الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاساطير الثقافية: (1) اسطورة العروبة

السيد نصر الدين السيد

2014 / 1 / 10
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


"الحقيقة هي الدواء المر الذي لا يستطيع الكثيرون تناوله"
مجهول
"الحقيقة دائماً تؤلم من تعوّد على الأوهام"
مجهول
"الحقيقة هي دائما أفضل حماية من البهتان"
ابراهام لنكولن

تلعب الثقافة السائدة في المجتمع، بمكوناتها الأساسية المتمثلة في كل منظومتي المسلمات والقيم، دور حاسم في قابليته للتطور واستعداه لتقبل الجديد. فـ "منظومة المسلمات"، بما تتضمنه من أفكار يعتبرها أفراد المجتمع أمورا صحيحة لا تقبل النقاش، هي التي يستخدمها أفراد المجتمع في فهم وتفسير ما يدور فيه وما يتأثر به من وقائع وأحداث وتشكل "الإطار المعياري" الذي يستخدمه في تقييمها وفى إصدار أحكامه عليها. أما "منظومة القيم" فهي التي تحدد لأفراده ما ينبغي أن يكون أو بعبارة أخرى السلوك القويم الذي يتوقعه المجتمع منهم. ويخرج من يتأمل أحوال الثقافة السائدة في المجتمع المصري المعاصر، وغيره من مجتمعات الشرق الأوسط، بنتيجتين. النتيجة الأولى هي ان "الدين"، الإسلامي والمسيحي، لا "العلم" هو المصدر الرئيسي لمنظومة المسلمات. والنتيجة الثانية هي ان منظومة القيم السائدة تنتمي لمرحلة سابقة من مراحل تطور المجتمعات هي مرحلة "المجتمع الزراعي" (السيد, 2010).

وتعنى كلتا النتيجتين فشل مثقفو التجديد، بشتى توجهاتهم، في تحديث منظومة الثقافة المصرية ومن ثم تهيئة المجتمع المصري لتقبل متطلبات الحداثة. ولهذا الفشل أسباب عديدة من أهمها هو ما يسيطر على فكر أغلب مثقفو التجديد وما يروجون له من أساطير وأوهام ثقافية. وما ينطبق على المجتمع المصري ينطبق على اغلب مجتمعات الشرق الأوسط. من والأسطورة الثقافية هي أي مجموعة من الفروض المتخيلة التي لا يوجد لها أساس في الواقع وعلى الرغم من ذلك تتقبلها مجموعة من البشر على علاتها باعتبارها حقائق وبدون إخضاعها للفحص الناقد عقليا كان أو علميا. وقد ذكر لنا صلاح قنصوه بعضا من هذه الأساطير في كتابه "تمارين في النقد الثقافي" وهى أساطير "العصر الذهبي" و"الوسطية" و"الأصالة والمعاصرة" و"الغزو الثقافي" (قنصوة, 2007) ص. 36-41). ولقد قللت أساطير "الوسطية" و"الأصالة والمعاصرة" و"الغزو الثقافي" من قدرة مثقفو التجديد، وعلى الأخص قطاع المفكرون منهم، على إنتاج الرؤى المبتكرة والأفكار الجريئة اللازمة لإحداث التغيير المنشود في منظومة الثقافة المصرية. فكلا من أسطورتي "الوسطية"، بنزعتها التوفيقية والتلفيقية، و"الأصالة والمعاصرة"، بالتباس مفاهيمها، تحدان من قدرة من يؤمن بهما على اتخاذ مواقف حاسمة وواضحة تجاه ما يطرح عليهم من قضايا وتحدان من قدرتهم على تطوير رؤى مكتملة تتسق عناصرها مع بعضها البعض وتسهم في إثراء وتطوير منظومة الثقافة المصرية. كما تؤدى قناعة البعض من مثقفي التجديد بأسطورة "الغزو الثقافي" إلى اتخاذهم موقف منغلق يتعامل مع المستجدات الثقافية برفض وعداء مسبقين.
وقد غاب عن قائمة قنصوه أخطر تلك الأساطير وأبعدها أثرا وتأثيرا في حياة المصريين، وغيرهم، وهي "أسطورة العروبة". وتقوم هذه الأسطورة على فرض مؤداه أن الشعوب التي تستوطن المنطقة التي يحدها الخليج (العربي أو الفارسي) شرقا والمحيط الأطلسي غربا والبحر الأبيض المتوسط شمالا وصحراء أفريقيا الشمالية والمحيط الهندي جنوبا تشكل فيما بينها أمة واحدة أطلقوا عليها اسم "الأمة العربية". وفى العادة يسوق الداعون إلى هذه الأسطورة حجتين يرون أنهما كافيتان لبيان صحتها: حجة استخدام شعوب هذه المنطقة للغة العربية كلغة رسمية لها وحجة التاريخ المشترك لهذه الشعوب. وكلتا الحجتين يسهل الرد عليهما ولا تصمدان أمام أي مناقشة عقلانية وعلمية. فاللغة الطبيعية التي تميز مجتمع ما، بوصفها إحدى عناصر المكون الظاهر لثقافته، هي بالضرورة من إنتاجه هو ويتوازى تطورها مع تطوره. ولا ينطبق هذا الوصف على اللغة العربية في صورتها القياسية التي تستخدمها شعوب هذه المنطقة كلغة رسمية. فاللغة العربية لم تكن اللغة الطبيعية لأي من مجتمعات هذه الشعوب ولم تكن من ضمن منتجاتها الثقافية وذلك باستثناء مجتمع قاطني الجزيرة العربية. ولكنها كانت لغة غريبة فرضها الغزاة العرب على شعوب المجتمعات التي تم غزوها في الفترة ما بين سنتي 633 و 710م. وهو الأمر الذي أكده قرار خامس خلفاء الأمويين عبد الملك بن مروان (685-705 م) الذي صدر في سنة 687 ميلادية والقاضي بتعريب الدواوين في عهده. ومما فاقم من غربة هذه اللغة في المجتمعات التي تم غزوها ما أضفاه عليها أصحابها من قداسة حدت من قدرتها على التطور والتأقلم مع طبيعة هذه المجتمعات ومع احتياجاتها المتجددة. وقد أدى هذا إلى حدوث انفصام لغوى في هذه المجتمعات بين اللغة العربية القياسية المستخدمة كلغة رسمية واللغة المحكية التي يستخدمها أفراد المجتمع في حياتهم اليومية. أما الحجة الثانية، "حجة التاريخ المشترك"، فيقصد بها مروجو هذه الأسطورة تاريخ السلطة الحاكمة لا تاريخ تطور شعوب هذه المجتمعات كل على حدة. وبالطبع لا يمكن اعتبار الإمبراطوريات التي تنشئها الحركات الاستعمارية كأساس علمي مقبول لقيام الأمم. فقبولنا بهذه الحجة يعنى قبولنا لمفاهيم من قبيل "الأمة العثمانية" أو "الأمة الإنجليزية" أو "الأمة الفرنسية"، بما كانت تتضمنه كل منها من مجتمعات بشرية مختلفة، بوصفها تمثل أمما حقيقية تمارس حياتها في أرض الواقع لا في أرض الخيال.

وتعود خطورة هذه الأسطورة إلى خاصيتان تميزاها. الخاصية الأولى هو تعدد الأشكال التي يمكن أن تتخذها هذه الأسطورة. والشكل الأول والأقدم والذي لايزال يفعل فعله هو ذلك الناشئ عن ربط اللغة العربية القياسية بالدين. وهو الربط الذي يؤدى إلى العديد من التوجهات. وأولى هذه التوجهات هو اعتبار دراسة كلاسيكيات الأدب الذي أنتجه مجتمعها الأصلي، الجزيرة العربية، أمرا ضروريا لحسن التدين وتمام الإيمان. أما ثاني هذه التوجهات فهو عن ضرورة الحفاظ على نقاء اللغة العربية وحماية قواعدها ومفرداتها من أخطار التطور. أما شكلها الثاني، "القومية العربية"، فهو ذلك الذي جاءت ولادته على أيدي مجموعة من مثقفي الشام (سوريا ولبنان) في أوائل القرن العشرين لاستخدامه كأداة للتحرر من سيطرة الإمبراطورية العثمانية. وهو الشكل الذي أدى لشيوع مفهوم "الأمة العربية" الذي تبناه دون مناقشة نقدية وموضوعية أغلب مثقفو التجديد المحدثين. أما الأمر الثاني وراء خطورة هذه الأسطورة فهو ما ينشئه تبنى أي شكل من أشكالها من آثار في مجالات السياسة والثقافة.

وقد أدى تبنى العديد من مثقفي التجديد لهذه الأسطورة، بمختلف أشكالها، وترويجهم لها إلى تآكل حاد في فعالية دورهم المنشود في تحديث ثقافة المجتمع المصري. فقد أدى تبنيهم لهذه الأسطورة في شكلها الأول، "قداسة اللغة العربية في صورتها القياسية (الفصحى)"، لسيادة نظرة متعالية للغة التي يستخدمها أفراد المجتمع في حياتهم اليومية (اللغة المصرية الحديثة التي يطلق عليها وصف العامية) وللإنتاج الثقافي المكتوب بها. وأصبحت دراسة هذه اللغة، مفردات وقواعد، دراسة علمية تؤصلها من الأمور غير المرغوبة لدرجة التحريم. وهكذا حرم هؤلاء المثقفين أنفسهم من استخدام أهم أداة تواصل مع أفراد مجتمعهم. أداة تمكنهم من "تهيئة" أفراد المجتمع لتقبل المكونات الثقافية الجديدة. وقد أدى هذا التوجه إلى زيادة "الانفصام" بين لغة المثقفين ولغة العامة.

كما أدى تبنيهم لها في شكلها الثاني، "وجود أمة عربية ينتمي إليها المجتمع المصري"، إلى تزييف غير مسبوق للوعي المصري. فبعد أن كانت "مصر دولة ذات سيادة وهي حرة مستقلة ملكها لا يجزأ ولا ينزل عن شيء منه وحكومتها ملكية وراثية وشكلها نيابي" (المادة الأولى من دستور 1923) أصبحت "مصر دوله عربية مستقلة ذات سيادة، وهي جمهورية ديمقراطية، والشعب المصري جزء من الأمة العربية" (المادة الأولى من دستور 1956) أو أصبحت مصر هي "جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم على أساس المواطنة. والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة" (المادة الأولى من دستور 1971). ولم يتغير الوضع في مسودة دستور 2013 فجاءت مادة الأولى لتنص على ان "جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شيء منها، نظامها جمهوري ديموقراطي، يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون. الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم الإسلامي، تنتمي إلى القارة الإفريقية، وتعتز بامتدادها الأسيوي، وتسهم في بناء الحضارة الإنسانية"
وهكذا كانت، ولازالت، محاولة "تذويب" المجتمع المصري، أقدم المجتمعات البشرية التي عرفها تاريخ الإنسانية، و"تغييب" هويته في كيان مزعوم غير محدد الملامح. وهكذا كانت محاولة مساواة هذه المجتمع الذي ارتكزت ثروته، منذ بداياته الأولى وحتى الآن، على العمل الشاق لأفراده مع مجتمعات أخرى لم تكن ثروتها إلا نتيجة لنهب ثروات الآخرين أو نتيجة لصدف جيولوجية أو نتيجة لقيام أفرادها بأنشطة غير منتجة كالتجارة. كما أدى تبنيهم لهذه الأسطورة إلى إحراف معيب في جدول الأولويات. فبدلا من أن يركز مثقفي التجديد اهتمامهم على التحديات والمشاكل التي تواجه كيان محدد الملامح له وجود تاريخي وحقيقي على أرض الواقع هو "الأمة المصرية" نرى العديد منهم يتبنى ويروج إما لمشاكل مختلقة أو لمشاكل لا تخص الواقع المصري من قريب أو بعيد. وتكون النتيجة الطبيعية لهذه التوجهات هو فقد "الصفوة المصرية وأتباعها القدرة على توجيه الرأي العام المصري وتبصيره وإقناعه بمصالح مصر القومية‏"(عبدالفتاح, 2009).

المراجع
السيد, ا. ن. 2010. ثقافتنا المعاصرة: التحديث أو الكارثة. القاهرة: دار المحروسة.
عبدالفتاح, ن. 2009. مصر أمة لا قبيلة‏: ‏ تمرينات الخفة السياسية ومجازاتها‏! جريدة الأهرام, 23 إبريل(44698): صفحة قضايا وآراء.
قنصوة, ص. 2007. تمارين فى النقد الثقافى. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خبراء عسكريون أميركيون: ضغوط واشنطن ضد هجوم إسرائيلي واسع بر


.. غزة رمز العزة.. وقفات ليلية تضامنا مع غزة في فاس بالمغرب




.. مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة مدنية شمال غرب مدينة رفح جنوب ق


.. مدير مكتب الجزيرة في فلسطين يرصد تطورات المعارك في قطاع غزة




.. بايدن يصف ترمب بـ -الخاسر-