الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدال على تخوم اليرموك .. من يحاصر المخيم ؟

عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)

2014 / 1 / 18
القضية الفلسطينية


في الوقت الذي يموت فيه أبناء مخيم اليرموك جوعا وبردا وتحت وابل من النيران، يحتدم في الساحة الفلسطينية جدال عنيف على تحديد الجهة المسؤولة عن هذه المأساة. وبالرغم من أهمية تحديد الجهة التي تحاصر المخيم، ومن ثم إدانتها؛ إلا أن التفكير بحلول عملية تنقذ ما يمكن إنقاذه لا يقل أهمية عن ذلك، بل هما مساران متلازمان، لا ينبغي لأحدهما أن يطغى على الآخر؛ حيث أن تقديم المساعدات الإنسانية ورغم أهميتها الحيوية الفائقة، إذا ظلت منفصلة عن حل المسار السياسي فإنها ستبقى مجرد حلول مؤقتة، كما أن بيانات الإدانة والشجب لا تطعم جائعا، ولا توقف رجفة طفل تكور على لحمه العاري من شدة البرد، ولا تعفينا من مسؤولياتنا الأخلاقية تجاه ما يحدث ليس في المخيم وحسب؛ بل وفي عموم سوريا التي تئن موجوعة في محنتها العصيبة.

على أرض المخيم ومن حوله جهتان تتصارعان: النظام والمعارضة، والضحية هم الناس الأبرياء، والمشكلة أن من يعتبر النظام هو المسؤول عن حصار المخيم يتجاهل تماما دور قوى المعارضة (ولنا عند هذا المصطلح وقفة)، ومن يحمل المعارضة المسؤولية يسعى لتبرئة النظام !! وأساس هذه المشكلة قصور في تحليل الواقع، وتحليله عن بعد - وكما هي العادة - بمعزل عن السياقات التاريخية التي سبقت اللحظة الراهنة وأنجبتها. والمشكلة الأكبر هي الانتهازية السياسية ومحاولات التصيد، واستغلال البعض معاناة المخيم لتصفية حساباته السياسية القديمة.

للنظام تاريخ دموي طويل مع المخيمات الفلسطينية، بدء من تل الزعتر ومرورا بحرب المخيمات على شاتيلا وبرج البراجنة (1985 ~ 1988)، وانتهاء باليرموك، وهذه حقيقة يجب أن تظل حاضرة في أي تحليل للموقف الحالي، ولكن مسؤولية النظام عن مجازر المخيمات السابقة لا تعني تلقائيا مسؤوليته الكاملة عن مأساة اليرموك المستمرة، إلا أن قصف المخيم بالبراميل المتفجرة، وحصاره من الجهة الشمالية جرائم يتحملها النظام وحده.

حاول النظام في البدايات تحييد المخيم قدر الإمكان، وكانت قواته تدك المدن السورية بينما لم يطلق طلقة واحدة على المخيم في السنة الأولى من تفجر الأزمة، واستمر الهدوء إلى أن قام الجيش الحر بدخول المخيم (قبل مجيء داعش وغيرها)، ومعلوم أن اليرموك يشكل عقب أخيل بالنسبة للنظام، وسقوطه بأيدي المعارضة يعني سقوط النظام في اليوم التالي، وأي نظام سياسي دكتاتوري مستعد ذهنيا وعمليا لإبادة مدينة بأكملها لحماية نفسه، ولنا أن نتذكر مجزرة حماة (شباط 1982)، وعندما تظاهر أبناء اليرموك ضد الانشقاق عام 1983، صرح رفعت الأسد بأن اليرموك ليس أعز علينا من حماة !! وطبعا المعزة تعني الاستعداد للقتل.

وبالنسبة للنظام؛ فإن اليرموك ليس ثغرة أمنية وعسكرية وحسب، بل هو قلب العاصمة، يقطنه مئات الآلاف من السوريين الذين وجدوا فيه فرص معيشية أفضل قبل تفجر الأزمة، وملاذا آمنا في بداياتها، وبالتالي من الصعب توقع أن يضحي النظام بنفسه، ويترك المخيم لخصومه خوفا على حياة ساكنيه.

ولنفس الأسباب، ولكن بأيديولوجية مختلفة استخدمت قوات المعارضة مخيم اليرموك رهينة للضغط على النظام، وتعاملت معه على أنه مجرد موقع إستراتيجي يتيح لهم توجيه ضربات موجعة للنظام، دون أي اعتبار لحياة ساكنيه. ولولا دخول التنظيمات المسلحة إلى اليرموك لظل منطقة آمنة محايدة، ولكن منذ متى تهتم الجبهات المتصارعة بحياة المدنيين ؟! وهل نتوقع من التنظيمات "الجهادية" التي جاءت من أربع أصقاع الأرض أن تركز "جهادها" على القوات العسكرية وتحيّد السكان المدنيين ؟؟ هذا توقع أكثر سذاجة من التوقع السابق.

وإذا كان النظام السوري قد منح اللاجئين الفلسطينيين على أرضه حقوقا متساوية مع حقوق المواطنين السوريين، فإنه تعامل مع الجميع على قدر المساواة في القتل والقصف العشوائي والاعتقالات التعسفية، (تعميم الظلم عدالة نسبية)، أما في الجهة المقابلة فإن التنظيمات "الجهادية" لم ترى منذ البداية أي فرق بين السوري والفلسطيني، وبين العسكري والمدني (في حقهم بقتل كل من يخالفهم)، وهذا ليس نابعا من نزعة إجرامية وحسب؛ بل هو نتاج تربية صارمة أنتجتها العقيدة الوهابية (المعين الأيديولوجي لتنظيم القاعدة)، حيث يتبنى الفكر الوهابي المتزمت ما يعرف بمبدأ الولاء والبراء والتترس، ويقوم هذا المبدأ العنصري على فكرة موالاة كل من يتفق معهم واعتباره حليفا، ومعاداة كل من يختلف معهم واعتباره عدوا يجب تكفيره، وبالتالي يجوز قتله بدم بارد، وليس هذا وحسب، بل ويجوز لهم قتل مدنيين عزل، نساءً وأطفالا إذا كان هذا يخدم جهادهم في سبيل الله. (راجع أبو محمد المقدسي في كتابه ملة إبراهيم ودعوة الأنبياء والمرسلين).

إذن، نحن أمام معركة كسر عظم بين جهتين متصارعتين، لديهما نفس الاستعداد للقتل والتدمير، مع سجل حافل بالجرائم الدموية، وهاتان الجهتان تحاصران مخيم اليرموك، في جغرافية معقدة متشابكة، تتداخل فيها الخطوط ونقاط التماس وبالتالي المسؤوليات ومناطق النفوذ، في لحظة تاريخية هي الأسوأ في تاريخ سوريا، ومن الواضح أن آخر ما يفكران به هو حياة الناس المدنيين فيه، وإذا كانا لا يحفلان بحياة الأبرياء، فلن يهتموا لمعاناتهم وجوعهم وخوفهم ومصائرهم المجهولة.

وقد تفاقمت المأساة أكثر بعد دخول داعش والنصرة والجيش الحر في صراع داخلي، وعلينا أن نتذكر أن جرائم التنظيمات المسلحة (وطبعا معها النظام) لم تقتصر على مخيم اليرموك، إذ نسمع كل يوم عن مذابح جماعية في المدن والقرى السورية التي يحتدم فيها الصراع، وعلينا أن ندين هذه الجرائم بنفس القدر من إدانة جريمة حصار اليرموك وترك سكانه يموتون جوعا.

وفي نفس السياق من الجدال المحتدم، اختلفت الأطراف في تقييم موقف منظمة التحرير الفلسطينية من مأساة اليرموك، بين من يحملها المسؤولية الكاملة، ويتهمها بالتقصير وعدم المبالاة والسلبية، وبين من يدافع عنها، ويرى أنها قدمت كل ما يمكن تقديمه.
المشكلة أن بعض الأطراف الفلسطينية الموالية للنظام السوري لا تريد أن ترى الجانب السياسي والعملي في مسؤولية النظام، وتصر على أن التنظيمات المسلحة وحدها هي التي تعيق إيصال الإمدادات والمواد الإغاثية، ونفس الخطأ المنهجي لمناوئي النظام، بل ويطالبونها بإدانة النظام رسميا وعلنا، ومنهم من يطالب بإرسال قوات فلسطينية للمخيم.

في خضم هذا الموقف المعقد، تجد القيادة الفلسطينية نفسها في موقف صعب وحرج للغاية، بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات؛ فهي أمام مسؤولية تاريخية إزاء مأساة مخيم فلسطيني يموت ببطء، تقف عاجزة عن فعل شيء نوعي ينهي المأساة، بل وحتى في إيصال المعونات والمواد الغذائية، فإذا كان النظام بجيشه وطائراته ودباباته عاجز عن حسم الموقف في اليرموك (وغيره) فكيف لمنظمة التحرير التي ليس لديها قوات عسكرية هناك أن تحمي المخيم ممن يحاصرونه !؟ وإذا أعلنت انحيازها لأي طرف، أو أدانت أي جهة فإن المدنيين في المخيم هم الذين سيدفعون الثمن من دمائهم، ولنا عبرة مما حصل في الكويت والعراق ومصر ولبنان حين حين تورط الفلسطينيون في الصراعات الداخلية لتلك الدول.

ومع ذلك، يرى كثيرون (وربما يكونوا على حق) أن ما بذلته القيادة الفلسطينية من جهود ليس كافيا، ولم يرتق لمستوى المأساة، وأن عليها بذل المزيد، ولكن علينا نحن جميعا: فصائل وقوى ومستقلين، جماعات وأفراد، صغارا وكبارا أن نتذكر في كل لحظة أن في اليرموك حاليا ثمة طفل خائف، وشيخ مريض، وأم تعجز عن إطعام أطفالها، ومرضعة جف صدرها، وأب مات كمدا وقهرا، وعائلات بلا مأوى، ومخيم بأكمله ينزف دما، وفوق كل هذا الخوف والقتل والدمار لا يجد كسرة خبز تمنحه يوما إضافيا يعيشه على أمل، وعلينا جميعا أن نتحمل المسؤولية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية بفرنسا.. ما مصير التحالف الرئاسي؟


.. بسبب عنف العصابات في بلادهم.. الهايتيون في ميامي الأمريكية ف




.. إدمان المخدرات.. لماذا تنتشر هذه الظاهرة بين الشباب، وكيف ال


.. أسباب غير متوقعة لفقدان الذاكرة والخرف والشيخوخة| #برنامج_ال




.. لإنقاذه من -الورطة-.. أسرة بايدن تحمل مستشاري الرئيس مسؤولية