الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا وجعك يا توفيق

أحمد الشريف

2014 / 1 / 6
الادب والفن


عم توفيق مات أمس .
يا وجعك يا توفيق . يقولها سريعا عندما يطلب منه عمل شيء ثم يكررها ببطء بعد انتهاء المهمة <وفى كلتا الحالتين يكون صوته عاليا مرحا . بعد صلاة الفجر جنح بنا القارب فى المنطقة التى يتجنبها الصيادون لكثرة كتل الطين ونباتات الحلفا والبوص . أنغرز بقوة فى الطين ، لا يمكن أن يتحرك إلا إذا ربط بحبل قوى وشد من أعلى الصخرة . كنا ننتظر . تنبه أحدنا إلى قرب بيت عم توفيق من البحيرة . لم يطل انتظارنا ، ظهر من بعيد ، رأى ما نحن فيه خلع هدومه وتوغل فى مياه البحيرة الباردة متجها صوبنا ، طوحنا الحبل له ، فعاد صاعدا الصخرة الكبيرة وشرع فى شد المركب بقوة .
" أجمد يا وله يا وجعك يا توفيق " .
تكاتفنا مع قوته دفع المركب للخروج من بركة الطين . بعد اطمئنانه على خروجنا ، جلس بهدوء ،
" هات سيجارة يا وله "
الشيخ عارف آت من الحقول البعيدة ، لمحنا ، ورأى عم توفيق عاريا فى هذا البرد المميت . " والله يا أبن الكلب لو وقعت لتنزف زى النسوان " .
يرد عليه بضحكته المجلجلة ، تملأنا بالسرور والحب للناس وللدنيا .. أراه فى الصباح الباكر واقفا كالطود ، فاتحا ذراعيه ، يتمنى احتضان الحقول ومياه الجداول والسماء وكل نبتة وإنسان على وجه الأرض . فى طقسه هذا ، يعطى ظهره للعابرين ، تلك اللحظات من التأمل والغبطة بالطبيعة هى زاده اليومي لاستقبال أيام الدنيا .. هناك أيام سوداء مرت عليه ، وقتها ، كان يرفع بصره للسماء ، فيرى الظلام وقد طغى على الدنيا . حدث هذا عند وفاة زوجته . رايته وهو الرجل القوى الذي لا يكف عن الضحك ومشاكسة طوب الأرض ، يضع رأسه فى حجر أمه العجوز ويبكى بتشنج . يا الله ! هذا الطفل الكبير من انتزع منه حبيبته ؟
- ليه عم توفيق بيبكى يا به ؟
- خالتك غالية ماتت
لن أرى هذه المرأة الجميلة مرة أخرى ، كانت تملا جيوبي بكل ما أحبه ، لم أر امرأة فى رقتها وروحها الحلوة ، ابتسامتها السماوية ، لا تقاوم ، كنت ألتصق بها مثل قط صغير .
- والله يا غالية أنا بغير عليكى من الواد ده .
ترجوه أن يتركني معها قليلا .
- مونسنى يا توفيق بدل القعدة لوحدى .
هى لم تنجب وهو لم يتجوز عليها . فى تلك الليلة خرج وحيدا متجها ناحية البحيرة ، رمى شبكته بلا مبالاة ، وغرق فى حزنه ثم انحدرت دموعه .
" يا وجعك يا توفيق حتى المرة الوحيدة اللي خطفت قلبك ماتت " .
طالت جلسته حتى الصباح . رجع للبيت وأفرغ رزقه من السمك فى طشت كبير ، تعجبت العجوز ؛ فهو لم يصطد كل هذا من قبل .
فى طريقه ، التقى بعبد الحفيظ جمعه وعبد الحفيظ عندما يتشاجر مع أحد فى فيلكسيا يذهب إليه فى الليل وهو رابط رأسه بقطعة قماش وفى يده نبوت . سأل عم توفيق عن رأيه فى الموتوسيكل المضاد للألغام ، اخترعه ليجنب أهل القرية الدوس فى الجلة . لم يرد . سأله عن رأيه فى سيمافوره الإلكتروني ، محملا إياه مسئولية وضعه مكان سيمافور المحطة القديم . أخيرا فاض كيله واحتد :
- يجب أن تبدى رأيك فى إختراعى جهاز مضاد لتلوث بيئة القرية من دخان الكوانين .
تنهد عم توفيق وأشار له على رقبته التى أصبحت أرفع مما ينبغي .
فى يوم السوق وهو يوم عمله سائقا لجلب نساء القرى المجاورة يعود إليه حبوره ويصيح بنشوة :
" يا وجعك يا توفيق "
يقولها وهو يطبطب على أرداف النساء ، يستجبن لمداعباته ولو فعلها غيره لأصبح الدم للركب .
يوم وداعه الدنيا تعطلت السيارات على الطريق ، أمتنع زملاؤه عن العمل ، قال أحدهم : " الجنازة لم تخرج بعد ، لا من البيت ولا من الشارع ولا من البلد ولا من قلوبنا " وبكى بمرارة .
كان يفتح ذراعيه وهو يستقبلني أنا وأبى ونحن نعبر الجسر إلى حقله ، يتلقفني فى حضنه فأشعر بخدر لذيذ وهو يربت على بيديه الخشنتين ، أشم فيهما رائحة الطين مختلطة بمياه الأرض والحشائش الخضراء وبقايا الفاكهة المعطوبة ، يقذف بها فى مياه الترعة فتسير مع التيار حتى بحر الطاحونة .
- ابن الكلب ده عشيق مراتى
يضحك أبى ويجذب بعض أشواك الأرض العالقة بجوربى .
عندما كبرت قلت له مداعبا إن هناك بلدا بعيدا ، يعشق فيه الرجال النساء وتعشق نساؤه الرجال . خطف يدي ووضها على فمى: " أبوس أيدك سلفنى فلوس التذكرة " .
فى مرضه الأخير صرخ فى الدكتور : " إيه كل حاجه ممنوع ممنوع ، ممنوع تاكل لحمه ، ممنوع تعمل مجهود ، ممنوع تدخن ، ممنوع تسكر ، ممنوع تسهر ، ممنوع تفكر ، ممنوع تصطاد ، ممنوع تضحك ، نسيت تقول ممنوع تعيش " .
قبل وفاته بايام طلب أن يدخلوه الى غرفة قصية فى البت ويتركوه لوحده ، دخلت عليه فوجدته ممسكا بعود قش، يرسم به خطوطا على الأرض وهو يبصق قطع دموية صغيرة من كبده المهترىء . نافذة الغرفة مفتوحة ، يرى عبرها مياه البحيرة . لمحت شيئا أبيض يتحرك ، تصورت أنه حمامة ، لم تكن . مرت بجواره فرفعها بيده ، نورس ! نورس؟ أفلته من يده وألقى له بفتات خبز ..
النورس لا يأكل إلا السمك يا عم توفيق .. اعتاد هنا على أكل الخبز .. من أين جئت به ؟ .. شخص رمى به من النافذة ، وربما جاء من نفسه ، منذ متى .. لا أدرى .. كان متضايقا من أسئلتي الغبية وعصبيا بدرجة كبيرة ، فشعرت أنني أسأل وأجيب .
- يا عم توفيق اطلع من المكان ده وارجع لسريرك .
- اطلع أنت بره .
كنت أجرى فى شوارع فيلكسيا ، لأحضر له الدواء من أقرب أجزخانة ، أدرك أن لا جدوى من تجديد العلاج ؛ كان يومه الأخير .
انقطع التيار الكهربائي . أبطأت الخطو ، اقتحمتنى رائحة زهور الياسمين ، رائحتها تتكاثف فى الليل ... امتلأ المكان بالناس ، ركعت بجوار سريره ، أخذني فى حضنه وربت على ، حملوني بعيدا . قبل احتضاره تمتم بكلمات خافتة ، " أنا حبيتكم كلكم " .
تركت البيت لأقرب مكان أستطيع أن انفجر فيه . كان نورس عم توفيق يطير من النافذة ويحلق على مياه البحيرة واختفى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي