الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التفكير الإيجابي وجلد الذات

منعم زيدان صويص

2014 / 1 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


أود في البداية أن أقول أن النقد الذاتي يُقصد به المُراجعة بهدف التصحيح، أما جلد الذات فهو تبكيت الضمير، والتشاؤم، وفقدان الثقة بالنفس، والإستسلام للواقع، والإكتئاب. وجلد الذات كالأفيون يستعمل لتخدير العقل وتعطيل التفكير الخلاق، ويأخذ عدة أشكال عند شعوبنا. فنحن نلوم أنفسنا دائما لأننا فشلنا في إستعادة وحدتنا وعظمتنا القديمة التي مضى عليها عدة قرون، وننسى أن الشعوب تتقدم أوتتأخر لأسباب عديدة ومختلفة لا يملك الناس في أحيان كثيرة تجنبها. ونجلد أنفسنا بطريقة غير مباشرة بلوم قادتنا، متهمين إياهمهم وحدهم بالمسؤولية عن فشلنا، ومقارنين بينهم وبين قادتنا التاريخيين، لمصلحة الأخيرين، دون إعتبار لتغيّر الأزمنة وطريقة التفكير، ونجلد أنفسنا دائما بالإدعاء، والإقتناع، بأنه لولا "مؤامراتُ" الأعداء و"اطماعُهم" لما فشلنا وتأخرنا. وهذه كلها من علامات التفكيرالسلبي.

ونتيجة للضغط والقهر وانعدام الحرية السياسية والخوف من أن نسمي الأشياء بأسمائها، إنتشرت بين شعوبنا ما يمكن أن نسميها الكوميديا السياسية وانتقاد المسؤولين ورجال الدولة بطريقة هزلية، ويبدو أننا نسينا كل أنواع الكوميديا عدا الكوميديا السياسية، الممزوجة بالمرارة، وظهر كتاب وممثلون مسرحيون بنوا شهرتهم عليها، وتكررت هذه الأفكار لدرجة أنها أصبحت ممجوجة ولم تعد تثير الضحك. بدأت الكوميديا السياسية عند الشعوب العربية، وظهرت بوضوح، في سوريا في بداية السبعينات من القرن الماضي، عندما تعاون نهاد قلعى ودريد لحام ومحمد الماغوط في إنتاج مسرحيات كوميدية حققت شعبية منقطعة النظير في جميع أنحاء العالم العربي، وبشكل عام حمّلت عدة مسرحيات الحكام والزعماء العرب وزر الفشل في فلسطين والتأخر التي وصلت إليه الدول العربية. وتغاضى حكام سوريا عن هؤلاء الكوميديين ليسمحوا للناس أن يطلقوا ما في صدورهم من الغضب عن طريق النكتة، بدون إلحاق ضرر واضح بالحكام، وخصوصا لان هؤلاء الكوميديين مدحوا النظام السوري -- كما في مسرحية ضيعة تشرين -- معتبرين حركة حافظ الأسد التصحيحية إنقلابا على القادة "الفاسدين" الذين سبقوه. والحقيقة أن حكام سوريا وجدوا هذه الكوميديا مفيدة وملائمة لهم، بدلالة أن عائلة الأسد لا تزال تحكم سوريا حكما شموليا منذ ذلك التاريخ. فبينما تُمنح الشعوب الفرصة لتفريغ توترها، يبقى الحكام مسيطرين. فمسرحيات دريد لحام وصحبه في سوريا، لم تؤثر على الحكام، بل على العكس، أظهرتهم بصورة المتسامحين الذين يشجعون النقد وحرية الكلام في بلادهم. وانتشرت الكوميديا السياسة في الدوال المجاورة معطية الناس الوسيلة لينتقدوا الأنظمة والرسميين عن طريق النكتة بدون أن يضعفوا من قبضة الحكام على السلطة.

ويمكن القول، أن جلد الذات عند شعوب المنطقة ظهر بعد الكارثة التي حلت بفلسطين وشعبها. فعندما كنا في المدرسة الإبتدائية في الخمسينات كان من القصائد التي تعلمناها وحفظناها عن ظهر قلب واحدة للشاعر والدبلوماسي السوري عمر أبو ريشه، وهي مثل من مئات الأمثلة على جلد الذات، ومطلعها:

أُمتي هل لك بين الأمم -- منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرقٌ -- خجلا من امسك المنصرم

إلى أن يقول:

أمتي كم صنم مجّدته -- لم يكن يحمل طهر الصنم
لا يلام الذئب في عدوانه -- إن يكُ الراعي عدوّ الغنم

بعد نكبة فلسطين، تطورت فكرة لدى الشعوب العربية مفادها أن الحكام العرب غير أمناء على مسؤولية حكم شعوبهم وان معظمهم خانوا شعوبهم ولا يزالون، وتعاونوا مع الاستعمار. كانت قضية فلسطين هي المرجعية الرئيسة لهذه الأفكار، وكانت، وفي الحقيقة لا تزال، هي الباروميتر الذي يقيس الوطنية، بالإضافة لكونها أداة ابتزاز ومزايدة يستعملها كل العرب ضد بعضهم، مستخدمين الإتهامات والإتهامات المضادة. فنظمت القصائد وكتبت المقالات وألقيت الخطابات التي تنتقد "الحكام" بشكل عام دون أن تسميهم. ومات الحكام وتبدلوا وتغيرت الأنظمة ولكن الفكرة لم تمت أو تتغير. وبسبب بؤس الشعوب العربية وتخلفها، الذي امتد لعدة قرون، أقنعت نفسها بذلك ووجدت شماعة تعلق عليها فشلها، وأصبحت الفكرة متنفسا لهذا الشعور بالخيبة. وبات الناس مقتنعين عموما أن ليس في العرب وشعوبهم شي خطأ وانه إذا أزيل الحكام ستنطلق الشعوب وتشكل امة واحدة عظيمة. واستوعب الأولاد في المدارس، ومعظمها حكومية، هذه الأفكار المبسطة. ولم يشعر الحكام بحرج كبير، لأنه كان باستطاعة أي حاكم أوزعيم أن يقول أنه ليس المقصود بهذا. ولم يخطر ببال الآلاف وربما الملايين الذين إنتقدوا الحكام، بنفس الطريقة المبهمة، أن يسألوا أنفسهم من أين جاء هؤلاء الحكام؟ هل تم استيرادهم من الخارج؟ هل جاءوا من الفضاء الخارجي؟ ولم يسألوا أنفسهم لماذا يكون الحاكم الجديد الذي يأتي نتيجة إنقلاب عسكري أو غير عسكري، أسوأ بكثير من الذي سبقه.

وبلغ الإحباط بالشعوب العربية حدا كبيرا في بداية الألفية الثالثة وخصوصا بعد إنتشار وسائل الإتصال الحديثة كالإنترنت والهواتف والحواسيب المحمولة التي فتحت أعين الناس على ما يدور حولهم وفي العالم، وبدأ الشباب، الخبراء في إستعمال هذه الأجهزه، يحوّلون إحباطاتهم إلى خطوات عملية أخذت شكل الثورات الشعبية الحديثة، مطالبين بما أسموه الحرية والديمقراطية وداعين صراحة لتغيير الأنظمة، مكررين الشعار العفوي الجريء: الشعب يريد إسقاط النظام. وعندما نجحت المظاهرات العارمة في تغيير النظام في تونس إنتقلت العدوى إلى بقية الشعوب العربية. ولا أعتقد أن هؤلا المتظاهرين كانوا يعرفون إلى أين يتجهون، فبعد شهور أزيحوا من الطريق وعاد إلى الواجهة السياسيون المحترفون، الذين لم يكن لهم مبادىء عامة واضحة مقبولة لدى الناس، سوى شعارات دينية وعاطفية، واستمرت النزاعات، واكتشف الناس أنهم أخطأوا في التسرع بإزالة حكامهم بدون التفكير في البديل، وهكذا حلت الفوضى في هذه البلدان.

إن التفكير الإيجابى المرن والنقد الذاتي بقصد المراجعة والتصحيح، النقد الذي يخلو من الحقد والسوداوية ووخز الضمير، هو البديل لجلد الذات. هذا النقد يجب أن يكون واضحا وجادا ومدروسا وموضوعيا لأن الإنتقاد عن طريق النكتة لا يكفي، فهو يُضحكنا وقتيا وبعد قليل يزحف الملل إلى نفوسنا ونفقد البوصلة. يجب أن نثق بالناس ونتخلى عن قناعتنا بأن كل شخص كاذب حتى يثبت أنه صادق، وأن كل شخص مذنب حتى تثبت براءته، فهذا ليس تفكير إيجابي، لأن كل شعوب العالم المتقدم تعتبر، من حيث المبدأ، أن المواطن، أي مواطن، صادق حتى يثبت أنه كاذب، وأنه بريء حتى يثبت العكس، ولذلك لا تجدهم يأخذون القانون بأيديهم ويصدرون أحكاما على الآخرين. التفكير الإيجابى يقوي روابط المجتمع ويصنع التقدم ويحافظ على السلم الإجتماعي ووحدة الأوطان، ويدعم ثقة أحدنا بالآخر، فهل سنتعلم كيف سنمارس النقد الذاتي والتفكير الإيجابى؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكبر هيكل عظمي لديناصور في العالم معروض للبيع بمزاد علني.. ب


.. لابيد يحذر نتنياهو من -حكم بالإعدام- بحق المختطفين




.. ضغوط عربية ودولية على نتنياهو وحماس للقبول بمقترحات بايدن بش


.. أردوغان يصف نتائج هيئة الإحصاء بأنها كارثة حقيقية وتهديد وجو




.. هل بإمكان ترامب الترشح للرئاسة بعد إدانته بـ34 تهمة؟