الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المشهد وتعبيرية الجسد في السينما التونسية

سمير الزغبي
كاتب و ناقد سينمائي

(Samir Zoghbi)

2014 / 1 / 18
الادب والفن


إن المتتبع لتاريخ السينما التونسية ، يلحظ مباشرة قلة إنتاجها ، مقارنة بعديد من السينمائيات في العالم ، فهي تقتصر على بضع أفلام يمكن تعدادها بسهولة – و إن شهدت ضمن الفترة الأخيرة نوعا من التزايد في مستوى الإنتاج-إلا أن هذا الأمر لا يمكنه أن يحجب عنا بأية حال ، القيمة الجمالية و الإبداعية للسينما التونسية ، خاصة في ما يتصل ، بالنمطية الجمالية ، و التي دعمت حضورها على مستوى كوني .
كل نظر نقدي في مجال جماليات السينما ، لا بد أن يعود إلى البدايات ، حيث تشكلت النمطية ، وبالفعل فإن السينما التونسية و منذ ما يقارب الربع قرن ، انطلقت بنمط من التقنية السينماتوغرافية ، هو الأقرب إلى ما يسمى ب " الموجة الجديدة " التي شهدتها السينما الفرنسية ، مع النقد الذي أنجزه مؤسسو " كراسات السينما " و خاصة مع المخرج جان لوك قودار ، و المنظر اندري بازان .

اهم سمات الموجة الجديدة هي رفض التوظيف الجمالي للإضاءة و إستخدام كاميرات أقل وزنا وأسهل تنقلا، والتصوير شبه الدائم خارج الأستديوهات ضمن الإطار الطبيعي للأحداث، و رفض فكرة البناء السردي التقليدي ، وإحباط شغف المتفرج بالحكاية عن طريق منعه من التوحد والإستسلام للحبكة القصصية والإنقياد لها. وكذلك منع المشاهد من الإندماج في الحدث، و في مقابل كل ذلك تنحو الموجة الجديدة في السينما نحو بناء عالم إرتجالي، تلقائي، وتغيير فكرة ضرورة التوافق بين الصوت والصورة.
هذه النمطية الجمالية في تقنية السينما ، يمكن أن نلحضها في السينما التونسية ، حيث تعودنا على مشاهد من الواقع ، و تغييب كلي لتقنية السرد ، فالأحداث تتواتر ، بشكل تلقائي ، في غياب كامل لبنية نصية صارمة . إن السينما التونسية هي سينما المشهد ، سينما نبصرها أكثر مما نسمعها ، تؤثر جمال الصورة، على ثرثرة الصوت . حضور الصورة هو التعبير، الكلام الصامت، بل الكلام المعبر، بواسطة الصورة المعبرة، حيث تغيب المؤثرات التقنية و ضوضاء الألوان و تشعب الضوء.
هذه النمطية نلحظها في اغلب افلام السينما التونسية ، مثل " حلفاوين" أو ما يعرف" بعصفور السطح "لفريد بوغدير ، حيث الأحداث تدور داخل الواقع المعيش ، هنالك تغييب كلي لمؤثرات المونتاج ، والخدع السينمائية ، المخرج يؤثر أن يعبّر بواسطة الكاميرا عن الواقعة الإجتماعية والنفسية ضمن وجود محدّد ، مع إضفاء مسحة جمالية تعبيرية ، حيث إنكشاف عن تعبيرية الجسد ، والتي كانت المحرك الأساسي للمشهد و الحوار. مثل هكذا توجه سينمائي ، يوحي بالأصالة ، فالسينما التونسية لم تكن تقليدا مباشرا لرؤى و سيناريوهات سابقة. بل هي سينما تحاصر السيناريو ، لتترك فضاءا رحبا للإرتجال ، الذي تنكشف ضمنها القدرات المبدعة و الخلاقة للممثل.
سينما الواقع والجسد و الإنفعالات ، حيث يغيب التسلسل الزمني ، الكرونولوجي ، بل الأحداث تنساب داخل ديمومة سيكولوجية ، تعيشها مفردات الفيلم، كل على طريقته.
هذه النمطية ، و هذا التوجه السينمائي ، لا يختزل في ما أبدعه المخرج فريد بوغدير في مستوى حلفوين" و إنما هو منتشر ضمن أغلب الإبداعات السينمائية التونسية ، مثل "صمت القصور" و سلطان المدينة" و" ريح السد""و آخر فيلم "للنوري بوزيد .....كلها سينما لواقع كوني ، و معالجة لظاهرة إنسانية ، بإتباع نهج إبداعي متحرر من أسلوب توقع سرد الأحداث. هي سينما للصورة و الحركة ، وليس للصوت ، و الفضاء المغلق داخل الإستيديو المؤثث--الكادر المشبع- . إنها سينما الفضاء ، خارج الأستديوهات المغلقة ، هي سينما تتخاطب و تتجاوب مع مفردات الطبيعة . سينما بلا بطولة ، حيث كل الشخصيات ، تكون أساسية و ثانوية في نفس الوقت ، و أي أساسي لسينما خرقت حدود السيناريو وإنفتحت على التعبير الجسدي في أبهى مظاهره ؟ هي سينما تحتفل دوما ، في كل مشهد من مشاهدها بتعبيرية الجسد ، وبكل ماهو دوينيزوسي ، سينما تحيي و تعيد في ذاكر ة جمهورها فلسفة نيتشة ، و أدب محمود المسعدي .
"إني بأسري جسد ولاشيء سوى جسد " الجسد " هكذا يقول نيتشة في" هكذا تكلم زرادشت" عن الجسد وأهميته في وجود الإنسان . يضيف الفيلسوف – في نفس المرجع - قائلا "الأنا "ليس شيئا آخر غير الجسد الذي يمثل "عقلا عظيما"، وهو أكثر حكمة من العقل بل هو العقل الحقيقي"إنك تقول"أنا" وأنت فخور بهذه الكلمة، بل هناك ما هو أعظم منها،وهو ما ترفض تصديقه، ألا وهو جسدك وعقلك العظيم". وهذا الجسد ليس ذلك الأنا الذي يشير إلى نفسه في اللغة فيقول "أنا" وإنما هو هذا الذي يفعل ويتجسد عبر إبداعاته المختلفة "هذا الجسد هو الذي يحس ويفكر، فيفرح ويتألم، يتخيل ويفكر. مع نيتشة تنفتح مرحلة جديدة للجسد حيث تنكشف قواه الإبداعية ويتخلص من كل التشويهات التي مورست عليه خلال التاريخ، وأهمّ أمر تمثل في إجلاء قدراته الجمالية، عبر إعادة الاعتبار للظاهر والإحساس فيصبح كل ما هو جمالي وإبداعي منبعه الجسد، فعبر إنفعالات الجسد تنجلي معاني الحياة وتدفق الأحاسيس التي تكشف عن الصيرورة.
هكذا تستمد السينما مشروعية إبداعها من نصوص فلسفية تميّزت بفرادتها ، فما أبدعته هذه السينما ، ليس مجرد تعبير عن واقع مباشر ، و إنما النص السينمائي إرتقى إلى مستوى الإبداع الذي بشرت به فلسفة نيتشة ، و الذي بشر به كذلك الأدب الوجودي لمحمود المسعدي ، الذي نستعيد ذاكرة مؤلفاته ، عبر إبداعات السينما التونسية ، فالمشهد في مسرحية " حدّث أبو هريرة قال " غير منفصل ، عن المشهد السينمائي ، لدى فريد بوغدير ، ولا النوري بوزيد ، و فاضل الجعايبي . و بقية مخرجي السينما التونسية . هنالك وحدة في مستوى الشكل و كذلك المضمون . تنطلق مسرحية " حدث أبو هريرة قال " بمشهد درامي ، لجسدين يتناجيان ، في ىالصحراء ، عند الغروب . هذا المشهد المعبر للجسد ، إعتبره محمود المسعدي ، البعث الأول ، حيث ستنطلق بوادر الحيرة الوجودية ، و مسيرة البحث عن الذات ، و تأصيل الكيان " وهو أمر لايتحقق إلا في ظل مسيرة و جودية ، بدايتها ، تجربة اللذة , و التي قيمة الجسد كمبعث لممارسة الوجود . المراة و الجسد كانت من أهم لحظات المسرح الذهني ، حيث يغيب التسلسل الزمني ، فتتحدث ريحانة عن أبي هريرة ،الذي يتراوح ما بين الكون – أي كان ، يكون – و الإستحالة – الإنتقال من حال إلى أخرى- داخل مسيرة الوجود في زفرة البحث عن الذات .
بهذا المعنى تكون مقاصد سيناريو السينما التونسية مقاصد ذات أبعاد فكرية ، وجودية . فالسينما تتحول بهذا المعنى إلى لغة و تعبيرية ، ما يعبر عنه ب"سينما المؤلف " و التي تتمثل في اعتبار المؤلف الفعلي هو القوة الدافعة الخلاقة الرئيسية للفيلم. إنها سينما تدعو المتفرج لتأمل المشهد و التفكير فيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل