الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من كتيبة المجهولين- اليساري بالسليقة

مصطفى مجدي الجمال

2014 / 1 / 14
سيرة ذاتية


وجدت نفسي أستدعي ذكراه.. فوجهه الشعبي المصري الأصيل يأتي إلى مخيلتي كثيرًا دون استئذان.. وهو واحد من آلاف اليساريين المجهولين الذين لا يذكرهم أحد رغم جهودهم وتضحياتهم.. اسمه رشاد مالك الحسيني.. كان موظفًا بسيطًا في إحدى المدارس، يسكن في حي السلخانة بمدينة المنصورة العامرة، وإلى جانب عمله الحكومي كان يعمل بأنشطة تجارية أخرى حتى يستطيع الزواج والإنفاق على أسرته.. وكم كان بارًا بها..

أهم ما كان يميز رشاد تركيبته الجسمانية وشعره الكث، وطريقته الشعبية في الكلام، حتى أنك لا يمكن أن ترى فيه إلا فتوة من فتوات الأحياء الشعبية.. وما أدراك ماهو حي السلخانة بالمنصورة، فهو حي الجزارين، وعربات سَقَط الجزارة تقف على جانبيه طوال النهار والليل.. واشتهر سكانه قديمًا بالحدة والعنفوان وكثرة المشاجرات المروعة..

المهم أن أول مرة رأيت فيها رشاد كانت في النصف الأول من الثمانينيات، وفي إحدى الندوات السياسية بحزب التجمع في مدينة المنصورة.. وكان فرع الحزب في المدينة هو الأنشط على الإطلاق في كل حزب التجمع. جاء رشاد على سبيل الفضول مع زميله الأستاذ في نفس المدرسة عادل عبد الباقي (وهو بالمناسبة شقيق الشاعر الكبير سمير عبد الباقي).. ولا أجد تعبيرًا خيرًا من أن رشاد "استجدع" عادل عبد الباقي لشجاعته وتهذيبه وعلمه.. وفاتني القول إن رشاد كان مهذبًا جدًا مع المثقفين، بل ورقيق المشاعر لأقصى حد.

بعد الندوة التي كانت أول مناسبة من نوعها يحضرها رشاد، وقد تصادف أن تحدثت فيها حديثًا مطولاً هاجمت فيه مبارك والنظام، وبدا لرشاد أنه في عالم غرائبي لم يتخيله من قبل.. فقد هالته هو"ابن البلد"- كما قال لي فيما بعد- ثقافة اليساريين وشجاعتهم ضد السلطة وحبهم لبعض. بمجرد انتهاء الندوة أصر رشاد على التقرب مني بالذات، وبدأ في مدحي فنهرته برقة.. ويبدو أن هذا أكبرني في عينه.

وبعد أيام كنت أسير في شارع السلخانة عائدًا إلى منزلي فوجدت من يناديني، فإذا به صاحبنا جالسًا على المقهى.. وهكذا بدأت قصة مروري اليومي عليه كل ليلة لنجلس ساعة أو ساعتين نتحدث في كل شيء.. وبلغت الصداقة بيننا أنه حكى لي أدق أسراره الشخصية والعائلية.. وأحسست به رفيقًا يحبني بصدق نادر.. وكان يتصرف معي بتلقائية عجيبة..

وأذكر أنه في أول جلسة بيننا على المقهى قال لي "لازم تاكل حاجة".. ورغم تمنعي قال على الفور لرجل في محل جزارة مجاور: "هات سندوتشين قطاطيع".. وكانت هذه أول مرة أسمع هذا التعبير وعرفت أنه سندوتش يوضع به أنواع مختلفة من السقط (فشة- كرشة- طحال..الخ). وهو بالفعل سندوتش ضخم ورهيب المذاق إذا أكلته سخنًا "مولعًا"..

ورغم وضعه الاقتصادي البسيط، وجدته يومًا يهديني "بلوفر" صوف أتى به من سفرية سابقة بالخارج.. فلما حاولت دفع ثمنه ابتأس لدرجة الدموع.. وله معي أكثر من واقعة مثل هذه.. وفي الحقيقة أنه لم تنشأ بيننا علاقة سياسية فحسب.. وإنما في غضون شهور قليلة أصبحنا صديقين صداقة عميقة.

المهم أن رشاد رأى معي يومًا كتاب "علي إمام المتقين" لعبد الرحمن الشرقاوي فرجاني أن يستعيره، ولم أكن قد قرأته بعد.. وفي اللقاء التالي أخذ يناقشني فيما قرأ.. وهكذا بدأت قراءات صديقي الجديد التي تطورت بسرعة عجيبة.. وإن ظل في مناقشاته محتفظًا بطابع شعبي وفطري محبب.. كما أخذ يشترك معنا بحماس في كل الأنشطة.

فاتني القول إن بعض الأصدقاء والرفاق "تفذلكوا" ولم يرتاحوا لهذه الصداقة.. فقال أحدهم "أأنت تصادق فتوة؟".. بل حذرني البعض من أن يكون "دسيسة"، وهو ما رفضته بشدة.. فإحساسي أقوى من أي شكوك عقلانية..

بالطبع كان لا بد لهذه الصداقة أن تلفت أنظار مخبري أمن الدولة.. وهو ما بدأت ألاحظه من مرورهم أمام المقهى ونحن جالسين، بل وتعمد إظهار أنفسهم.. ربما بدا لهم أنني بهذه العلاقة الجديدة أخترق حيًا شعبيًا، وأن الأمر لا بد من وقفه..

بالنسبة لنا نحن اليساريين في المنصورة، المدينة متوسطة الحجم، كنا نعرف معظم أولئك المخبرين، حتى بالاسم.. وهم أنواع. فهناك المخبر الذي يبادلك التحية وربما يسألك أيضًا عن أحد زملائك الغائبين. وهناك المخبر الذي يصعب عليك اكتشافه (وهو النوع الأخطر). أما أسوأهم على الإطلاق فهو المخبر الظاهر الذي يقصد إخافتك ويكاد يقول لك "أنا هنا.. وقد رأيتك"..

لم يكن لرشاد أي سابق خبرة بكل هذا.. ومن ثم سلط عليه أمن الدولة المخبرين من النوع الأخير.. وبدأت المضايقات التي اتخذت صورًا متعددة.. لكنها وصلت إلى حد أن يسير المخبر وراء رشاد بما لا يزيد عن مترين ولا يتركه أبدًا.. وفي يوم كان يسير في شارع العباسي، وذات المخبر السمج يسير وراءه في هذا الوضع الخانق.. ففقد رشاد أعصابه واستدار، وأخذ بخناق المخبر ورفعه في الهواء وهو يقول له: "عايز تمشي ورايا إمشي.. بس ابعد عني شوية!!".. وتجمهر الناس ليفصلوا بين الاثنين وهم لا يفهمون شيئًا.. وبمجرد أن أفلت رشاد المخبر انطلق الرجل يجري إلى مديرية الأمن ورشاد وراءه..

بالطبع حذرت رشاد من هذا التهور الذي يقارب الجنون.. لكن يبدو أن المخبرين عرفوا نقطة ضعفه هذه.. فتعمدوا التصعيد معه.. فعندما كان رشاد يخرج من المنزل في الصباح، يذهب مخبران إلى البيت ويسألان عنه لإرهاب أمه وأخته. وتكررت المسألة مرات. وهذا ما جعل الدم يفور في رأس صديقي.. فدبر مكيدة مهولة لم أكن أتخيلها..

ففي يوم خرج رشاد صباحًا واختفى حتى صعد المخبران إلى شقته، وبسرعة البرق كان وراءهما، وأمسك بهما، وحينما تساءل الجيران قال لا بد أنهما لصان، وإلا فماذا يفعلان هنا.. بل تمادى صديقي ووضع الرجلين داخل محل في أسفل بيتهم، وأغلق الباب الجرار عليهما.. والأغرب أنه طلب شرطة النجدة.. وبالفعل جاءت الشرطة لتمسك الاثنين المقبوض عليهما، اللذين أبرزا لضابط النجدة ما يثبت شخصيتهما.. فنظر الضابط لرشاد نظرة استهجان واستغراب وأصدر صوتًا استنكاريًا وانسحب من وسط السكان المتزاحمين بعد أن حرر الرجلين..

حينما علمت بهذا قلت إن رشاد "ضائع" لا محالة.. لكن الغريب أن أحدًا لم يقترب منه.. بل أخذ المخبرون يتحاشونه.. وازدادت علاقته بي وثوقًا..

ومرت سنوات، احتاج بعدها رشاد للسفر للبحرين حتى يستطيع إتمام زواجه. وكان عليه كأي موظف أن يحصل على تصريح للعمل بالخارج. وهذا كان عنق زجاجة تتحكم من خلاله أجهزة الأمن في رقاب كثيرين. ذهب رشاد ليستلم التصريح في الموعد المضروب، فقالوا له اذهب أنت مطلوب لأمن الدولة.

عرف صديقي أنه مقبل على كارثة.. لكن لا مفر من الذهاب. وحينما دخل على مفتش أمن الدولة.. لم يناقشه في شيء، وإنما على الفور ضربه بلكمة هائلة في بطنه، وبعدها بدأت "حفلة" تعذيب كاملة اشترك فيها كل المخبرين.. وخاصة بعد أن قال رشاد لكبيرهم "انت عارف كويس انك ماتقدرش تعمل معايا كده في الشارع.. والراجل هو اللي ينزل لراجل"..

حزنت جدا لأن رشاد حكى لي هذه الواقعة وهو منكسر.. فما أهول أن يشعر "ابن البلد" أنه ضُرب وأهين وهو عاجز عن الرد.. وشعرت بالذنب حينما قال لي: "حسيت كأنهم بيضربوك أنت يا أستاذ مصطفى".. ولما رأى وقع كلامه عليّ.. بادرني على الفور بقوله: "هم كمان كانوا بياخدوا بتارهم الشخصي مني".. وما يؤكد قصة الثأر هذه، أنهم بعدما شفوا غليلهم منه تركوه.. بل وافقوا على منحه تصريح السفر.

مرت سنوات.. ذهب هو إلى البحرين.. وانتقلت أنا إلى القاهرة.. وإذا بجرس الهاتف يدق في بيتي ذات ليلة في الثالثة صباحًا.. لأجد صديقي صاحب الروح المرحة جدًا الدكتور أحمد حاتم (وهو أيضًا حكاية لوحده) يقول لي دون مقدمات: "بقى أنا أبعد عنك سنين عشان آجي أسهر على الخليج مع واحد.. يقوم يقوللي عنك كيت وكيت.... هو أنا مش هاخلص منك جوه وبره".. قلت له: من يا أحمد؟

لم يجب.. وإنما أعطى الهاتف لنديمه.. لأجده رشاد الذي عرفت صوته من أول كلمة.. وتبادلنا عبارات شديدة الود.. حتى أن قلبي خفق بشدة وكدت أبكي فرحًا به.. وانتهت المكالمة على وعد باللقيا في أول إجازة له بمصر..

لم يمر وقت طويل حتى صعقت بخبر وفاته.. وكأنه أراد أن يهاتفني أنا بالذات قبل نهايته..

كان رشاد من أنبل من قابلت.. وكان بالنسبة لي تجربة حية مع المواطن ابن البلد الذي ينحاز إلى اليسار بالسليقة.. والذي يمكن أن يتطور بمتوالية أسرع بكثير من المثقفين..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أنا لست إنترنت.. لن أستطيع الإجابة عن كل أسئلتكم-.. #بوتين


.. الجيش الإسرائيلي يكثف ضغطه العسكري على جباليا في شمال القطاع




.. البيت الأبيض: مستشار الأمن القومي جيك سوليفان يزور السعودية


.. غانتس: من يعرقل مفاوضات التهدئة هو السنوار| #عاجل




.. مصر تنفي التراجع عن دعم دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام مح