الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصين و - أنفلونزا- الفساد

عبدالله المدني

2005 / 6 / 20
العولمة وتطورات العالم المعاصر


قبل سنوات شبه مسئول صيني كبير الفساد بالأنفلونزا لجهة سرعة انتشاره و عدم وجود علاج حاسم له. غير أن الرجل رغم صحة تشبيهه فاته أن يستدرك ويضيف أن فيروس الفساد كبقية الفيروسات يمكن الوقاية منه أو الحد من حيويته و انتشاره أو التقليل من آثاره المدمرة نسبيا عبر تغيير ظروف البيئة التي عادة ما يتكاثر فيها ، وهي هنا البيئة المفتقرة إلى الشفافية و أدوات الرقابة الديمقراطية و حرية التعبير و الإعلام الحر.

مثل هذه البيئة ، وخاصة إذا كانت البلاد تموج بحراك اقتصادي و تنموي واسع و سريع من ذاك المولد لشهية الإثراء السريع و اغتنام فرص الاستثمار الذهبية، لا شك أنها ستفرز متواليات من الفساد من الصعب التصدي لها بالأدوات التقليدية مثل مضاعفة العقوبات وزرع الخلايا التجسسية وتغيير المسئولين دوريا.

وهذا تحديدا ما حدث في الصين منذ عقدين أي بعد سنوات قليلة من انفتاح البلاد اقتصاديا دون انفتاح سياسي مصاحب يخفف من قبضة النظام الشمولي. وهو أيضا ما تضاعف حجمه و تعددت أشكاله و مصادره في السنوات الأخيرة إلى الحد الذي بات يهدد سمعة البلاد الاقتصادية و يضعف ثقة المستثمرين فيها و يفقدها بلايين الدولارات سنويا. و يكفي أن نعرف أن حالات الفساد مجتمعة تسرق من الناتج المحلي الكلي ما نسبته 15 بالمئة.

احد تجليات الفساد الأكثر بروزا في المجتمع الصيني كان و لا يزال التهرب الضريبي عبر تزوير البيانات و دفع الرشاوي و استثمارات العلاقات الشخصية و الذي يشكل خسائر تصل إلى 7-9 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي. المظهر الآخر يتجسد في الاختلاس و السطو من قبل الموظفين الرسميين على أموال مؤسسات القطاع العام و الذي خسرت الدولة بسببه نحو 8 بلايين دولار في عام 2003 وحده طبقا لناطق رسمي. غير أن هذا كله لا يقارن لجهة تأثيره على سمعة البلاد المالية بما استجد في السنوات الخمس الأخيرة من حالات الاختلاس والتلاعب و التحايل والرشوة و التزوير المتكررة في القطاع المصرفي والذي يعتبر ركيزة النمو الاقتصادي.

هنا نضطر لفتح هلالين كبيرين لإيراد أمثلة مستقاة من البيانات الرسمية المتتالية التي لولاها لما عرفنا بتفاصيل حالات الفساد. ففي خلال الأشهر الخمسة المنصرمة من العام الحالي فقط اختفى مدير احد فروع بنك الصين ومعه 100 مليون دولار ، و هرب إلى الخارج احد كبار موظفي بنك الإنشاءات الصيني و بحوزته 8 ملايين دولار، و اعتقل مدير البنك المذكور على خلفية قضية أخرى تتعلق بحصوله على مليون دولار كرشوة من إحدى الشركات الأمريكية، و أوقف عشرات الموظفين في احد المصارف التجارية بتهمة التواطؤ و التحايل لسرقة بليون دولار، وأحيل 43 موظفا في فرع بنك الصين الزراعي بمدينة "باوتو" إلى التحقيق بتهمة اختفاء 14 مليون دولار من الحسابات المصرفية، و تم اعتقال احد موظفي فرع مصرف الصين في مدينة "داليان" بعدما تصرف في ودائع بقيمة 6 ملايين دولار لمنفعته الشخصية.

والسؤال هنا هو : إذا كان كل هذا حدث في خلال اقل من نصف عام فماذا يا ترى حدث قبل ذلك؟ لا شك أن ما حدث في السنوات الماضية كان أيضا مذهلا و كبيرا في ظل حمى البحث عن الثراء السريع و الذي - طبقا لإحدى الدراسات الأكاديمية- قاد مدراء و مسئولين كثر و من مختلف الدرجات في المصارف و المؤسسات المملوكة للدولة إلى الاختلاس بهدف تعديل أوضاعهم الاجتماعية أو الإنفاق على ملذاتهم أو المضاربة في البورصة وصالات القمار في مكاو.

و الغريب انه لا حالات الإعدام الخمس و العشرين التي نفذت في مسئولين حكوميين في السنوات الأربع الماضية بعد إدانتهم بالسرقة و الارتشاء ، ولا إرسال الآلاف من زملائهم إلى السجن لمدد تتراوح ما بين 10-20 عاما ، استطاعت أن تلجم ظاهرة الفساد هذه ، بل الوقائع تقول انه حدث العكس.

الأسباب يرجعها البروفسور زهاو تشونشينغ من جامعة بكين إلى ضعف النظامين القضائي و الرقابي و الذي بثغراته الكثيرة يشجع البعض على الفساد و التمادي في خرق اللوائح و القوانين و المراهنة على أن ألاعيبه لن تكتشف. أما مؤسسة مكينزي للاستشارات فتقول أن احد أسباب تفشي الفساد في القطاع المصرفي تحديدا، هو أن الكثيرين ممن تورطوا في فضائح مالية أو تسببوا في الديون المعدومة (بلغت في العام الماضي وحده نحو 204 بليون دولار) ظلوا في مناصبهم المصرفية أو أعيدوا إليها بفعل نفوذهم وعلاقاتهم مع أركان الدولة و الحزب الحاكم، و تحت حجج مثل الحاجة إلى خبراتهم أو منحهم فرصا جديدة لتصحيح ما تسببوا فيه. وتفسير مكينزي هذا تؤيده على الأقل واقعة واحدة شهيرة هي الخاصة بالمصرفي زهانغ غويلين المعتقل حاليا و الذي تسبب من خلال إدارته السيئة لأحد المصارف العامة قبل أربع سنوات في تحميل الصين قروضا معدومة بقيمة 80 بليون دولار، لكنه رغم ذلك وضع على رأس مؤسسة جديدة أنشأت خصيصا للتعامل مع مثل هذه القروض ، فكان أن تسبب في خسائر جديدة بمئات البلايين من الدولارات كنتيجة للفساد و الإهمال و الصفقات المشبوهة أو السريعة.

المعطيات و أرقام الخسائر السابقة (رغم أنها في المجموع الكلي تظل قليلة بالمقارنة مع إجمالي حجم الإيداعات و الأصول المصرفية في الصين والبالغة في نهاية العام المنصرم نحو 3 تريليون دولار) ألحت على السلطات الصينية الإقدام على خطوات تقليدية أكثر جرأة، فكانت سلسلة الإجراءات والقوانين المصرفية الجديدة التي أفصح عنها في شهر مارس المنصرم. من هذه الإجراءات تقديم مكافآت مالية كبيرة لكل من يبلغ عن حالات الفساد ، وتدوير المناصب المصرفية، و مراقبة سلوكيات المصرفيين الشخصية لاستبعاد ذوي الولع بالمخدرات و القمار، إضافة إلى تحميل مدراء المصارف وفروعها مسئولية كاملة عن حالات الغش و التزوير و التلاعب التي تقع في مؤسساتهم، ووضع آليات دقيقة تستهدف التمهل و التدقيق قبل انخراط المصارف في قروض و صفقات تجارية غير مضمونة الربح.

وقد فسرت هذه الصحوة الصينية المتأخرة بأنها استعداد كان لا بد منه لتنظيف البيئة المصرفية المحلية و ضبطها قبيل فتح أبواب البلاد لاستقبال المصارف الأجنبية في عام 2007 تطبيقا لشروط منظمة التجارة الدولية. لكنها في الوقت نفسه صحوة تستهدف أيضا المحافظة على السمعة المالية لبلد يحاول أن يبرز على الخارطة العالمية كقوة اقتصادية عظمى. وفي هذا السياق يعلق البروفسور صن ليجيان من جامعة فودان في شنغهاي قائلا ما معناه أن النظام المالي الصيني باعتباره الداعم و المحرك الأول لعملية النمو الاقتصادي في البلاد متضعضع و يشكو من خلل كبير و بالتالي يحتاج إلى غربلة كاملة كي يكون قويا و صلبا و مفرزا لنمو اقتصادي صحي يتجاوز البريق و اللمعان اللذين يميزان أحوال مدن معدودة كبكين و شنغهاي.

د. عبدالله المدني
تاريخ المادة: 19 يونيو 2005
البريد الالكتروني: [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية في بريطانيا.. هل باتت أيام ريشي سوناك م


.. نحو ذكاء اصطناعي من نوع جديد؟ باحثون صينيون يبتكرون روبوت بج




.. رياضيو تونس.. تركيز وتدريب وتوتر استعدادا لألعاب باريس الأول


.. حزب الله: حرب الجنوب تنتهي مع إعلان وقف تام لإطلاق النار في




.. كيف جرت عملية اغتيال القائد في حزب الله اللبناني؟