الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيلانسى

أحمد الشريف

2014 / 1 / 8
الادب والفن


بيلانسى

احمد الشريف

عندما نظرت فى عينيها أول مرة قلت : ياه كل ده ....
أخرجت لى لسانها
هذه الفتاة دفعتنى للتحليق بعيدا حتى اصطدمت جناحاى بالشمس .
لم أصدق لحظتها أن هذا الوجه وذلك الجسم ينطويان على سرعميق ... كانت تحمل بين يديها كلبا أسود ذا لسان كبير ، لا يكف عن اللهاث ، قالت بعد تعارفنا إنها تعيش وأمها وحيدتين ، لم يتبقى لهما إلا بيلانسى .
مات أبوها ، الثرى جدا ، جعل بيتهم شارعا ؛ من كثرة الرواد والزوار ، أدق خصوصياتهم ، كان يعرفها أى صعلوك ، أصيبت أمها بحالات انهيار عصبى ؛ نتيجة للصخب والجلبة وكثرة العيون . هذ الوالد كان يعتقد بأن الناس من حوله ، سبب استمراره فى الحياة ، كثيرا ما تسلل إلى غرفة نومه ، تاركا ضيوفه وموصيا إياهم بعدم الرحيل إلا بعد سماع شخيره .. بعد موته أغلقت الأم البيت وأشاعت أنها وابنتها سترحلان عن المكان بعيدا .. صار الليل يعنى لهما الجنة وبيلانسى حارس بوابتها .. تتعرى تدريجيا ، فتختفى النجوم من السماء . جسمها عجن من نار هادئة ، عند اللقاء تغمض عينيها ، وتحرك لسانها على شفتيها ، تزداد درجة غليانها ، فتضغط بأسنانها على الشفتين مع تشنج فى أصابع يدها حتى تعثر عليه ، تتحسسه باناملها ثم يدها تقبض عليه وتقربه من وجهها بوله وتقديس .

اشتعلت الجذوة بداخلى ، لا مفر من هذا التهيج المستمر ، أثناء لحظة القذف العصية التى تأخذنا فيها الغيبوبة ، أتمنى لحظتها لو مت ؛ لأستريح ، لا إشباع أبدا .
زرت بيتهم واندهشت من تأدب أمها وخجلها ، أكدت لى أن بيلانسى هو ما تبقى لهما ، خصوصا هى ، لإن ابنتها كثيرة الخروج ، بعد وقت قصير ، استأذنت وأشارت لبيلانسى ، الذى قفز فى حضنها من أعلى المائدة وتلقفته بلهفة .






- حبيبى ، حبيبى ، معاد الحمام .
التفت لأبنتها محذرة :
- أوعى تفتحى الحمام علينا ، حبيبى يا خد برد .
ضمته لصدرها بقوة ، قبلته فى بوزه ودخلت به الحمام .
صارت حياتنا ليلا . جولاتنا النهارية تتعمد فيها أن تأخذنى للأماكن الغائرة والأزقة الضيقة والشوارع المسقوفة والبيوت القديمة التى لا تدخلها الشمس وتوشك على الانهيار . بفضلها بات الليل دليلى لجسمها وجسم الأخريات . جسمها صار المكان الوحيد الصالح للاختباء من قسوة الحياة ، وتحديدا الأماكن الخفية فيه ، كالسرة ومنطقة ما بين الثديين وتحتهما وتحت إبطيها وعتمة ما بين فخذيها . كانت تقول لى .
- عايز تشوفنى جميلة تعالى فى بالليل !
هى لم تعد جميلة فى الليل ، بل الحياة أمست لا معنى لها إلا فى الليل .. أتذكر وجهها بتوتره وانقباضاته وحركة يدها المتشنجة على جسمي وهى تضمني وتكاد أن تبكى ، لكم تعذبت وعذبتني معها .
كنا فى شرفة بيتهم ، نتأمل الليل الممتد لأطراف الدنيا ، بغتة ، بدأت تغنج :
- بيلانسى ، بشوش ، كده تعضنى فى ....
التفت فرأيت الكلب دافسا بوزه ويزوم بشدة .
- إيه ده ؟
- خايف منك !
تركتها وأسرعت بالخروج ، لحقت بى ، احتضنتني ، بل وعى ، قبضت على ردفيها ، وغرزت أظافري فيهما وهى تعول كحيوان جائع فى غابة ، مع كل صرخة أؤمن بقدرة الخالق العظيم على تشكيل هذين الردفين الطريين الممتلئين دون إفراط ، إنهما المعبر لى على جسر الزبد .
تسرد على أنواع الكلاب ، تبوح بسر اختيارها وأمها لبيلانسى كى يعيش معهما ؛ إنه هادئ الطباع ، من فصيلة كثيرة التكاثر ، له لسان خشن ... بسبب هذا البيلانسى ، كادت أن تحدث فضيحة على البحر ، فى عز النهار والشاطئ غاص بالناس ، كانت تلعب الراكيت مع صديقتها ، بيلانسى جالس على مؤخرته ، لا يحول عينه عن صاحبته ، بلا مقدمات قفز تجاهها وبدأ يلحس ، لم تهتم زاد الأمر ووقف عند فخذيها وشرع فى لحس ما بينهما وهو يجذب المايوه بأسنانه ، طوحت الكرة بعيدا لصديقتها ، دارت بعينيها فى المكان بسرعة ، رأت بعض العيون ترقبهما ، بكل قوتها ضربته على رأسه بمضرب الكرة .

- آخر مرة أجيبه البحر .
لحظة تفكيري فيها كزوجة ، اختفت من حياتي فجأة كما ظهرت فجأة . لكن لماذا فكرت فيها كزوجة ؟ وما سر انجذابي لها ولأمها ؟ ولماذا أختارانى أنا بالذات ؟ هل أشبههما فى شيء ؟ أم أن هناك شيء فى الأعماق يجمعنا ؟ معهما أو معها ، أشعر أن حياتى غير الآخرين ، وأن هناك سرا مثيرا يدفعني للحياة ، دائما أبتهج وأنا بين أصدقائي وسط الصخب وحركة الحياة ؛ لأنى سأذهب مع بداية الليل لحياة أكثر دفئا وخفاء .. فى بداية اختفائها ، تصنعت اللامبالاة وقلت لنفسي ، إن هناك مئات غيرها مصابات بسعار الليل ، لكنى أخطأت التقدير ، لا أحد مثلها ، النار التى أشعلتها بداخلي ، لم تقدر أى امرأة على إخمادها ، لم أنتبه وهى تقول لى ذات مرة .
- على فكرة أنا زي حلم فى الليل !
- يعنى ؟
- يعنى ممكن تقوم الصبح ، لا تشوفنى ولا تشوف الليل .
وها أن أستيقظ ولم أجدها ، أما الليل فسوف يأتى ، كان بداخلى مقيما قبل رؤيتي لها ولا أعرف لماذا أمتزج وجوده بوجودها . قالت لى أمى ، أنى عندما خرجت من بطنها للدنيا ، كنت أصرخ وابكى كسائر أطفال الدنيا ، مع اختلاف صغير ، إن التيار الكهربائي انقطع ، فتوقت عن الصراخ والعويل ، اعتقدوا بموتى حتى عاد التيار متزامنا مع صراخى وعويلى .
الليل كان يعنى جسمها ، وجسمها ليل بهيم ، حياة مجهولة أحبها وأخاف منها ، اختبئ فى منحنياتها وظلماتها وأتوق فى ذات الوقت للشمس والسماء الزرقاء والطبيعة وصخب الحياة .
ونحن فى عنفوان الالتحام ، كانت تهذى وتصيح – أنا عايزه الحب عايزه الحنان .. مع كل صيحة، تتحرك تحتى بتشنج وعصبية شديدة وكأنما كل جزء من جسمها سينفصل عن الآخر ، تلقى برقبتها ورأسها بقوة للخلف مع آه من الأعماق ، ليست آه لذة وإنما آه إنسان يتعذب ويسعى للخلاص . أحس فى كل التحام معها ، أن بداخلها شيئا يبتغى السفر بعيدا ويتلاشى فى الفضاء وذرات الطبيعة ، هذه الجملة التى كانت تكررها هى وأمها عندما أحدثهما عن موضوع محزن :
- آه يا روحى آه يا عينى .
فى البداية أثارتني هذه الجملة ولكن بعد ذلك أدركت أنهما مو جعتان فعلا وتحسان بضعف الآخرين واحتياجاتهم .
بديلا عن الجنون ، توغلت فى جسم الليل والنهار ارتاد البراري البعيدة والغابات النائية والمناطق نصف المعتمة حتى وصلت لجرن قمح ، النجوم فى السماء تعكس ضوءها على أكوام القمح التى تأخذ شكل أهرامات صغيرة لمحت جسما ينزل من السماء ويحجب أشعة النجوم ، نفس العينين المحمومتين وانقباضات الوجه ، أعطتني ظهرها وأشارت لأتبعها ، مع كل خطوة يزداد الليل ظلمة وأزداد اشتعالا وحبا للحياة ، أتوغل أكثر وأكثر إلى أن أصل لبقعة فى الأرض ، لم أر مثلها ، ولم أشعر بجوها من قبل ،فى اللحظة الفاصلة بين الليل والفجر ، دنت منى ، فتحت ذراعيها وابتلعتنى ، وغصنا معا فى الظلام .
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد