الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقدس في الصحافة المستقلة بين تجربة حكومتي عبد الرحمان اليوسفي وإدريس جطو

مصطفى عنترة

2005 / 6 / 17
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


لماذا ينزعج النظام السياسي من وجود صحافة مستقلة وحرة؟
وما هي العوامل التي جعلت الإعلام الحر يتحول إلى فاعل أساسي في المرحلة الراهنة؟ وماذا نعني بالمقدسات؟ وما هي طبيعة التحول الذي عرفته الصحافة الحرة في ظل تجربة حكومتي الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي والتقنوقراطي إدريس جطو ؟ وما هو آفاق الهجوم الذي تشهده هذه الصحافة من قبل السلطات؟ هذه الأسئلة وغيرها تشكل المحاور الأساسية لهذه الورقة.

يتصدر الاهتمام بالصحافة الحرة واجهة الأحداث السياسية ببلادنا وذلك بسبب "احتضانها" للنقاش السياسي حول بعض القضايا المجتمعية المرتبطة أساسا بالمرحلة الانتقالية التي يمر منها "مغرب محمد السادس".
ويختلف هذا الاهتمام بين من يرى فيه تدعيما لمناخ الانفتاح السياسي والدمقرطة مؤكدا على دور الإعلام الحر في هذا السياق، وداعيا إلى مأسسة هذا التحول في اتجاه الانتقال إلى مرحلة متقدمة، ومن يرى فيه تجاوزا للخطوط المرسومة وبالتالي نوعا من التشويش على الاختيارات السياسية المرسومة، حيث يؤكد دعاة هذا الاتجاه على ضرورة التصدي لكل الخطوات التي تسير على هذا النحو.

ـ التقـــدم:
إن الموقع المتقدم للصحافة الحرة جاء نتيجة عوامل تداخل فيها الذاتي بالموضوعي والمحلي بالدولي، فهذا الوضع جعلها تتحول إلى موضوع اهتمام لدى مختلف الفاعلين كل حسب موقعه ومصالحه.. فما هي العوامل التي جعلت الإعلام الحر يتحول إلى فاعل أساسي في المرحلة الراهنة؟
ـ عجز الإعلام الحزبي على مواكبة التحولات السياسية النوعية التي عرفها المغرب منذ أواسط عقد التسعينات من القرن الماضي، فبالرغم من الدعم المالي الهام الذي استفادت منه الأحزاب السياسية من طرف الدولة لتمويل إعلامها، لم تنجح في خلق إعلام قوي.
ـ الفراغ السياسي القاتل الذي تشكو منه الساحة السياسية نتيجة تقاعس الأحزاب السياسية عن أداء وظائفها الطبيعية، فهذا الوضع ساهمت في خلقه تصورات بعض المهندسين الجدد للنظام السياسي الذي اعتقدوا أن التحول الديمقراطي بالمغرب يمكن أن ينجح في غياب دور فاعل وفعال للأحزاب، هذا فضلا عن انتهازية بعض النخب الحزبية التي استفادت من انفتاح مؤسسات الدولة عليها..
ـ ضعف المعارضة المؤسساتية من حيث كونها لا تتوفر على آليات حقيقية لممارسة المعارضة، إضافة إلى وجوهها التي تفتقد لثقافة المعارضة.. فانتقال أحزاب المعارضة السابقة إلى موقع تدبير الشأن الحكومي أحدث خللا داخل الحقل السياسي، جعل الإعلام الحر يقوم ببعض من وظائف هذه المعارضة..
والأكثر من هذا وذاك أن بعض المنابر الحرة لقيت دعما متنوعا من قبل المهندسين الجدد للنظام السياسي، والكل يتذكر انخراطها الفاعل في بعض القضايا التي ميزت مرحلة الاستخلاف..، مما جعلها تعتبر نفسها معنية أكثر من غيرها بهذا التحول السياسي الهام وكذا الحفاظ على المكتسبات النوعية التي أضحت تتمتع بها.. الشيء الذي يجعل اليوم إبعادها عن المشهد السياسي غير مستساغ.. فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الباب لماذا ينزعج النظام السياسي من وجود صحافة مستقل وحرة؟

ـ التحـول:
لقد استطاعت الصحافة المستقلة أن تتحول، كما أشرنا إلى "فاعل سياسي"، برز ذلك من خلال وظائفها المتعددة، فهي تنتقد، توجه، تنبش في بعض الملفات الشائكة، تقترح.. ويمكن اختزال هذه الوظائف في ما يلي:
ـ تعبئة الرأي العام حول قضايا مجتمعية كبرى تهم مسلسل الدمقرطة،
ـ توجيه الرأي العام الوطني والتواصل مع الخارج على اعتبار أنها تحولت إلى مرجع أساسي للمنظمات الدولية المهتمة بالشأن المغربي.
ـ مجال لضبط القوى غير المهيكلة أو القوى التي تنشط خارج الحقل السياسي الرسمي.
ـ لعب دور المعارضة، إذ نجدها تنتقد جميع الفاعلين بمن فيهم المؤسسة الملكية، الفاعل المركزي داخل النسق السياسي، بخلفية تطويرها وتحديثها على اعتبار أن الملكية هي المؤسسة الوحيدة التي من شأنها قيادة مسلسل وضع البلاد على سكة الانتقال الديمقراطي، وقد شجعها على ذلك المبادرات الإيجابية التي قام بها الملك محمد السادس منذ توليه عرش المملكة وتجسدت في عدة قرارات، أكثر من ذلك أن الملك سبق أن دعا الأحزاب السياسية من داخل قبة البرلمان إلى تنظيم بيوتها الداخلية ودمقرطة حياتها الحزبية، فكان الجواب على هذه الدعوة، أن طالب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الملك في افتتاحية له بإصلاح دستوري نشرت على صفحات لسان حاله بعيد الدعوة الملكية!؟
نعتقد أن الفراغ السياسي الذي عرفته الساحة السياسية منذ أواسط التسعينات من القرن الماضي، جعل من وجود الصحافة المستقلة ضرورة بل حاجة ملحة أملتها العوامل المشار إليها، لكن هناك من يرى أن هذا المولود الجديد لم يصل بعد إلى مستوى متقدم من النضج، حيث مازال "يشاغب" خاصة عندما يثير مجموعة من القضايا التي كانت تدخل في السابق في عداد المسكوت عنه أو المحرمات أو الطابوهات وما شابه ذلك من المصطلحات التي يعج بها قاموسنا السياسي.. فالمنطق السياسي يستدعي التمييز بين الصحافتين، فالأولى تربت في أحضان الأحزاب السياسية، تعكس الثقافة السائدة لدى نخبه في علاقتها بالحكم وبالقاعدة.. أما الثانية فنجدها قد تربت في جو الانفتاح والمسؤولية الرافض لثقافة المقدسات وكذا ما يسمى بـ "الخطوط الحمراء"..


ـ الاختـلاف:
تميزت تجربة حكومة التناوب التوافقي بقيادة الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي باهتمام الصحافة المستقلة بالرموز الحزبية على وجه التحديد، وقد تعرضت الأحزاب السياسية بمختلف ألوان الطيف لانتقادات لاذعة من قبل بعض المنابر الحرة، لم تستطع هذه الأحزاب قبولها لاعتبارات متعددة منها طبيعة تربية النخب الحزبية المبنية على قيم وأفكار تؤمن بشرعية الوجود لاعتبارات تاريخية وتقدمية التوجه، وطهارة السلوك السياسي، وبعد النظر.. فالصحافة الحرة اجتهدت في الكشف عن نواقصها وفضح انتهازيتها والوقوف عند ثقافتها الرجعية ومؤامراتها بل وتواطئها غير المعلن في غالب الأحيان.. لدرجة أن بعض القادة الحزبيين كانوا يطرقون أبواب بعض الماسكين بزمام الأمور داخل البلاد لحمايتهم من انتقادات هذه الصحافة، والأمثلة في هذا الباب عديدة.
فتجربة حكومة عبد الرحمان اليوسفي تميزت كما أشرنا بهجوم الصحافة الحرة على الرموز الحزبية، والكل يتذكر الرسالة الشهيرة للفقيه البصري المنشورة على صفحات أسبوعية "لوجورنال"، وهي الوثيقة التي تفضح بالملموس الثقافة المؤامراتية لبعض قادة الحركة الوطنية مع المحاولة الانقلابية ضد الراحل الحسن الثاني، إلا أن رد فعل رفاق اليوسفي آنذاك كان عنيفا، حيث اعتبروا هذا الأمر بمثابة مساس بالمقدسات وتم استغلال الإعلام العمومي لتمرير هذه الرسالة التي توجت بتوقيف ثلاثة منابر إعلامية كرقم قياسي في تاريخ الصحافة المغربية.
وقد تم توقيف الصحف الثلاث في غياب مساندة باقي الأحزاب السياسية باستثناء طبعا تلك المتواجدة على يسار الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وبعض المنظمات الحقوقية..
أما مع تجربة حكومة التقنوقراطي إدريس جطو، فقد اختلف الأمر حيث يلاحظ المتتبع السياسي تحويل اتجاه اهتمام الصحافة المستقلة من الرموز الحزبية إلى رموز الحكم. وهكذا تم النبش في ملفات من قبيل: الفساد داخل المؤسسة العسكرية، ثروة المـلك، المحيط الملكي والمستشارين على وجه التحديد، الأمير مولاي هشام، الأجهزة الأمنية، الفساد داخل المؤسسات العمومية، القـضاء، الوثيقة الدستورية، نهب المال العام، المخدرات والتهريب، إمارة المؤمنين واللائكية، قنوات اتخاذ القرار السياسي...إلخ وهي قضايا ألف الإعلام الخارجي وحده تناولها، بل والأخطر من ذلك أن هذا الإعلام وخاصة الفرنسي منه على وجه الخصوص يتطرق إليها بخلفية تصفية الحسابات والابتزاز في بعض الأحيان خلافا للإعلام الحر الوطني الذي تسكنه هموم الدمقرطة.
وأمام هذا التحول الذي شهدته الصحافة المستقلة ببلادنا، برز توجهان داخل الحكم، الأول يرى ضرورة تأطير هذا التحول من خلال قوانين ومؤسسات تساعد المغرب على تسريع وتيرة الدمقرطة باعتبارها الإطار الأنجع لمصالحة الأوضاع المتدهورة، ويؤكد هذا الاتجاه على حساسية المرحلة التي تستوجب التعامل معها بعقلية جديدة مع الحرص على جعل المرجعية القانونية هي الإطار الأساسي للتعامل مع كافة الفاعلين.. وهذا الاتجاه ما فتئ يسجل تراجعا ملحوظا كلما شهدت الساحة السياسية الإعلامية أحداثا معينة كنشر وثيقة الفقيه البصري..
أما الاتجاه الثاني فنجده متشبعا حتى النخاع بالمقاربة الأمنية في التعامل مع القضايا المجتمعية، همه الأساسي هو تحجيم قوة الفاعلين الديمقراطيين بدءا من الإعلام الحر إلى الهيئات الحقوقية، يجتهد بكل الوسائل للتحكم في توجيه هذه المرحلة وفق تصوراته ومصالحه الجوهرية والدائمة، ومازلنا نتذكر رد الفعل العنيف الذي قوبلت به مبادرة نشر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان للائحة سوداء تضمنت مجموعة من الأسماء المتورطة في جرائم الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والتي مازال منها من يتربع على مسؤوليات حساسة داخل مؤسسات الدولة. فأبطال هذا الاتجاه داخل الحكم ينتعشون سياسيا كلما عرفت الساحة الوطنية أحداثا معينة.. فهم يحاولون تهويل بعض الوقائع وتضخيم الأحداث والضغط على الحكم على مستويات متعددة وبأشكال مختلفة في اتجاه تشديد الخناق على الفاعلين في المرحلة الانتقالية الراهنة.

ـ العـودة:
نعتقد أن متاعب السلطة أصبحت تنحصر في جزء منها في الإعلام الحر، وهذا ما يفسر الموقع الذي أصبح يحتله بعض الإعلاميين في الداخل والخارج ويتأكد أكثر في الدعم والمساندة الذي يلقونه عندما يصطدمون بالإدارة.
ومن المؤكد أن المبادرات الأخيرة للسلطة اتجاه الإعلام الحر، تسعى إلى توجيه مجموعة من الرسائل والإشارات:
ـ العودة إلى ثقافة الخطوط الحمراء والتأكيد على وجود حدود للحرية بالشكل الذي تتصوره السلطة.
ـ إحلال توازن داخل الساحة الإعلامية من خلال دعم الإعلام الحزبي بغية إحيائه لمنافسة الإعلام الحر.
ـ التشديد على ضرورة المرجعية القانونية في التعامل مع القضايا المجتمعية، مع التأكيد بشكل أو بآخر على أن الانفتاح الحالي هو رغبة ملكية غير مؤطرة من قبل القانون.
ـ ضرب إعلام "السيبة" وبالمقابل تشجيع إعلام "المخزن" بمختلف مواقعه الذي بات في كل مناسبة يتعرض للإحراج لعدم قدرته على إزاحة الإعلام الحر.
مما لاشك فيه أن الهجوم الحالي على الصحافة الحرة هو وضع مؤقت، تسعى من خلاله الدولة تمرير رسائل معينة اعتبارا للأحداث الخطيرة التي عاشتها البلاد في الآونة الأخيرة كأحداث العيون والحسيمة التي مست صورة "المغرب الحقوقي"، فضلا عن التصعيد المتواصل الذي تشهده الحركات الاحتجاجية التي مست مجالات متعددة، ناهيك عن الخرجات الإعلامية لجماعة العدل والإحسان آخرها تلك الصادرة عن نجلة الشيخ عبد السلام ياسين..فهذه الأحداث يتم تأطيرها إعلاميا من قبل الصحافة المذكورة، مما يجعل السلطات تتهمها بتغذيتها لهذه الأحداث والنفخ في وقائعها كما وقع مؤخرا في أحداث العيون والحسيمة..
إن الإعلام الحر أضحى، اليوم، مؤشرا أساسيا تقيس به المؤسسات الدولية مستوى الديمقراطية إلى جانب الوثيقة الدستورية، القضاء النزيه، احترام الأقليات وتدبير التعدد الثقافي واللغوي، المجتمع المدني الفاعل والفعال..إلخ وطبيعي في مرحلة انتقالية كالتي يجتازها المغرب أن يحتوي الإعلام الحر النقاش السياسي الحالي وينبش في الملفات الحساسة ويوجه الرأي العام الوطني ويتواصل مع الخارج.. وهي أمور تبدو عادية وطبيعية بالنسبة لكل مطلع على مختلف تجارب الانتقال الديمقراطي بأوربا وأمريكا اللاتينية، أمور لا تخيف إلا من له مصالح ذاتية أو حسابات ضيقة أ و من ذوي النفوس الضعيفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكبر هيكل عظمي لديناصور في العالم معروض للبيع بمزاد علني.. ب


.. لابيد يحذر نتنياهو من -حكم بالإعدام- بحق المختطفين




.. ضغوط عربية ودولية على نتنياهو وحماس للقبول بمقترحات بايدن بش


.. أردوغان يصف نتائج هيئة الإحصاء بأنها كارثة حقيقية وتهديد وجو




.. هل بإمكان ترامب الترشح للرئاسة بعد إدانته بـ34 تهمة؟