الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بصرة عام 11 (الفصل الأول)

حيدر الكعبي

2014 / 1 / 9
الادب والفن


بصرة عام 11*

في مطار دبي

بعد عشرين عاماً وشهرٍ من مغادرتي العراق سنحت لي فرصة زيارة البصرة تلبية لدعوة من مهرجان المربد الثامن (2011)، وهو أول مربد أدعى له. تأجلت رحلتنا أربعاً وعشرين ساعة بسبب خلل تقني. والنتيجة هي وصولي الى دبي—محطتنا في الرحلة—متأخراً أربعاً وعشرين ساعة عن موعد إقلاع الطائرة العراقية الى البصرة. لا مشكلة. قلت لنفسي. مازال هناك متسع من الوقت. لن أحضر اليوم الأول من المهرجان. ولكن كان علي أن أقضي ليلة كاملة في مطار دبي. كانت الشركة التي ستقلني الى البصرة تدعى "مرحبا." سألت سيدة أنيقة تقف قريباً من مكتب للسياحة والسفر. فأجابت بالإشارة الى السلم الذي كنت نزلته تواً. ونبرت كلمة أو اثنتين بالإنكليزية: "هناك. فوق." ولكنني كنت فوق ونزلت لأنهم قالوا: "تحت." كنت قررت أن أهمل التذكرة المدفوعة الثمن الى البصرة، وأشتري تذكرة جديدة من الخطوط الجوية الإماراتية. ولكن العاملين هناك لم يجيبوا على أسئلتي. سألت موظفة أين يمكنني شراء تذكرة سفر الى البصرة، فأشارت الى مكتب الى يمينها. المكتب كابينة من الزجاج والمعدن، وجدت فيه امرأة سمراء قصيرة القامة ممتلئة تقتعد كرسياً بعيداً عن الفتحة الأمامية. قلت بالعربية: "مساء الخير. أرغب في حجز بطاقة سفر الى البصرة، رجاء." وكانت القطعة المعلقة فوق مكتبها تقول "بيع التذاكر." رشقتني بنظرة. حدقتاها أشبه بخرزتين صقيلتين، قشرتهما الخارجية براقة صلدة، وباطنهما هش معتم. قالت: "آي دونت سبيك أرابك." أعدت سؤالي بالإنكليزية. همهمتْ شيئاً لم أستطع سماعه وعينها على جهاز أمامها. قلت: "آسف، لا أستطيع سماعك." فخربشت شيئاً بسرعة ومدت يدها الي بوريقة بحجم أوراق لف السجائر. ولم أجد كتابتها أوضح من كلامها. سألتها : "أهذا (تكت سيل)؟" فهزت رأسها بالإيجاب، وعيناها على الجهاز. وأثار استغرابي أن ما كتبته على الوريقة هو نفس المكتوب على القطعة المعلقة على كابينتها. نظرت إليها مستفهماً، فتجاهلتني. انحيت على فتحة التخاطب، فزكمت أنفي رائحة كرائحة صبغ أظافر لم يجف بعد. قلت: "من فضلك." وانتظرت حتى التفتت إلي. حين التقت نظرتانا قلت: "أنت قليلة التهذيب." وابتعدت دون أن أسمع ردها.

لم أقطع سوى ثلاث أو أربع خطوات، حتى اعترضتني نقطة تفتيش. فتشوا الحقيبة ولم يفتشوا شخصي. المشرفون على التفتيش كانوا جميعاً شباباً ببدلات زرقاء، بينهم امرأة واحدة ترتدي ثوباً طويلاً وتلف رأسها بمنديل. حين أردت أخذ حقيبتي بعد مرورها بالحزام الدوار، نهض أحدهم فجأة صائحاً: "لديه مقراضة أظافر." وقد استفزتني نبرته العالية واهتمامه المبالغ فيه فكأنه وجد قنبلة في حقيبتي. نظرت إليه مستغرباً. فتقدم نحوي قائلاً: "أنا أتكلم معك بالعربي." قلت له : "صحيح، ولكنك نسيت أنك تتكلم مع حمار." فقاطعني بإشارة من يده : "أوكي، أوكي،" محاولاً أن ينتزع الحقيبة من يدي بالقوة. فصحت به : "إخرس ولك" وهممت به لولا تدخل اثنين من موظفي التفتيش، امرأة ورجل. قلت للمرأة: "أليس من حقي أن أتساءل لماذا لا أواجه معاملة كهذه في أمريكا التي أعيش فيها منذ حوالي عشرين سنة؟" قالت : "لكل بلد قوانينه." ربما ظنت أنني أقصد مقراضة الأظافر. قلت: "أنا لا أتحدث عن مقراضة الأظافر ، بل عن الأخلاق." فاعتذرتْ هي وزميلها، ولم يستطيعا العثور على مقراضة الأظافر، ولا استطعت أنا أيضاً." خطر لي أن ليست هناك أشياء صغيرة وأخرى كبيرة. فلمقراضة الأظافر سيرتها الشخصية الخاصة. ولكننا نحن "الكبار" لا نلتفت لذلك. فرؤوسنا محتلة بمشاغل من العيار الثقيل. مقراضة الأظافر هذه ستفلت من تفتيش الشرطة العراقية في مطار البصرة عند وصولي. ثم تختفي طوال مدة إقامتي في البصرة. ثم تعود فتظهر في مطار البصرة فتصادرها الشرطة العراقية. وسيقول لي شرطي عراقي شاب بأدب جم: "عمي ابرينا الذمة. خاف واحد يحتاجها." وسأرد بعجلة، وكنت وصلت المطار متأخراً: "محالَـل وموهَب، عمي." نعم .. مقراضة الأظافر. وزجاجة القلونيا الخضراء، الملأى للنصف بأرخص أنواع العطور، التي لم يفطن إليها أحد طوال رحلة الذهاب، والتي صودرت في مطار دالاس، قبل وصولي البيت بساعة واحدة.

إذن فقد عبرت القارات محصوراً بين أربعة كراسي لكي أتدرب على صعود ونزول السلالم في مطار دبي. أسأل عن خدمات "مرحبا" فيقال لي "فوق" وأصعد فيقال لي "تحت." كنت أظنني وحيداً في محنتي، حتى سمعت رجلاً يثور في وجه الموظفة التي أشارت بإصبعها الى السلم. صب الرجل سيلاً من الكلام الغاضب عليها. قال بالإنكليزية: "أصعد فتقولين إنزل. أنزل فتقولين إصعد. هل تلعبون معي؟ إذا كنتم لا تستطيعون حتى أن تدلوا شخصاً، فلماذا أنتم هنا أصلاً؟ ..." كنت أسمعه وأقول لنفسي: "لست وحدي" ولكن ترى ما حال الآخرين ممن لا يجيدون الإنكليزية؟ وهل ذنبهم أنهم لم يولدوا بعيون زرقاء وشعر أشقر؟ فالموظفة المشيرة بالإصبع بدأت تناديني بـ "مستر الكعبي" (بعد) أن رأت جواز سفري الأمريكي. كنت أحاول أن أفسر سلوكية موظفي وموظفات مطار دبي الذين صادفتهم في ليلتي البائسة تلك. ولماذا يعاملون المسافرين الأوربيين والأمريكان الطوال الشقر ذوي العيون الزرقاء باحترام وبرسمية، بينما ينظرون لأبناء جلدتهم من العرب نظرة دونية؟ فالموظف هنا في دبي، شأن الموظف التقليدي في العراق، يتعامل وكأنه لا يقوم بعمل يتقاضى عنه أجراً، بل كأنه يتفضل تفضلاً، وكأن بإمكانه أن يسمح أو يمنع. والمراجع التقليدي لا يرى شيئاً غريباً في هذا، وغالباً ما يبالغ في مجاملة الموظف ليرضي غروره. كنت أقول لنفسي إن السبب ربما كان في هذا العدد الهائل من العمال الآسيويين الفقراء، ذوي الشعور والعيون السوداء، الذين يملئون دبي. ترى ماذا لو غادر هؤلاء الإمارات دفعة واحدة؟ ماذا لو أضربوا؟ هل بوسع الإماراتيين أن يسدوا الفراغ؟ الفروق الطبقية هنا تأخذ طابعاً عنصرياً. هكذا رحت أحدث نفسي وأنا أجر حقيبتي في طول المطار وعرضه.

المطار مضاء وحديث، ولا يختلف كثيراً عن مطارات أمريكا. يمكنك التعامل بالدولار مباشرة. هناك فروع لمكدونالدز وستاربك وغيرها من الشركات الأمريكية. وقد قيل لي إنني بجوازي الأمريكي يمكنني المبيت في أي فندق في الإمارات، كما يمكنني التنقل فيها بحرية. والإنكليزية هي لغة المطار الرسمية. فكأنني في مدينة أمريكية فعلاً. لا فرق سوى أن هناك من يرتدي الثياب الخليجية، الدشاديش البيضاء والعقل السوداء. وبعض النسوة المحجبات. هناك أيضاً كابينات فيها كمبيوترات عامة توفر خدمات انترنيت مجانية. معظم العاملين في المحلات الخدمية داخل المطار ليسوا إماراتيين. ولأن تلفوني المحمول كف عن العمل منذ أن غادرت أمريكا فقد اشتريت بطاقة تلفونية ولكنني لم أعرف استعمالها في البداية، وقد انتهت صلاحيتها قبل أن أنجح في الإتصال بأصدقائي في البصرة. فاشتريت بطاقة أخرى، وهكذا. ولم أكن قد نمت في رحلتي الجوية، ولم أستطع النوم في مطار دبي. وقد انقضى نهار اليوم التالي كله انتظاراً عند شركة "مرحبا." هنا أيضاً خدمتني الجنسية الأمريكية واللغة الإنكليزية في أن أحظى باهتمام خاص من قبل الموظف "العربي" المشرف على خدمات "مرحبا." كان على المسافرين الى البصرة أن ينقلوا بالباص الى فرع آخر للمطار يبعد حوالي ربع ساعة عن مطار دبي الأصلي. الباص بلا كراسي سوى مصطبة بالعرض موازية لكابينة السائق. وقد نادى الموظف باسمي أولاً فجلست على المصطبة. وجلس معي حوالي ستة مسافرين آخرين، فيما وقف الباقون جميعاً.


(يتبع)


* العنوان يحاكي فلماً شاهدته في طفولتي إسمه (بصرة ساعة 11).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسرحية -شو يا قشطة- تصور واقع مؤلم لظاهرة التحرش في لبنان |


.. تزوج الممثلة التونسية يسرا الجديدى.. أمير طعيمة ينشر صورًا




.. آسر ياسين يروج لشخصيته في فيلم ولاد رزق


.. -أنا كويسة وربنا معايا-.. المخرجة منال الصيفي عن وفاة أشرف م




.. حوار من المسافة صفر | المخرجة والكاتبة المسرحيّة لينا خوري |