خارجية. المغترب الأوربي أو الأجنبي لغير أبنائها هي حياة (غيتوات)، أي اجتماع أبناء الجاليات مع بعضهم. ولكن إذا افتقدت تلك الرابطة –كما في الحالة العراقية-، يعاني الأفراد من متاعب الوحدة والغربة واعتلاج الأشواق المستحيلة.
وشعر سعدي الأوربي يقدم أفضل تمثيل للغربة والوحدة وآلامها وهلاوسها والتحفز الدائم للذاكرة وحضور الماضي في الراهن. الشاعر لا يعيش الراهن إلا في صورة الماضي. الذكرى تؤطر يومياته. وكلّ مادة أو إشارة راهنية تحيل على مقارَب ماضوي. من هذا الباب يشتد استحضار الشاعر للفلكلور، لطفولته وعائلته وكلّ ما يمكن استنقاذه واستحياؤه مجددا ليشرق في لبوس الراهن الحيّ. وتقدم قصيدة (تنويع على " ما مقامي بأرض نخلةَ " للمتنبي) فكرة عن منظور علاقته بالمرموز (المسيح)..
مثال (1): المسيح والناس..
ما مقامي بريفِ لندنَ إلاّ كمقامِ المسيحِ بينَ اليهودِ ،
الليلُ أعمى ، والهاتفُ الأسوَدُ ملقىً ، هامدٌ في بُحيرةٍ من همودٍ
ليس من زائرٍ . تلَبَّثَ حتى الطيرُ . أمّا أبناءُ جِلْدي العراقيّونَ ... لا تنْكأ الفضيحةَ و القيحَ ! رذاذٌ على النوافذِ . ريحٌ لا أُحِسُّــها دخلتْ بين قميصي والجِـلْدِ . ماذا سوف ألقى إنْ عشتُ عاماً آخرَ ؟
الهاتفُ ملقى .
والموتُ دونَ شهودِ ...
خَــلِّها ،
خَــلِّها تمرُّ
سأبقى ، الفرْدَ ، سيفاً
لم يذهب الناسُ الأُلى قد حـبَـبْــتُهمْ .
إنهم في كلِّ غصْنٍ خَضــدْتُــهُ
إنهم في كلِ كأسٍ شربتُها
كلِ رقصي
من ركعةٍ وســجودِ .
................
................
................
ما مقامي بريفِ لندنَ إلاّ كمقامِ المسيحِ بينَ اليهودِ
لستُ ألقى سوى العجائزِ
بُرْصاً
والمريضاتِ
من ليالي الجنودِ .
*
ما مقامي بريف ِلندنَ إلاّ كمقامِ المسيحِ بين اليهودِ .
(تنويع على " ما مقامي بأرض نخلةَ " للمتنبي) / لندن 04.03.2012
التمعن في هذه القصيدة يكتشف أمرين: الأول أن القصيدة ليس لها علاقة مباشرة بالمسيح، بقدر ما هي محاولة محاكاة نص تراثي شائع؛ والثاني أن النص لا يتحدث عن المتنبي وانما يستعير قصيدته مدخلا للتعبير عن حالته الخاصة في مقام الغربة.
على عكس (البياض) في الحالة الصوفية (بوذا) يهيمن اللون الأسود في هذه القصيدة [الليلُ أعمى ، والهاتفُ الأسوَدُ ملقىً ، والموتُ دونَ شهودِ ...] أما البياض فيأخذ صورة (البرص/ المرض). فالتشاؤم هنا في ذروته بسبب الوضع النفسي، ما ينعكس على نظرته للعام الجديد [ماذا سوف ألقى إنْ عشتُ عاماً آخرَ ؟].. فدالة المسيح هنا تحيل على التشاؤم بسبب قرفه من العزلة. هذه النتيجة تتأكد في نص آخر أيضا مما يتصل برموزية المسيح ..
مثال (2): مريم والمسيح..
ويقولُ بدْرٌ :
مريمُ العذراءُ ...
" تاجُ وليدِكِ الأنوارُ لا الذهبُ "
ولكني هنا ، في لندن الكبرى
مع المذياع والـمِـشوافِ ، يا بدرُ العزيزُ
يَـؤودُني الذهبُ ؛
لا مريمُ العذراءُ تحت النخلةِ الفَرعاءِ
لا الطفلُ الإلهيُّ ...
المدينةُ ، سيّدي ، عطَبُ .
عذارى !
ربما ، من بعدِ عشرينَ افتراشاً !
أيَّ طفلٍ نحنُ ننتظرُ ؟
المسيحُ مضى ، كما تمضي الأغاني دائماً ...
صلَبوهُ
أو قالوا لنا : اخترَعوهُ من بُرْديّةٍ ...
والآنَ
في الميلاد
عند عشيّة الميلادِ
تنفتحُ المخازنُ :
ليلُنا ذهبُ !
.................
.................
.................
سلاماً ، بدرُ
وحدَكَ قلتَ :
" تاجُ وليدِكِ الأنوارُ لا الذهبُ "
قصيدة (عشيّةُ الميلاد) / لندن 22.12.2012
ميزة هذه القصيدة أنها (نص مقارَن) يضعه الشاعر قبالة نص لشاعر آخر هو بدر شاكر السياب. ويمكن القول ان كلا النصين –مما يتصل بمرموزية المسيح- هما من النصوص المقارَنة، سواء كانت المقارَنة موجبة كما في [تنويع على أرض نخلة] = نص على نص، = (محاكاة)؛ أو كانت المقارنة سلبية نقضية كما في [عشية الميلاد] = نص تعارضي = نص مقابل نص.
لكن لماذا اختص الشاعر مرموزية المسيح بهذه السلبية والتشاؤم، وهي غير مألوفة بالقياس لصورة المسيح المتصلة بالإلفة والمحبة والسلام الداخلي؟.
الجواب.. انه حاول استعارة رمز يسقط عليه حالته الشخصية، فهو هنا يتحدث عن نفسه اكثر مما يتحدث عن المسيح. فالشاعر –وكما سلف القول-، لا يركز على الموضوع [object] في تعامله معه، وانما يؤكد على علاقته به، وطبيعي أن تشتق العلاقة سماتها من المصدر [factor] الذي هو الشاعر، منشئ القصيدة. وبالنتيجة فأن كلّ من سعدي وبدر يلتقيان في طريقة معالجتهما لرمز المسيح في شعرهما، أي اخضاعه للحالة الشخصية للشاعر واستنطاق الرمز بما يستجيب لحاجة الشاعر، وهو ما سبق للناقد احسان عباس تشخيصه في دراسته لشعر السياب. والملاحظة الثانية التي وصف بها الناقد عباس معالجة السياب للمسيح، تكاد تنطبق أيضا على الشاعر سعدي، وهي اعتماده مصادر غير مسيحية (الانجيل) في التعامل مع الموضوع. مما يؤكد قوة الثقافة الشفاهية (الشعبية) في التعامل مع كثير من الرموز الشعبية الشائعة، حتى من قبل الأدباء والمثقفين المعروفين كالسياب وسعدي والبياتي. وتتأكد المرجعية الشفاهية لسعدي بقوله [لا مريمُ العذراءُ تحت النخلةِ الفَرعاءِ ، أو قالوا لنا : اخترَعوهُ من بُرْديّةٍ ...]. بل يكاد يكذب الأمر جملة: [لا مريمُ العذراءُ تحت النخلةِ الفَرعاءِ/ لا الطفلُ الإلهيُّ . المدينةُ ، سيّدي ، عطَبُ ./ عذارى !/ ربما ، من بعدِ عشرينَ افتراشاً !/ أيَّ طفلٍ نحنُ ننتظرُ ؟/ المسيحُ مضى ، كما تمضي الأغاني دائماً ... ].
وبينما كان طموح الشاعر الحصول على تعزية من خلال رمز المسيح، يعمل على تحطيم الرمز، وتحويل سياق الاستعارة، إلى مجال جدل فكري مع نص عمره ستة عقود لشاعر مضى قرابة نصف قرن على وفاته [1964- 2012]. علما ان السياب لم يكتب نصا للجدل ولم يخص به شخصا محددا. ربما لم تظهر صورة الجدل والمناكدة في نص المحاكاة [مع المتنبي(915- 965م)]، كما يظهر في نص معارض [مع السيّاب (1926- 1964)].
يعتبر بدر شاكر السياب وسعدي يوسف، أكثر الشعراء العرب المعاصرين اهتماما وشغفا بالرموز والأفكار المسيحية، مع الأخذ بنظر الاعتبار شسع المسافة الزمنية في علاقتهما بتلك الرموز والتي تصل إلى نصف قرن. وبحسب الباحثة الايرانية فاطمة فائزي، فأن السيّاب منذ عام 1953 يكتب قصائد [ممهورة بهذا الطابع «المسيحي»]. وينسب الدكتور يوسف عزالدين [1920- 2013م] كثرة الرموز المسيحية في شعر السيّاب إلى تأثره (العاطفي) بالشاعرة الانجليزية أديث ستويل [1892- 1969م] وما يتردد في شعرها من رموز المسيح والصليب، فوظفها في شعره وتميز بها. و وكان الأديب جبرا ابراهيم جبرا [1920- 1994م] يعير السيّاب ما يصله ويتوفر عليه من كتب الشعر الانجليزي.
فيما يعود ظهور تلك الرموز في قصائد سعدي يوسف إلى شعره المتأخر، والمقترن بإقامته في الغرب [منذ 1999]. وبينما تنسحب حالة المعاناة والألم الشخصية لدى الشاعرين على تعاملهما مع رموزهما الشعرية، فأن فلسفة التعامل مع الرمز مختلفة بين الأثنين. ان هذه المقارنة بين الأثنين، تقتضي الاشارة إلى جملة المتلازمات المشتركة بين الأثنين وهي في العموم..
وحدة مسقط الرأس ومواطن الطفولة في أبي الخصيب من محافظة البصرة. كلاهما من عوائل فلاحية، وتأثرا بالأفكار الشيوعية في وقت مبكر. السياب يكبر سعدي بثمانية أعوام، وهذا يشير الى اشتراكهما في فترة الشباب في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات. كلا الشاعرين لم ينشرا سيرهما الذاتية، مما يضيع كثيرا من الخيوط والمعلومات المشتركة مما يدعم واقع البحث الأدبي. يقول الشاعر سعدي يوسف أنه زار بدرا في فترة مرضه الأخير، وأن بدرا كان يطلعه على قصائده الجديدة ويأتمنه عليها قبل أن تنشر. ولكن سعدي كان في الجزائر في عام 1964، والذي توفي فيه السيّاب.
توفي الشاعر السيّاب عن ثمانية وثلاثين عاما، وعن أربعة مجاميع شعرية. والسيّاب الشيوعي، مثله مثل سعدي ومحمود درويش [1942- 2008] وخليل حاوي [1919- 1982] وغيرهم، انتكس في سنواته الأخيرة، وعانى من حروب الرفاق القدماء ومن خصائص الخذلان والعزلة والموت وحيدا وغريبا. فهذه الأمة لا تترك عظماءها يموتون قبل ان تنال منهم، بل تدفعهم للموت دفعا.. وليست هذه خصيصة أو نظرية جديدة، وانما تعود بجذورها إلى امرئ القيس والمتنبي والحرب مستمرة.
ان الظروف المتشابهة والأقدار المستنسخة تدفع الشعراء للتماهي في بعضهم، واستعادة (- استعارة) محطاتهم ومعالجاتهم، وكأنهم يشتركون في حياة وتجربة واحدة. والشاعر سعدي هنا، يستعيد السياب في استعاراته المسيحية، كما في غيرها من مظاهر فلكلور الطفولة مثل (اهزوجة بنات الجلبي) المشهورة لدى السياب. ويبقى السؤال: هل كان رمز المسيح ضحية خلاف الشاعرين؟.. هل ثمة خلاف حقا، مباشر أو غير مباشر بينهما؟.. لقد مضى السياب قبل ستة عقود، دون أن يصدر قرار غفرانه من قادة الكليروس الشيوعي العراقي حتى اليوم. رغم أن الفاتيكان غفرت للكثيرين مما تمردوا عليها وخرجوا عنها، ومنحت بعض ضحاياها درجات النعمة والقداسة (saint). وليس حال الشيوعي الأخير بأفضل كثيرا من مواطنه القديم!..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -شد طلوع-... لوحة راقصة تعيدنا إلى الزمن الجميل والذكريات مع


.. بعثة الاتحاد الأوروبي بالجزائر تنظم مهرجانا دوليا للموسيقى ت




.. الكاتب في التاريخ نايف الجعويني يوضح أسباب اختلاف الروايات ا


.. محامية ومحبة للثقافة والدين.. زوجة ستارمر تخرج للضوء بعد انت




.. الكينج والهضبة والقيصر أبرز نجوم الغناء.. 8 أسابيع من البهجة