الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جنة وعفريت مسروق

أحمد الشريف

2014 / 1 / 11
الادب والفن


جنة وعفريت مسروق


ما زلت أكره الاستيقاظ فى الصباح .
الرعشة التي كانت تصاحب قيامي ، وارتجافات البدن والخوف من يوم جديد ، تلاحقني .
المدرسة تلك اللعنة المكتوبة على الأطفال تجبرني أن أقوم مبكرا من بين أخوتي الصغار بعد أن نكون قضينا الليل مع الجدة ، تحكي حكايتها المليئة بالسحر والجان والوفاء والغدر والحب والجاه والمال والنساء .. كان الضباب يهدئ من روعى ، أراه بين بيوت القرية ومزارعها . لحظة أقترابي من البحر أشهاده بكثافة يلف الأرض نازلا من السماء . قطرات من الماء الندى تتجمع فوق النباتات وأغصان الأشجار ، ألمسها فتقع على الأرض وتبتل يدي . امتزاج اللون الأبيض المشرب بالرمادى الخفيف مع اخضرار الحقول يعيد السلام إلى .
أقوم مفزوعا صارخا بآه طويلة عندما كانت أمى تناديني " معاد المدرسة " . أشعر بدقات قلبى تتسارع ، أحس باختناق وأن جدران الغرفة ستنطبق على ضلوعي .. هديل الحمام كان السبب . ليلتها صعدت مع أمى للسطح ؛ لنطعم الحمام الكبير ونسقى الزغاليل . ولسبب لا أتذكره تركتني وسط الحمام ونزلت ، شعرت بدائرة محكمه حولى ، عيون الحمام تنظر إلى والدائرة تضيق تحركت فاقترب الحمام أكثر وبدأ ينقرنى فى ساقي ويطير حول وجهى ويهدل بصوت غريب ، صرخت وجريت فاصطدمت بقفص من الجريد ، سقط على الأرض وحبس صوتى ولم يخرج .
- بسم الله الرحمن الرحيم . ماله ؟
- وقع على الأرض والحمام كان واقف على ضهره ورأسه ومغطى جسمه كله .
فى الصباح أمرت جدتى بحملى لمكان الحمام وبغتة طست وجهى بالماء البارد وهى تقرأ آيات من القرأن .
استرد عافيتى عندما تأتى خالتى راضية ورضوى لزيارتنا ، وهما جاراتان لهما بيت كبير بحديقة مزروعة بالزيتزن والياسمين . ألتصق بهما فتداعبانني وتسألني رضوى ، أكبرهما :
- بتحبنى زي إيه ؟
- زى العنب .
تقول أمى : يبقى بيموت فيكي مبيحبش غيره .
- أيه رأيك لو تجوزنى أنا وخالتك راضية .
أفتح ذراعى وتتسع عيناى بفرح ودهشة :
- ياه وكمان خالتو راضية .
- شوفى يا رضوى فرحان إزاى!
يضحكان فيهتز جسماهما وتميل رضوى تجاه أمى وتهمس لها :
- سرتى بتوجعنى قوى .
وتنظر لى نظره جانبيه ، فتعلق أمى :
- يوه يا رضوى دا صغير .
ترفع فستانها وقميص نومها حتى ثدييها الممتلئتين ، أرى بطنها البيضاء الجميلة ، طيات طيات من اللحم ، فى منتصف بطنها سرتها العميقة المستديرة بداخلها عتمة وددت لو أدخلها ، احمرار خفيف حولها ، تتحسسه وهى تشكو . ثم يسمع صوت أبى فتغطى نفسها وتعتدل فى جلستها .
- ابنك يا عم عايز يجوزنا .
- الواد ده مش راضى يكبر .
وها أنا كبرت وأرهما فى الشارع ولا يعرفاننى ، انبهر بجمالهما ، لم يتغير ولم تخذلنى فى تقديره حاسة صفولتى .
يبادلانني النظر والابتسام ويشعران بالدهشة وأيضا من هذا الوقح الذى ينظر فى وجوه النساء هكذا .
يفصل بين الحقول الواسعة والمدرسة بحر كبير يضخ مياهه فى الطاحونة . صوت هدير المياه يخيفنى ، سيأتي يوم تسحب فيه المياه المدرسة إلى مكان بعيد وتنفتح الأرض ونغرق .. تنتهى الحصة الأخيرة فينتهى عذابي .
أصطحب سيد بكرى ذا الجسم القصير النحيل ونسير فى طريق طويل إلى بيته وسط المقابر . حكاياه تبدأ من غرف النوم خياله الدسم يعرى مدرسة الحساب الحلوة الشرسة ، يجعلها أمامي ضعيفة تتأوه وتشكو من صلابة وقوة الرجل الذى فوقها . قال لى أنه يملك كتاب أطلس ، به أعلام العالم وعواصم وغابات وصحراوات بعيدة . قال إن به الدنيا كلها وفى آخر الكتاب صورة للجنة . تشككت فى كلامه ؛ فالجنة سندخلها عندما نموت والأهم بالنسبة لى ، أنها لا تعنى شيئا بدون خالتى رضوى وراضية .
فى إحدى المرات أشار على قبر جديد وأخبرني أن اللصوص يأتون فى الليل ومعهم مسروقاتهم ونساء جميلات يضاجعونهن بسرعة وعنف قبل أن يبزغ الفجر ، وأنهم يسمعون فى عمق الليل أصواتا مبحوحة تستغيث وتشهق شهقات موت ولكن من يجرؤ على الاقتراب من مقبرة اللصوص .
خوفى من مدرسة الحساب ؛ دفعني لأخذ درس خصوصيا عندها . فى يوم ذهبت مبكرا ، دفعت الباب ودخلت لغرفة الدرس ، لم يكن هناك أحد . فتحت الباب الفاصل بين الغرفة والصالة ، فرأيتها على الأرض وفوقها رجل وهما فى عناق شديد ، تصيح وتتوجع وتحاول أن تنفصل عنه ، يجذبها من مؤخرتها ، فتستكين وتئن بخفوت ثم تتأوه عاليا . لماذا لا تبتعد عنه أو تستغيث بالجيران مادام يؤلمها ؟ شيء ما جعلنى أقف مكاني ، أشعر بشيء لذيذ مثير وسرى . ها هى تبدأ من جديد فى الصياح والتوجع والأنين الذى سيصل على ما يبدو حتى آخر الدنيا .
غاب سيد بكرى من المدرسة فذهبت لرؤيته ، كان يصرخ فى كلبه ، لأنه ينبح على كلب أصغر منه ، تبناه بعد أن وجده تائها بين المقابر . صوته عالى غاضب أسمعه من أول المقابر .
- مش أخوك ده ، مش أخوك ده ، بتنبح عليه ليه ، بتنبح عليه ليه ؟
رأيت عبد الحفيظ جمعه يقود موتوسيكله الجديد متجها لبيته ، بدون تردد ألقيت بنفسى فى طريقه ، تفادانى بصعوبة . شكا لأمي وأبى ، كررت نفس الأمر . عندما أراه قادما ، أرمى بنفسى أما الموتوسيكل . أتفق الجميع على أن عفريتا تلبسنى .. أخذتني جدتى لزيارة الشيخ المبروك وسط المقابر . كان يوم جمعه ولا أحد فى الضريح غير امرأة عجوز ، رحبت بجدتى وقربتنى من مقام الشيخ وهى تتلو بعض الأدعية وتمسد بيدها على الضريح المغطى بالستان الأخضر تركونى .. لشأنى وغرقوا فى حكاياتهم .
أخذت بعض حصوات وقذفتها نحو الضريح ، بعد أخر حصوة ، شعرت بالهدوء والطمأنينة تعود إلى نفسى .
غرقت فى زهور شجرة دقن الباشا ، التى تحيط كلية بغرفة القبر .
الآن وبعد عشرين سنة تنتابنى الرغبة ذاتها ولكن هذه المرة سأرمى بنفسى تحت اللوريات الكبيرة والسيارات الضخمة والجرارات ذات العجلات الهائلة ودوما أتخيل جسمي ملتصقا بالإسفلت ، كالضفادع والفئران المدهوسة .
أسير فى الظلام وبجواري المباني القديمة ، غالبا ما أشعر بخد وأنا فى دكاكين العطارة ، حيث الأشياء القديمة والنباتات البرية الجافة ..
كنت طفلا يحسد الجرذان وهى تختبئ فى جحورها والدجاج فى أخناقه ، حتى العنكبوت خلف الأبواب والأماكن الخفية أما الآن ، فأزداد عشقي للأماكن المظلمة والشوارع والأزقة الضيقة والأديرة البعيدة فى الصحراء ..
لماذا أعيش كمطارد أو كحيوان يقضى معظم حياته فى بيات شتوى ؟ ، لماذا لا أخرج للشمس وللناس ؟ ، سأضع طفولتي فى صرة وألقى بها بعيدا ؛ فالوقت لا يتسع ، وها هو الطريق يقصر وتغيم نجومى الصغيرة وينفتح ممر طويل مظلم ينبغى أن أسير فيه واصطاد بقع الضوء القليلة التى ربما تبرق فى منحنياته .

[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??