الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقد التأويل الشريعتي للفكر الماركسي

عقيل صالح

2014 / 1 / 18
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


علي شريعتي, المفكر الذي تتنافس عليه أغلب التيارات الفكرية الرائجة, اليوم, أغلب التيارات, وخصوصاً العربية والفارسية, ترى في علي شريعتي ما تريده, ومثل الشيء ينطبق على نيتشه. تلك التيارات ترى في علي شريعتي ما يعبر عن نظرتها للعالم, خصوصاً آرائه فيما يتعلق بالإسلام, والتدين, والإعتدال, وخصوصاً أن علي شريعتي اصبح رمزاً ثورياً في إيران.

يستحق علي شريعتي, وأقول هذا الكلام من دون اي مجاملة كاذبة أو تواضع كاذب, كل التقدير والإحترام منا, ليس لأننا نوافقه في الرأي ( بل لا نوافقه بشده) , بل لأننا نجد في نصه اثراء فكريا يستحق الوقوف عنده ويستحق التحدث عنه وبالتالي نقده. وقد أنتقينا لفظ ((الشريعتي)) أو ((الشريعتية)) في سبيل فصل أفكار شريعتي عن الأفكار الإسلامية الأصولية المعروفة تجاه الفكر الماركسي. فهي لا تملك سوى اللعن والشتيمة تجاه مجمل الماركسيين في العالم, ولهذا لا يستحق هذا الصنف نقدنا, ولكن علي شريعتي بالرغم أنه يؤمن الفكر الاسلامي بشكل متطرف, إلا أنه في النهاية يطرح اختلافه مع الماركسية طرحاً, لن أقول علمياً, بل منتظماً ومتناسقاً, أيّ, من دون الاسفاف الذي يمتلكه سائر المؤدلجون.

وفي الحقيقة الدافع الذي جعلني أن أكتب عن نظرة علي شريعتي, بالرغم أنني كنت أعرف نبذة عنها, هو تنبيه أحد الأصدقاء حيال كتابه (أو كتيبه) : (( الماركسية ومغالطات غربية أخرى)), وقد نبهني هذا الصديق حول هذا الكتاب منذ فترة طويلة إلا أنني لم ألتفت إلى هذا الكتيب لأسباب عديدة. عندما شرعت بالقراءة لم أكن راغباً بالتوقف, ليس بسبب أسلوب الكاتب, بل لأني كنت أريد أن أعرف رأي شريعتي حول الماركسية بشدة, وكنت أرغب أن أتعرف على فكره من خلال قلمه هو. واثناء قرائتي لكتيبه تمنيت لو مُنح شريعتي سنوات إضافية ليحيى فيها من أجل أن يرى حال إيران في العهد الاسلامي الذي كان يتوق له.

وما حدث قد حدث, لقد مات شريعتي, ولكن الأفكار هي التي تبقى, وفكره هذا بقي إلى حد يومنا هذا ليتم تمحيصه ونقده. ولقد رأيت أثناء قرائتي للنص, أن مجمل الأفكار التي يطرحها في سبيل دحض الماركسية واردة اليوم لدى مجمل التيارات الطبقة-الوسطاوية سواء كانت ماركسية أم لا, ولا سيما واردة عند أغلب الأحزاب الشيوعية التي تحولت إلى أحزاب وطنية وتحمل الفكر الإشتراكي الديموقراطي المعادي للشيوعية بشكل عام.

ومن خلال هذا, سيكون من الشيق طرح أفكار علي شريعتي المغلوطة حول الماركسية في الكتاب المذكور آنفاً, ليس في سبيل نقده وحسب, بل أيضاً في سبيل نقد أفكار اغلب التيارات الطبقة-وسطاوية حيال التاريخ السوفيتي والفكر الماركسي بشكله العام, سواء كانت ماركسية أم لا.

يمكن مقارنة اهداف وأفكار شريعتي بأهداف وأفكار الإيطالي باريتو, الذي كان معظم كتابته هدفها نقض الليبرالية والماركسية, وأنصب نقده في أن الصراع لا يأخذ الشكل الطبقي بل يأخذ أشكالاً أخرى, ويتفق شريعتي مع هذه النظرة في كتابه المذكور. وبالرغم أن الجوهر الفكري يختلف من باريتو إلى شريعتي, إلا أن أفكار الطبقة الوسطى دائماً تأخذ منحنى لاإنتاجية في تحليل الواقع.

ويتراءى لي أن غالباً ما ينطلق المثاليون من خلال تحليل الجوهر البشري وتأثيره على التاريخ والمجتمع, فعلى خطى تأثير الفلسفة الوضعية والهيجيلية, رأى شريعتي- وايضاً باريتو- أن البشر يمكنهم أن يخلقوا مصيرهم, وبالطبع هذا التحليل لا يبالي بالأوضاع المادية والواقعية.

ما يعتقده المثاليون هو اذا فهم البشر الفكرة المطروحة (أي فكرة) سيصبح كل شيء جاهزاً, أو صحيحاً, سواء كانت هذه الفكرة فاشية او إسلامية أو غيرها من الإيديولوجيات. فالإيديولوجيات تحتاج إلى تنظيم فكري وسياسي وحسب, وبهذا ستتمكن من أكتساب القوة في التأثير, هذا ما يعتقده المثاليون, ولا سيما ان شريعتي واحداً منهم.

يبدأ شريعتي – في كتيبه المذكور- في الحديث عن ((جوهر)) الإنسان وضرورة البحث عن جوهر الإنسان الحقيقي, وأن جميع الإيديولوجيات (وليكن في العلم أنه يعتبر الماركسية إيديولوجية من الايديولوجيات) قد فشلت في تأويل هذا الجوهر الحقيقي وبذلك عدم القدرة على تحرير الإنسان بشكل كامل.

ويذكر أن هناك أربع تيارات فكرية هامة تعبر عن نظرات مختلفة نحو الانسان وهي : الليبرالية الغربية, والماركسية, والوجودية, والدين. ويلحق هذا نقده الاساسي للماركسية والليبرالية قائلاً :

((الماركسية والليبرالية الغربية كلتاهما تتباهى بإنسانيتهما. السابق يدعي أنه يترك الأفراد يفكرون بشكل حر والتشجيع على البحث العلمي (...) الأخير يدعي بمثل الهدف ولكن من خلال إنكار هذه الحريات وحبسها في رهن تنظيم ديكتاتوري الذي يحول المجتمع إلى تنظيم واحد في ظل إيديولوجية واحدة سائدة, وإدخاله في انتظام واحد رتيب.)) ولاحقاً يسأل : (( ولهذا يمكننا أن نسأل من دون مزاح : أليس الماركسية أكثر بورجوازية من البورجوازية نفسها ؟)).

يملك شريعتي, بشكل مختزل جداً, نظرة أو موقف عام تجاه الماركسية, فهو يرى المسألة إما توفر الحرية أو لا, فالليبرالية توفر الحرية ولكن تجعل الإنسان يعمل من دون توقف, والماركسية لا توفرها ومع ذلك تجعل الإنسان يعمل من دون توقف. هذا رأي شريعتي, ويرى أن الإنسان لا يعرف قيمته من خلال هذا التنظيم الاقتصادي الشديد, وبذلك الجوهر الإنساني يكون غائباً.

هذه النظرة يمتلكها من يجلس في المكتب ويدخن سيجارة ويشرب القهوة, يمتلكها المعزول عن العملية الانتاجية ولا يعرف خصائصها, ولهذا يتكون الفكر بشكل منعزل عن الحياة الانتاجية, وبل يطرح أموراً يستنبطها العقل وحسب. ولهذا من الطبيعي أن يفكر شريعتي, حسب موقعه الطبقي, بشكل منعزل عن الواقع الانتاجي, فهو يبحث عن جوهر الانسان من دون إنتاج, ومن دون واقع اقتصادي, ولكن بالشكل التجريدي, من الناحية القيمية والاخلاقية.
ولهذا ليس من الغريب أن يقول : (( فولتير وماركس كلاهما اغمضا عيناهما عن الجوانب الروحية للجوهر الإنساني)).

هو يتوقع من ماركس أن يتحدث عن الجوانب النفسية, والعاطفية, والقيمية, الاخلاقية عن البشر, وكأنما تلك الاشياء هي التي تحدد جوهر الإنسان الحقيقي. لا يمكن معرفة جوهر الانسان الروحي من دون المعرفة المقربة, فكيف لي أن أعرف جوهر شريعتي الروحي ؟ فعند قراءة هذا النص لا يمكن معرفة سوى الموقع الطبقي الذي ينتمي إليه شريعتي, لا مكان للحالة الذهنية أو الروحية في هذه المسألة, هذا لو كان هناك أي معنى لمفهوم الروح. شريعتي يشدد على الجوانب الغير مادية الغير ملموسة, بينما لا وجود لتلك الاشياء في التأثير الحركة التاريخية, ولنفترض بوجودها, فهي لا تقاس, ليس لها وزن, وليس لها دور أو أي مكانة, وبهذا ليست مادية, ويمكننا أن نقول أن لا يمكن التحدث عنها لأنها موجودة في العقل وحسب, بينما في الواقع هي غير قابلة للقياس. أما الموقع الاقتصادي والطبقي, فيمكن قياسه, ويمكن التنبؤ به, ويمكن رؤيته بوضوح. وهكذا الحركة التاريخية لا يمكن تقاس بأشياء غير ملموسة, لا يمكن أن نقيس حركة التحرر الوطني, على سبيل المثال, من خلال (( الحماس)) الثوري, أو من خلال ((كراهية)) الشعوب للإستعمار, بل يمكن قياسها من موقعها الطبقي الذي يجعلها راغبة بالتحرر. الجوانب الأخلاقية والقيمية في الحياة البشرية ليست مطلقة, بل هي تذيل الأوضاع الاجتماعية, وتحركاتها, وتطوراتها, تحددها تطور القوى الانتاجية.

يفسر شريعتي عدم فهم الفلاسفة والمفكرون الغربيون للدين لأن الديانات السائدة في الغرب ليست مثل الديانات الشرقية التي يوجد فيها تواصل جلي وواضح مع الإله الذي يعبر, في النهاية, عن الجوهر الروحي للبشر. وإزاء ذلك يقول :

(( في الديانات الشرقية العظيمة, للإنسانية علاقة فريدة مع إله العالم. في الديانة الزرداشتية يتحالف أهورامزدا مع البشر في معركة الخلق الكبرى, في سبيل الانتصار على انجرا مانيو وأتباعه. تلك الأديان الصوفية والغامضة تكون مبنية على وحدة الوجود وعلى قلوبهم جميعاً. (...) وفي الإسلام, بالرغم من الإنسان يبعد عن الله بشكل لانهائي(...) يعتبر الإنسان كالكائن الأوحد الذي يمتلك روحاً إلهية, متحملاً مسؤولية الثقة الإلهية ..))
يرى شريعتي عظمة الأديان تكمن في فهم الجوهر البشري, وهذا الجوهر يتعلق بالوجود البشري ككل. وأن تلك الاديان قائمة على الاساس البشري وحسب.

يبدو أن الإله ذاته يفكر بطريقة مثالية, فبالرغم من أن جميع العلوم قائمة على البشر بشكل خاص, حيث البشر هم المحور الاساسي للبحث والتعقب, إلا أن هناك عوامل أخرى, من صنع البشر, تسبب في سيرورة تاريخهم بشكل عام. ولكن هذه العوامل لم تأتِ بطريقة غائية, أيّ, لا توجد سببية في تطور البشر ككل, بمعنى لم يتطور البشر وفقاً لإرادتهم الخاصة, وهذا التطور لم يحمل سبباً واعياً بذاته. ولكن الأديان والمثاليات الأخرى, ترى ان البشر يتطورون وفقاً لإرادتهم, ووفقاً لوعيهم العلمي آنذاك, كما مثلاً طرحت الفلسفة الوضعية.

فأي جوهر بشري يتحدث عنه شريعتي ؟, يمكن للمرء ان يغمض عينيه ويتنبأ بكلام شريعتي التالي, من حيث انطلاقه من مسألة الخلق ككل. هو يحبذ فكرة تقديس الإنسان, وهي فكرة لابد ان يحبذها وينتهجها البشر اجمعين, ولكن ليس بطريقة تفسر أن بإمكانهم أن يخلقوا تاريخهم ومجتمعاتهم بهذا الشكل المطلق.

يتجلى فيما بعد الموقع الطبقي الذي ينتمي إليه شريعتي بشكل جيد, فهو على غرار الفاشيين, يتباحث عن طريق ثالث, طريق لا يتضمن الرأسمالية ولا الشيوعية, وهذا الطريق الثالث يرفض نمط الإنتاج الرأسمالي والإشتراكي. ليس من الناحية الفكرية, كما يتصورها شريعتي, ولكن من الناحية الهوية الطبقية, يخاف شريعتي من الرأسمالية أن تجرده من هويته الطبقية, الطبقة الوسطى, ويخاف, بالإضافة, من الاشتراكية التي هدفها بلترة المجتمع ككل وتلغي تقسيم العمل لتكوين العامل الشيوعي.

ولهذا يقول :
(( النظامان الاجتماعيان الرأسمالي والشيوعي, بالرغم من اختلافهما في الشكل الخارجي, إلا أن كليهما يعتبران الإنسان كحيوان اقتصادي. معالمهما المختلفة تعبر عن الاختلاف ما بينهما حول من ذا الذي سيقدم لهذا الحيوان الاحتياجات بشكل أفضل)).

فإذن شريعتي يرفض الواقع الاقتصادي ككل, ويرى ان هذا الشكل الشمولي للاقتصاد يجرد الانسان من جوهره الذي يتمحور حول الحرية, على غرار المدرسة النقدية. لا يرى شريعتي أي حرية في ظل الانتاج الجمعي الاقتصادي, ولكن في فهم الوجود البشري بشكل متكامل (ويلمح هنا إلى نظرة الدين), ولكن الحرية الحقيقية بذاتها, تتجلى وتتخلق عندما يعلم البشر الملامح الكونية ككل وفحواها الكامل, وعندما يتمكن البشر من الانتاج التعاوني المشترك في سبيل البقاء من دون قيود طبقية استغلالية, عندئذ يتمكن البشر من تكريس ذاتهم للطبيعية الكونية بشكل مطلق, وعندئذ يمكن ان يختلف ادوار البشر على حسب رغبتهم الخاصة وفقاً للعمل الأوحد وهو العمل (الشغل) الشيوعي, ولهذا الحرية لا تتشكل بشكل مستقل عن الطبيعة, بل تتشكل في ضمن النطاق المعرفي التام لهذه الطبيعة.

ويجد شريعتي نفسه لاحقاً منقلباً ضد المادية الديالكتيكية, رافضاً منهجها الكلي المتكامل والشامل, لأنه لا يمكن أن يتخيل الشيوعية, وليس عليه أن يتخيل, فحتى الماركسيين ليس بمقدورهم أن يتخيلوا المجتمع الشيوعي, لأنهم لم يخلقوا هذا المجتمع, بل هو حقيقة تاريخية. التطور التاريخي, من المنظور الانتاجي, يؤدي إلى الشيوعية بشكل حتمي. ولكن, لا يمكن لجيش البورجوازية الوضيعة أن تسكت عن التحول إلى الشيوعية, فهذا سيجرد أهم صفة هوياتية لهم, وسيدخلهم إلى انتاج جمعي لا مكان للذاتوية فيه.

ولهذا يقف شريعتي ضد الحتمية التاريخية بقوله :
(( من خلال جمع "الديالكتيك" و"المادية", لا ينزع ماركس تاج المجد من الإنسانية وحسب, بل يؤسس مبدءاً مادياً حتمياً على وفوق القوى الحتمية التاريخية لدى البشر, الذي, في السياق العملي, يبلغ إلى تأسيس قيود أخرى. وهذا يؤدي, في الحقيقة, إلى تكبيل الإرادة البشرية, التي هي بالأساس المصدر الأساسي لأسبقية البشر في العالم.. ))
يمكننا أن نسأل بدورنا هنا هل لا يؤمن شريعتي بأي حتميات تاريخية ؟ أليست الإيديولوجية الإسلامية تتحدث عن مختلف الحتميات ؟ أليست الإيديولوجية الإسلامية من أكثر الايديولوجيات إيماناً بالحتميات ؟! ماذا عن حتمية ظهور المهدي ؟ ماذا عن حتمية يوم الحساب ؟ ماذا عن حتمية الجنة ؟ ماذا عن حتمية جهنم ؟. ولئن كان مقصد شريعتي الحتميات في نطاق السوسيولوجيا, فإن السوسيولوجيا يمكن أن تكون لها حتميات كأي علم من العلوم الأخرى.

يتجلى في المنهج السوسيولوجي الحديث, وكذلك القديم, بتجريد العلوم الاجتماعية من طابعها العلمي الكلي المتكامل, ومحاولة إظهارها بأنها مجموعة من الفرضيات النظرية وحسب تتعلق حول المجتمع. وهذا ما حاولت أن تثبته الأنظمة البورجوازية القديمة والأنظمة الإستهلاكية الحديثة في سبيل إلغاء أمكانية الحتمية بزوالها.

وإذ نستطيع أن نقرب مفهومي غرامشي ومهدي عامل حيال الأفكار الطبقية السائدة, سنجد أحقية فيما يقول هذين المفكرين, من حيث الأفكار الطبقية السائدة سواء في المجتمعات الحديثة أو القديمة, تحاول أن تمحور كل العلوم, ومن ضمنها علم الاجتماع في سبيل تحقيق إرساء ثقافتها الطبقية الخاصة بها. ولا توجد أي طبقة, سوى طبقة البروليتاريا, تريد أن تعترف بزوالها القريب.

ويبدو أن شريعتي وقع في فخ الفكر الطبقي السائد أثناء محاولته لمقارعته, ونفى وجود حتميات في المنهج السوسيولوجي. بينما بمجرد قراءة حركة الصراع الطبقي, وبمجرد قراءة الحركة التاريخية بشكلها المادي, وبمجرد قراءة تطور التناقضات ما بين القوى الانتاجية والعلاقات الانتاجية, سيتمكن المرء من رؤية المستقبل القريب. كل ما حدث, من مجموعات تاريخية تراكمية, إلى حد الآن هي أحداث لم تخرج من النطاق التنبؤي (العلمي) للفكر الماركسي. كل ما حدث, من صعود الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية وسقوطها, كلها تحت رهن الحركة الديالكتيكية الماركسية. الصراع الطبقي الذي يجري اليوم, في الأزمة الإنتقالية, ما بين القوى الانتاجية والاستهلاكية كلها تحت رهن الحركة الديالكتيكية الماركسية.
وقد عايش شريعتي فترة التحرر الوطني, ألم يتحقق جل ما تحدث عنه لينين في العام 1921؟ ألم تكن دعوة لينين بالتحرر الوطني صحيحة ؟ أليس التنبؤ بفك الروابط بين التخوم والمتربول أمر قد تم التنبؤ به وتحقق ؟ كل هذا لم يكن يدور في بال شريعتي أثناء نقده للحتميات في الفكر السوسيولوجي.

وأثناء نقض شريعتي لمفهوم الحتمية, رأى أن الحتميات تجرد الإنسان من إرادته الحرة, ولهذا رأى أن الاديان هي التي تتناول المفهوم الإنساني الحق, ولا سيما الديانة الإسلامية, التي يطلق عليها – شريعتي- غالباً بالإيديولوجية.

وبالرغم أنه يعترف بأن تم إختازل المفهوم الإسلامي في عهد ما بعد الخلفاء الراشدين, وأتصور أنه يقصد النظام الأموي, إلا أن فحوى الدين الإسلامي الحق القائم على "التوحيد" و"الحرية" هو الكفيل بإعادة فحوى الإنسان الحق.

يتطرق شريعتي فيما بعد, كما يفعل الكثيرون, وبشكل خاطئ, إلى طوباوية الماركسية, فنجده قائلاً :
(( الماركسية : إزالة الرأسمالية, والطبقات, والدولة, والإستغلال (...) وفوق هذا إزال عبودية المرء التي تشوه جوهر الإنسان الحقيقي في ظل نظام إنتاجي وإجتماعي. كم هذا هو مذهل ! مجتمع قائم على ببساطة على " الكل وفقاً لعمله" إلى "الكل وفقاً لحاجته" !. ماذا يعني هذا ؟ هذا يعني مساواة مطلقة ما بين كل الناس ! (...) هذه هي يطوبيا ! لا! هذه المرة ليس اي دين يتحدث عن هذا الفردوس, وليست فلسفة تتحدث عن المدينة الفاضلة, وليست فكرة تنتمي إلى المثالية كذلك, مثالية الإشتراكيين الاخلاقيين, ولكنها فلسفة علمية تعمل على هذا الأمر ! .))

أعتقد أن أي شخص مطلع على الإنتقادات التاريخية التي وجهت إلى الماركسية, لن يجد في هذه الفقرة ما يخالف نظرة تلك الإنتقادات, وبل هي شبه مستنسخة من جميع تلك الانتقادات. هذه الفقرة تقول لنا, إما شريعتي لم يقرأ حرفاً من الماركسية, ولا أعتقد أنه لم يقرأ, أو إما يحاول متعمداً تشويه الفكر الماركسي.
يعلم شريعتي أن الإنتقال من الكل وفقاً لعمله إلى الكل وفقاً لحاجته لا يجري بالشكل الطوباوي الذي طرحه, ويقوم شريعتي بطرح المسألة بهذا الشكل, ليقول, في النهاية, أن الماركسية تسلب فردية الإنسان. وهذا الشعور الفردي لا يشعره إلا شريعتي, ويعمم هذه الفردية على كل البشر. يبدو أن شريعتي لم يقرأ سخرية ماركس, وانجلز, ولينين من المساواة التامة التي يتحدث عنها الطوباويون.

عندما يصل القارئ إلى الفصل الماقبل الأخير في كتيب شريعتي, سيجد وصول شريعتي إلى الطريق المسدود, أو إلى إنهيار فكري يعرقله من إنتقاد الماركسية أكثر.

ينتقد شريعتي أولاً المنهج السوسيولوجي للماركسية الذي يقسم المجتمع إلى البناء الفوقي والبناء التحتي, ويعتبره أمراً دوغماتياً. ويرى هذا التقسيم دوغماتياً, لأنه في الأساس لا يريد أن يعترف بالعوامل الاقتصادية والانتاجية بأنها عوامل تشكل الحياة البشرية, بل يحب أن يرى الحياة البشرية حرة وطليقة لا من يقبض عليها, هو لا يتحمل رؤية ان البشر محكومين بالعوامل الانتاجية لتشكيل آرائهم وفكرهم وثقافتهم.

على غرار كانط, الذي يرى ان الميكانيكية الاجتماعية عبارة عن التحليل الموحد والمركب والأخير للآراء المطروحة, فإن شريعتي يرى أن المجتمعات لا تحكمها العوامل الاقتصادية بقدر ما تحكمها العوامل الفكرية, والفكر الأقوى هو الذي يشرح بشكل صائب الجوهر الإنساني الحقيقي.

وفي الحقيقة تجاوزت اوروبا حقبة التأويل على اساس تطوري الوعي أو الفكر, خصوصاً بعد الفكر الماركسي, ولكن كما يبدو أن هذا هو السلاح الوحيد الذي يستطيع شريعتي أن يحارب به الماركسية.

يواصل شريعتي نقده من منحنى آخر, وهو المنحنى الديني, فيرى أن ماركس لا يفهم حقيقة الأديان, لسبيين, الأول أصله اليهودي الذي تحول فيما بعد إلى بروتستانتي, الثاني هو انه قرأ عن الأديان الغربية وحسب, واعطى مثال قصة بروموثيوس حول ذلك( الإله الذي اعطى البشر النار الإلهية من دون رضى وعلم الآله الاخرين, فقاموا بوضع الأغلال عليه كعقوبة) فمن خلال هذا يرى شريعتي أن ماركس متأثر بالأديان التي تبرز الوجه القبيح اللامساعد للإنسانية, وهو السبب الرئيسي لكره ماركس للآلهة.

يقول شريعتي : (( عندما يقول ماركس " أشعر بالكراهية تجاه الآلهة" يجب أن نبحث في طريقة إنتقائه للمصطلحات (...) إختياره لكلمة "اكره" هو ليس بإختيار طبيعي. هذا الإختيار يعبر عن عاطفة وهو ليس تعبيراً فلسفياً أو علمياً)).

ويقول ايضاً : (( يبدو أن معرفة ماركس بالأديان تقتصر بمعرفة والده ( اليهودي, والذي تحول إلى بروستانتي لاحقاً). أنه لم يسمع عن المذاهب اليهودية, والمسيحية البروتستانت, والإسلام))

لا يزال شريعتي لا يفهم لماذا ناقض ماركس الدين بشكل عام, فهو يرى أن ماركس عنده عقده شخصية ولهذا يكره الآلهة بشكل عام, ويلمح أن الاساس النظري الماركسي هو اساس انحيازي عاطفي ومبني على اساس سايكولوجي ضد الدين. ما نوع من الكلام الفارغ الذي يتفوه به شريعتي ؟! هو يكرر بشكل أعمى كلام الشيوخ المسلمين الذين يؤولون موقف الفرد من الإله على اساس انه موقف يتعلق بحادثه شخصية. ويحاول بشكل مغلوط أن يربط ماركس بالأصل اليهودي والتحول إلى البروستانتية له علاقة بموقفه من الدين بشكل عام. هل هناك كلام أرخص من هذا ؟ أليس هذا كلام إسلامي بشكل متميز ؟!

وهنا الكارثة الفكرية التي يقع فيها شريعتي, حيث أصبح يؤول أفكار المرء بشكل إسلامي متعصب, لأنه لم يعد يملك سلاح المحاربة, بل أصبح يبحث ان اسباب يناقض فيها ماركس, مثل أي مفكر فاشي آخر.

الكوارث الفكرية التي سقط فيها علي شريعتي يزداد حجمها, فهو لن يتوقف عن الكلام الفارغ الذي يفضح المكانة الطبقية التي ينتمي إليها شريعتي :
(( هذا المستقبل, الذي سيبدأ مع إلغاء الرأسمالية والماركسية, هو ليس مقرر مسبقاً أو مسبق الصنع, بل يجب بنائه. وليس هناك ثمة شك ان الإسلام سيصبح له دوراً في هذا الامر عندما يتم تحريره من قرون من الركود, والخرافات, والتلوث, ويتم تحويله إلى إيديولوجية حية. هذا هو واجب الحقيقي لمثقفي الإسلام.))

هذه الفقرة تحمل أفكاراً صحيحة, مثل صعود الطبقة الوسطى بعد انهيار كلتا الطبقتين الانتاجيتين, هذا هو أمر قد قام شريعتي بتنبا به, ولكن بشكل مغلوط. المطلع على الكتابات الفاشية سيرى ان جملة من الافكار الشريعتية تقف يداً بيد مع الافكار الفاشية.

الطريق الثالث هذا ما يطمح إليه مثقفي الطبقة الوسطى, عالم خال من الانتاجية, ومفعم بالجوهر الانساني الحق, الطريق الثالث هو ما تحدث عنه الفاشيون, وهو ما تحدث عنه شريعتي, وهو ما يتحدث عنه الاحزاب الشيوعية اليوم, وهو ما تتحدث عنه الأنظمة الاستهلاكية. وهذا يفسر صعود الاسلاموية بعد سقوط الأنظمة الاجتماعية الرأسمالية والإشتراكية.

علي شريعتي, بالرغم من عقله الموسوعي, وتاثره بفرنسا, إلا أنه فشل في تؤويل الماركسية, كما يفشل الشيوعيون اليوم في تؤويلها, ونقول أن علي شريعتي قد أجاد تحليل الأديان, وخصوصاً فيما يتعلق بالأموية والتشيع الصفوي والعلوي, إلا أن هذا هو نطاق مجاله الفكري, فحينما حاول تخطي هذا النطاق سقط في إنهيارات فكرية لا تليق بمقامه الفكري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحياتي للرفيق عقيل صالح
فؤاد النمري ( 2014 / 1 / 19 - 22:08 )
هكذا يتكلم الماركسيون
حبذا لو يتعلم أشباه الماركسيين كيف يتكلمون
مع كل الإحترام والتقدير

كنت علقت اليوم صباحاً تعليقاً طويلا يعرف الحرية كما يعرف الأنسة لكن يبدو أن الداجن أكل تعليقي


2 - الرفيق العزيز فؤاد النمري
عقيل صالح ( 2014 / 1 / 21 - 20:45 )
أشكر مرورك العطر رفيقي العزيز,

يبتذل أنصاف الماركسيين اليوم كل المفاهيم والمصطلحات, ولا سيما مفهوم الحرية بشكله العام.

تعليقاتنا عادة يجري حذفها او تشويشها, وقد حدث معي كثيراً في السابق ..

تحياتي , كل المحبة والإحترام..

اخر الافلام

.. سيارة جمال عبد الناصر والسادات تظهر فى شوارع القاهرة وسط أكب


.. احتجاجات جامعة إيموري.. كاميرا CNN تُظهر استخدام الشرطة الأم




.. كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في افتتاح المهرجان التضا


.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيمرسون بأ




.. شبكات | بالفيديو.. هروب بن غفير من المتظاهرين الإسرائيليين ب