الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشمولية في الفكر والسياسة

عبد الوهاب الشتيوي

2014 / 1 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


كان تحقيق الاستقلال الوطنيّ الهدف الأسمى للحركة الوطنيّة الشّعبيّة التي قاومت الاستعمار الغربيّ في الأقطار العربيّة، وكان بناء أسس الدّولة الوطنيّة الحديثة الهدف الأسمى بعد الاستقلال، وسيكون تكريس الدّيمقراطيّة في الدّولة والمجتمع الهدف الأسمى للثّورات العربيّة المعاصرة، ولنْ يتحقّق هذا الهدف بالنّسبة إلينا إلاّ بمقاومة كلّ أشكال الشّموليّة في الفكر والسّياسة.
ولعلّ أهمّ الأسباب التي منعت العرب من تحقيق التّقدّم المنشود، انتشار الفكر الشّموليّ على نطاق واسع في الفكر والسّياسة، والذي منع من تأسيس التّجربة الدّيمقراطيّة الحقيقيّة، والشّموليّة هي الكليانيّة التي صبغت تجارب بعض البلدان في التّاريخ الحديث، لاسيّما في ألمانيا النّازيّة، وإيطاليا الفاشيّة، وإسبانيا في عهد الجنرال "فرانكو"، وفي بعض بلدان أمريكا اللاّتينيّة، ولم تسلم الأقطار العربيّة من انتشار ظاهرة الأنظمة الشّموليّة سواءً في الأقطار ذات الأنظمة الملكيّة، أو الأقطار ذات الأنظمة الجمهوريّة.
ويكون النّظام السّياسيّ شموليًّا حين تتوفّر له خمسة أركان أساسيّة حسب "ريمون أرون"، وهي احتكار الحزب الحاكم كلّ مظاهر النّشاط السّياسيّ، وتسلّح هذا الحزب الحاكم بإيديولوجيا رسميّة تتّسم بإطلاقيّة النّفوذ وجعلها الحقيقة الرّسميّة للدّولة، واستئثار الدّولة بوسائل القوّة والإقناع والتّأثير والتّوجيه، وإخضاع الدّولة كلّ الأنشطة لتكون معبّرة عن توجّهاتها الفكريّة والثّقافيّة والسّياسيّة، واقتران الفعل السّياسيّ بسيادة العنف الإيديولوجيّ والرّعب السّياسيّ. وكلّ هذه الخصائص تنتج ممارسات تتصدّى لكلّ الأصوات المعارضة لتوجّه الدّولة، وشخصيّات فكريّة تمارس الإرهاب الفكريّ على كلّ المخالفين، وتقوم بالتّنظير لسياسة الحزب الحاكم والدّولة، وتدافع عنه بكلّ الأشكال.
إنّ هذه الخصائص التي تميّز الأنظمة الشّموليّة، كان لها التّأثير الأكبر في مسار الحياة العامّة في الأقطار العربيّة، فكرًا وسياسة، ففي الجانب الفكريّ انتشر الفكر الشّمولي الذي لا يرى الحقيقة إلاّ في الإيديولوجيا التي تتبنّاها الدّولة، ويدافع عنها حزبها الحاكم، ويكون إقصاء كلّ الأفكار المخالفة والمعارضة، وتهميش كلّ المفكّرين الآخرين مهما تكنْ الأفكار التي يعبّرون عنها، أو المصادر الأنواريّة التي يستقون منها هذه الأفكار، وتتحوّل هذه النّخبة الفكريّة إلى طبقة ذات سلطة ونفوذ في عالم الفكر والثّقافة، وتتحوّل إلى صاحبة سيادة مطلقة، وتكون مصدر استثمار من قبل السّاسة، ومصدر ترويج فكريّ في المجتمع، وإنّ هذا الوضع الفكريّ الشّموليّ يؤدّي في غالب الأحيان إلى الانغلاق والتّعصّب، والثّقة العمياء في الثّقافة الرّسميّة للدّولة، ومن ثمّة تكون محاصرة الفكر، وملاحقة المفكّرين، ووضع الرّقابة الشّديدة على سوق الإبداع، وتحاصر حريّة التّفكير والرّأي والتّعبير.
ثمّ تنعكس ظاهرة الشّموليّة في الفكر على السّياسة، فتصبح بدورها سياسة قائمة بدورها على الشّموليّة، إذ يستأثر الحزب الحاكم بالحياة السّياسيّة تفكيرًا وتشريعًا وممارسة، ويقوم بابتكار كلّ الأشكال التي تجعله الحاكم الأوحد في البلد، ومنها هيمنته على التّظاهرات السّياسيّة والثّقافيّة، ومحاصرة وسائل الإعلام والسّيطرة عليها لتعبّر عن أفكاره وبرامجه، وتجييش الأنصار بالتّرغيب والتّرهيب، والمال والمصالح والخِدمات، ويشرّع القوانين التي تضمن له الفوز الدّائم بالانتخابات، ويشرّع القوانين التي تضمن لها دوام الملك والحكم، ويجري الاستفتاءات المتتالية لتعديل الدّستور والقوانين من أجل حماية نفسه من المحاسبة والمساءلة، وتفعيل الهيمنة الدّائمة على الدّولة، ثمّ يقوم باختراق كلّ المنظّمات الوطنيّة والجمعيّات المدنيّة، واختراق كلّ الأحزاب إنْ وجدت وذلك بإيجاد أفراد أو فئات تضمن له الولاء والطّاعة، وتكون عينه السّاهرة في تلك الأحزاب، فتعطّل عملها، وتضعف أداءها، وتفسد دورها، ثمّ يقوم الحزب الحاكم بإطلاق الفزّاعات والمغالطات التي تجيّش النّاس ضدّ خصومه السّياسيّين والنّاشطين الاجتماعيّين والجمعيّاتيّين، من قبيل اتّهامهم بتهديد السّلم الاجتماعيّة، وإضعاف الجبهة الشّعبيّة، وخدمة المصالح الأجنبيّة، وعدم مراعاة المصلحة الوطنيّة، وينشر بين النّاس الأفكار التي تجعلهم يصفون هؤلاء الخصوم بالخونة المتآمرين.
إنّ الشّموليّة في الفكر والسّياسة هي المضادّ الحيويّ لكلّ الثّورات الشّعبيّة، والحركات الاحتجاجيّة المطالبة بالدّيمقراطيّة، ومبادئ حقوق الإنسان، وهي التي تقضي على مبادئ حريّة الرّأي والتّفكير والتّعبير والمعتقد، وتهمّش دور الأفراد في الفكر والسّياسة مقابلة هيمنة سلطة الجماعة/ الدّولة، وتلغي كلّ دور يمكن أنْ تلعبه المنظّمات غير الحكوميّة، والجمعيّات المدنيّة، والشّخصيّات الفكريّة المستقلّة، أو غير المستقلّة التي لا تؤمن بما يؤمن به حزب الدّولة من أفكار ورؤى.
هذه هي بعض مظاهر الشّموليّة في الفكر والسّياسة، والتي ميّزت الفترات السّابقة في الأقطار العربيّة، والتي كانت سببًا رئيسًا في تعطيل المسار الدّيمقراطيّ، وتعطيل المسار التّنمويّ، وتركت العرب يرزحون تحت التّخلّف الحقيقيّ رغم مظاهر الحداثة الماديّة الزّائفة، فهل سنتّعظ بهذا التّاريخ، ونبني أنظمة فكريّة وسياسيّة ناضجة، تحافظ على المبادئ الكبرى رغم هزّات السّياسة، وتثق بالذّات، وتحترم الآخر، وتعتبره شريكًا حيويًّا في الوطن، ينافسنا بأفكاره، ويسعى معنا إلى تحقيق الأهداف السّامية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد يطالب عضو مجلس الحرب ب


.. عالم الزلزال الهولندي يثير الجدل بتصريحات جديدة عن بناء #أهر




.. واشنطن والرياض وتل أبيب.. أي فرص للصفقة الثلاثية؟


.. أكسيوس: إدارة بايدن تحمل السنوار مسؤولية توقف مفاوضات التهدئ




.. غانتس يضع خطة من 6 نقاط في غزة.. مهلة 20 يوما أو الاستقالة