الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النسيان هو ضيق المساحات التي نخصصها للآخرين في معيشنا اليومي.

كريم اعا

2014 / 1 / 20
الادب والفن


في التاسعة من صباح أمس رحل جدي عن هذه الحياة، ولم أتمكن من السير وراء جثمانه.
تحضرني الآن صورته ولا أريد ان أفقد تفاصيلها: رجل ناهز الثمانين حولا، وربما التسعين، فهو ذاته غير عارف بعدد السنين التي عبرت ذاكرته.
تتدلى من ذقنه لحية، يحرص على بقائها في طول معين، بيضاء كندف الثلج.
عينان صغيرتان.
أنف بارز بعض الشيء.
أذنان كان حجمهما الكبير نسبيا، يثير انتباهي وأنا طفل صغير.
ثقب في أذنه اليمنى كان تميمة توهم أبواه أنها ستحميه وتحفظه حتى لا يعرف مصير إخوته الذكور.
لم يستطع جدي أن يحافظ على حاسة سمعه سليمة ليلتقط بها همس الرياح وشدو البشر. فلم تكن أذنه اليمنى تلتقط أي صوت حسب قوله، ويحتاج من يحدثه لرفع صوته حتى تميزه الأذن الأخرى، وبالرغم من ذلك كان يسترسل في حديثه ويبعث في مستمعيه الحرارة والدفء الإنساني لكون كلامه مثيرا وجذابا بل ينطق حكما.
بشرة سمراء وتجاعيد في كل مكان من وجهه الذي لا تفارقه ابتسامة طفولية.
رأس استوطنها الشيب منذ ردح طويل من الزمن، تعلوها عمامة بيضاء لا يفارفقها إلا حين يشغل باله أمر ما أو حين يغفو أويصبح طريح الفراش.
جدي متوسط القامة، نحيف الجسم وبارز العظام.
لا يفارق جلبابه الأبيض، ويستعين كلما أحس بالبرودة بسلهام أبيض اللون هو الآخر.
يحرص على وضع جرابه (أقراب) تحت إبطه ما أن يستفيق، أو تحت وسادته إن غفا واستراح.
لم يكن جدي غليظ القلب، بل هو مثال للرجل المؤمن بقدره والقانع بيومه وأمسه وغده. وبرغم سنين عمره كان محبا للعمل والحركة ولعلهما سر حيويته حتى آخر أيام حياته.
خنصر وبنصر كفه اليمنى صارا متصلبين ومائلين، كبنصر اليسرى، في اتجاه راحة اليد بفعل ما عانته يداه من عمل شاق ومضن في حقول الجنوب الشرقي المنسي.
صورة لملايين الفلاحين البسطاء الذي يعانون الفقر والتهميش، والذين يكدون ويكدحون في شروط طبيعية واجتماعية قاسية لتوفير لقمةالعيش لهم ولنسلهم.
أصيب هذا الرجل الذي يعرفه الجميع بحكمته ووقاره في السنين الإثني عشرة الأخيرة من عمره بنوبات هلوسة ووساوس تكدر ليله وتعكر مزاجه، فتراه يبوح جهارا بما يشغل باله ويعيش ماضيه حاضرا بكل حرارته وعنفه.
كانت عطلنا المدرسية ونهاية الأسبوع فرصته ليعود إلى مسقط رأسه حيث يعيد صلته بالأرض والحيوانات وبالعمل وبالناس.
مرض جدي فجأة، وأصبح أسير فراش لم يغادره لإثنى عشر يوما.
سقط الخبر الحزين معلنا عن فقدان هذا الرجل/ الإرث الذي أحببنا من كل قلبه وبادلناه نفس المشاعر ماضيا وتاليا.
إنه مكتبة حية، وكتاب تاريخ حي أضعناه. خطفه منا الموت ونحن لم ندرك بعد أهميته، شأنه شأن الكثيرين من حفظة تاريخ هذه المنطقة التي لم تعرف التدوين والمعتمدة على ذاكرة شيوخها.
فتحية إلى جدي الحو وموحى وجبور.
أعيد نشر هذه الصرخة التي كتبتها ذات مساء من 16 يناير 1994، في الذكرى العشرين لرحيل شخص لم يغيبه النسيان.
النسيان هو ضيق المساحات التي نخصصها للآخرين في معيشنا اليومي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??