الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عمارة عقد -المرتجى .. والمؤجل-

خالد السلطاني

2014 / 1 / 13
الادب والفن


اعترف باني مفتون بعمارة العقد الثلاثيني ببغداد. اراه عقداً مميزاً واستثنائيا في اهميته العمرانية والمعمارية. إذ به، تحديدا، تمكنت بغداد أن تنتقل من مدينة في ولاية عثمانية منسية ومهمله، الى عاصمة لدولة جديدة، بهرت المنطقة وما جاورها ببيئتها المبنية الحداثية، مستعيدة شهرة إسمها الاسطورى، "المكتشف" مجدداً! انه، من دون ريب، عقد الآمال الواسعة، والواعدة.. و"المرتجاة". ففيه ترسخ مفهوم بغداد المديني، كما لم يترسخ في اي عقد سابق من تاريخها الطويل الحافل بالاحداث المفصلية الايجابية الكبرى؛ لكنه، ايضا، المثقل بالخيبات والاخفاقات والهزائم! هي التى تم "اختلاقها" من خلال فكرة، متخيلة و"طائشة"، أُريد لمبانيها ان تنحصر في موقع دائرة منتظمة ومغلقة، لتضحى بعد ذلك حاضرة العالم الاسلامي الفسيح، الممتد من اقاصي الصين، والى تخوم جبال البيرينيه في اعلى شمال شبه جزيرة ايبيريا! ستقولون: او ليس من ثمة مبالغة، بما يحدثنا به "صديقنا" المعمار هذا؟ وستكون اجابتي - قطعا لا! ذلك لان هذه الـ "لا" المؤكدة، واليقينية، تعتمد في صدقيتها، على حقائق معروفة وثابته، احتفظت، او أُوحت، بها نماذج عمارة ذلك العقد "الاسطوري" وافكاره العمرانية! ومنعاً للالتباس، ساصطفي مثالاً واحداً من نماذج ذلك المنجز المعماري المبجل؛ مثال، اطمح به، التعبير، ايضاً، عن كثرة وتنوع "ارباب العمل" واصحاب القرار، الذين دأبوا على ان تكون نماذج العمارة الحداثية حاضرة، حضوراً بليغاً، في المدينة/ العاصمة. ساتحدث، اذاً، عن مبنى منطقة "رأس القرية" في شارع الرشيد، والمشيد في منتصف ثلاثينات القرن الماضي.
يتكون المبنى من ثلاثة طوابق، أُعتبر ارتفاعه علواً ملائماً لمباني الشارع الآخرى، المخدومة من دون مصاعد. والمبنى اياه يتألف بالواقع، من "مبنييّن" متجاوريّن. وتشي لغتاه المعماريتان ونسقهما التصميمي، الى أن "مصمم" الاثنين، هو شخص واحد. لا نعرف، مع الاسف، اسمه الكامل، هو الذي اجترح لنا عمارة مميزة بمستوى مهني عال، إن كان ذلك لجهة اختياره لمقاربته المعمارية، ام لناحية دقة التفاصيل التصميمية ورهافتها وتنوعها، المستخدمة في مبناه، او في الاحرى في "مبنييّه" الاثنين. وطالما لم يسجل هذا المبنى في السجل الانجازي للمعمارين المعروفين العاملين، وقتذاك، في العاصمة العراقية، فان من المحتمل ان يكون "معمار" هذين المبنيين هو من "الاسطوات" البغداديين، هم الذين "اشتغلوا" كثيرا، وبمهارة فائقة، على ائراء البيئة المبنية معولين على مقدرتهم الابداعية، ومعتمدين على ظاهرة الممارسة البنائية، وفق ما يعرف بالبيانات المصورة (أو الدفاتر المصورة) Catalogues. فقد انتشرت في الثلاثينات موضة المكاتب التي تعنى بتقديم أنواع مختلفة من التصاميم المعمارية المنشورة في هذا (الكاتالوغات) ويترك للزبون حرية اختيار التصميم الذي يناسبه، ومن ثم يتكفل المكتب المحلي في تجسيد (الحلم) التصميمي إلى الواقع. وأكثر تصاميم تلك (الدفاتر المصورة) هي تصاميم شائعة في بلاد الشام وكذلك في بلدان حوض البحر المتوسط الأخرى، كتركيا واليونان وإيطاليا وحتى فرنسا. ورغم ان تصاميم تلك المشاريع، اتسمت على حضور عال للأسلوب (التوليفي) Eclecticism، فان كثافة العناصر الزخرفية ونوعيتها الموظفة في تصاميم تلك الابنية امتازت على حس مهني وجمالي عاليّين مشوب بالحداثة، لم تعرفها الممارسة التقليدية البنائية المحلية من قبل.
جزأ المعمار واجهته الرئيسية المطلة على الشارع (وهي الواجهة الوحيدة المتاحة له تكوينياً، اذ ان "المبنى" محصور بين ابنية آخرى) الى ثلاثة اقسام. شغل الجزء العلوي منها ستارة سطح المبنى المعمولة من الآجر، التى اتسمت بانواع مختلفة من فتحات "التثقيب" الآجرى فيها، بالاضافة الى ثراء الزخرفة الطابوقية. ان قيمتها التصميمية تنبع من اهميتها، كونها "غالقة" لجريان تكوين مفردات الواجهة. من هنا يمكن تسويغ كثافة التزيينات فيها، التى جاءت تعويضا عن مقاسها المتواضع. وجاءت معالجة الطابق الارضي، العالي نسبيا لوجود طابق نصفي فيه، مقننة بشكل عام. وتمثلت تلك المعالجة، في قرار المعمار بانحسار كتلته بعيدا عن خط الشارع، خالقا بذلك رواق مسقف للمشاة، يقع امام فراغات هذا الطابق التى اقتصرت وظيفتها على الوظائف التجارية. أختار المعمار اشكال مختلفة لتيجان اعمدة الرواق، زيادة في اثراء الجانب التزييني لمبناه. ففي حين كانت هيئة التيجان "ايونية" لاعمدة المبنى الواقع في القسم الايمن، اصطفى المصمم التيجان الكورنثية لاعمدة المبنى الايسر. ويظل القسم الاوسط من الواجهة في المبنيين، يعتبر بمثابة القسم المهم والاساسي فيهما، والتى اتت معالجاتهما بشكل متماثل تقريبا. اعتمدت تلك المعالجة على تكرار "مفردة تصميمية موحدة"، قوامها شرفة عريضة، بقدر عرض المجالSpan ، المحدد انشائيا، تطل عليها باب محاطة بشباكين من جهتيها الاثنتين. ثمة تقسيمات هندسية منتظمة اتبعها المعمار في تجزئة الاطارات الخشبية للابواب وللشبابيك، هي التى الفت بايقاعها المتكرر الموتيف الاساسي لواجهة المبنى بشكل عام. وتدلل مرجعية اشكال فتحات النوافذ والابواب، واختيار منظومة التناسب Proportion فيهما؛ فضلا على نوعية التزيينات الجدارية، المستخدمة في الواجهات، الى مقاربة عمارة "الارت ديكو" المعروفة، عالمياً، في الخطاب المعماري العالمي.
اعتبر، شخصيا، قرار المعمار بـ "تفريغ" جزء من واجهة المبنى الايمن، من القرارات المبدعة، والجريئة، والموفقة تصميميا. انه قرار مميز، يخفف من رتابة ايقاع الوحدة التصميمية المكررة، وبالتالي يمنح جمالية الواجهة، قوة تعبيرية مضافة. كما ينشد المعمار جراء قرار "التفريغ" غير المسبوق، وبوظيفته المعلقة، استحضار "اميج" الفناء المفتوح الشائع الوجود في الابنية البغدادية. واذ تمثلنا اجواء بغداد الصافية، وما قد ينجم عن ذلك من حضور طاغٍ للشفافية في الواجهة التى خلقها المعمار المُجد، فننا سنكون عند ذاك، ازاء تمرين تصميمي مبتكر، غاية في الفرادة والجمال. عندما استحدث المعمار العالمي "غوردن بانشافت" معلقتين في مبناه <المصرف الاهلي> في جدة بالسعودية (1983)، رأت الناقدة المعمارية الامريكية المعروفة، والحائزة على جائزة <بوليتزر> "آدا لويزا هاكستابل" Ada L. Huxtable ‘ في ذلك ".. فتحاً مبيناً ومبتكراً في عمارة الابنية العالية"، مغدقة عليه آيات الاعجاب والتقدير، سيما استلهاماته، بذلك العمل الابتكاري "لروح" المكان، الذي يصمم له. والحقيقة، وكما يعرف البعض، من ان معماريي مكتب "اركتيكتونيكا" Arquitectonica ، هم من استخدم "الفجوة المعلقة"، قبل بنك جدة، ضمن واجهة مبناهم الشققي "اتلانتيس" المشيد في ميامي بفلوريدا في الولايات المتحدة عام 1980-82. لكن الواقع يقول، بان المعمار البغدادي "المغمور"، في الحقيقة، هو الذي "اجترح" تلك المفردة التصميمية، قبلهما في الثلاثينات من القرن الماضي، معلقا هيئتها، كما نرى، في مبناه الرائع والمثير برأس القرية في الرشيد!
ومهما يكن، فان ظهور مبنى رأس القرية، وعمارته المميزة ..والابتكارية ايضاً، لم يكونا محض صدفة في ذلك "العقد الفريد"، الذي انطوي على وجود مبانٍ اخرى كثيرة، شكلت، كما اشرنا، نجاحات العراق واسست لعمارته الحداثية. ان مجرد التذكير بالمشاريع المنفذة وغير المنفذة التى تضمنها ذلك العقد المجيد، مثل: مبنى الكلية الطبية في العيواضية (1930)، ومبنى الميناء الجوي (1931) - مطار المثنى حالياً، ومكتبـة الأوقاف في باب المعظم (1931) <التي أزيلت مؤخـراً> ومبنى المعرض الزراعي/ الصناعي (1932) في باب المعظم ( وزارة الخارجية سابقاً )، ومبنى قصر الزهور في الحارثية (1933) <هدم وازيل نهائيا، مع الاسف الشديد، ابان احداث 2003 >، والضريح الملكي في الأعظمية (1934-37) وبناية كلية الهندسة (1936) ومعهد الفنون الجميلة ( 1936) في الكسرة ، ومقر وزارة الدفاع في القلعة (1936) ، ودار المعلمين الابتدائية (1936) والنادي " الاولمبي" في الأعظمية (1939)، بالاضافة الى تمثالي الملك فيصل والسعدون (1933)، وجسرا المأمون (الشهداء، والملك فيصل (الاحرار) (1939)، فضلا على كنيسة الدومنيكان في السنك (1932)، وجامع <الشهيد> عند ساحة الفردوس (1938)، ومعمل شركة دخان عبود وطبارة في الكسرة (1939)، ومشروع المتحف العراقي (1939)، وعشرات، بل مئات، من بيوت النخبة البغدادية ذات العمارة المميزة والمجددة، والتى جعلت من بغداد وكأنها مدينة تولد من جديد بعمارتها الحداثية المعبرة. وفي ذلك العقد، تم ايضا عمل مخطط عام للعاصمة، وصدرت فيه قوانين تنظم البيئة المبنية، كقانون البلديات الذي شرع في سنة 1931، وقانون <الطرق والابنية> لسنة 1935، والذي اعتبره "سيد" قوانين البناء، لما له من تأثير خطير على جميع مراحل تطور العمارة والبناء في بغداد والعراق عموما.
وبهذه الانجازات الحقيقة والمبدعة، فان عقد الثلاثينات، يظل يعتبر، ولا بأس من التكرار، عقد الامآل الواسعة والواعدة.. والعديدة ايضا. لقد كانت مساحته الزمنية قاصرة لاستيعاب مثل تلك الآمال المتنوعة والمجددة، حتى ان بعضها أُوجل تنفيذها لوقت آخر، إنه، باختصار، عقد "المرتجى والمؤجل" (بلغة غائب طعمة فرمان) من الآمال والتمنيات. بقي عليّ، ختاماً، أن اشير، باني عندما انهيت تأليف كتابي "عمارة الحداثة في بغداد: سنوات التأسيس"، اخترت لغلافه صورة هذا المبنى المميز، كرمز يختصر مفهوم الحداثة المعمارية ويدلل عليها. بيد أن الكتاب، الذي قدمته الى وزارة الثقافة ببغداد قبل حوالي العام، مفترضاً صدوره ضمن مطبوعات "بغداد عاصمة الثقافة العربية"، والذي عملت عليه طويلا، واستنفذ مني جهدا وبحثاً عميقيين، مابرح، للآن، اسيراَ في أدراج الوزارة، تائهاً بين "كتابكم وكتابنا"! ...لكن ذلك، حكاية "محزنة" آخرى! □-;-□-;-
د. خالد السلطاني
معمار واكاديمي

* العنوان مستوحى من رواية "المرتجي والمؤجل" لصديقي الروائي <غائب طعمة فرمان>.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل