الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قائمة للنسيان - قصة قصيرة

أحمد الخميسي

2014 / 1 / 22
الادب والفن


قائمة للنسيان
د. أحمد الخميسي
قصة قصيرة

كانت الساعة الثالثة ظهرا حين هبط من الميكروباص وانعطف يمينا إلى أول شارع جانبي. مشى ببطء نحو العمارة بأعوامه التسعة عشرة، في قميص نصف كم وبنطلون جينز، بحذاء رياضي أبيض وكاسكيت قماش صفراء. مشى بعصبيته ونحافته وقلبه الساخن من شمس مشاعره.
"لاتحاولين حتى أن تتصلي لتصالحيني؟ . أوكي. خلاص. قسما بالله لأوريك كيف تكون القطيعة. خلاص. لكن تذكري. على أية حال أنا سأتذكر أن ثلاثة أيام كاملة مرت من دون أن تتصلي. لو اتصلتِ لسمعتُ رنين المحمول فلستُ أصم. تثبتين للمرة الألف أنك كتلة من الأنانية. إذا لم تتصلي الآن قبل أن أبلغ باب الشقة فلا تتصلي بي أبدا. مفهوم؟ ".
أصبحت العمارة على مرمي البصر. سار ببطء ليمنحها وقتا أطول للاتصال. تمهل عند المدخل. فتح صندوق البريد الفارغ. تأنى وهو يغلقه. صعد السلالم ببطء. تريث عند كل طابق. رغم ذلك كله وجد نفسه أمام باب الشقة من دون رنة اتصال. تنفس بعمق. رفع رأسه لأعلى بتصميم وحسم " طيب. إذا لم تتصلي الآن قبل أن أفتح الباب اعتبري أن علاقتنا انتهت للأبد. الآن آخر فرصة لك. لا؟ . أوكي".
أدارالمفتاح في الباب. " خلاص. سأنساك تماما. هذه المرة وجدت طريقة لكي أنساك إلي الأبد".
دخل الشقة. شاهد والدته في الصالة تقشر بطاطس في طبق وزميله ناجي أمامها على الكرسي المقابل على ركبته كتاب. نهض ناجي واقفا وتطلع إليه من فوق رأس الوالدة بنظرة استفهام. هز له رأسه بالنفي.
كان ناجي صديق طفولته منذ المدرسة وزميله بسنة أولى كلية الآداب، ومطلع على كل شيء. كان معه منذ اليوم الأول الذي تعرف فيه إلى نجلاء في كافيتريا الكلية. لكن نجلاء يومها اختارته هو. ربما لأن ناجي هاديء الطبع كما أنه ظل في ذلك اليوم يبربش بعينيه كثيرا.
قال لأمه "سندخل حجرتي لندرس". قطعا الصالة وما إن أغلقا باب الحجرة عليهما حتى استفهم ناجي بلهفة "ألم تتصل؟". قال " لا. أنا قررت أن أنساها تماما ".
كان بالحجرة سرير لشخص واحد ومكتب صغير. على الحائط صور لنجوم الفن وزعماء. في كل ناحية ملابس مرمية. استراح ناجي على طرف السرير ووضع مرفقيه على فخذيه ورأسه لأسفل " نجلاء تحبك، أما الشجار والنقار فيحدث كل يوم ".
صاح فيه " اسكت وحياة والدك. ما هذا الذي يحدث كل يوم؟. أيحدث كل يوم أن تتهم فتاة حبيبها بالخيانة لأنها رأته في حلم مع بنت أخرى؟! يانجلاء كيف ذلك؟ تقول لي – رأيتك معها. بالأمارة هي بيضاء وطويلة فلا تكذب. يا بنت الحلال هذا حلم! . الأحلام لا تأتي من فراغ يا محترم. قل لي من هي هذه الصعلوكة؟ أين التقيت بها؟. أتغضبين بسبب حلم؟. لا يا أستاذ بل أغضب لأنك تخونني !. يانجلاء اعقلي . أتقصد أني مجنونة؟ عندك حق أنا مجنونة لأني صدقتك ووثقت فيك. من يومها أتصل بها عشرين مرة في اليوم. أرسل لها رسائل على المحمول. لا ترد. ثلاثة أيام بلياليها لا يهمها أني أشتاق إليها. لا يهمها أني محروم منها؟ لا يهمهاأني أضع المحمول بجواري وأنا نائم، أستيقظ مرتين أو ثلاث في الليل متخيلا أني أسمع رنينا وأنها تتصل؟ السخيفة التافهة عذبتني وأحرقت أعصابي". قال ناجي " لا تافهة ولا شيء. هي بس مرهفة وحساسة. تحملها ".
صاح فيه " أتحملها ؟ لماذا؟ ". نهض واقفا. رفع كتفيه لأعلى قليلا ومط شفته وبعينيه استغراب ثم دق كفا بكف " ياربي! ياربي! ما الذي أعجبني فيها؟ صوتها؟ ذكر بط ! عيناها؟ مبحلقة! وكيف تمشي؟ تندفع في الشارع تطوح ذراعيها كأنها في حلقة ذكر! عميت حين أحببتها؟ طبعا عميت! ". طقطق ناجي بلسانه "لا. لا. عمري مارأيتها تمشى هكذا. بالعكس. نجلاء تلمس الأرض برقة وتكاد تطير كملاك. وعيناها؟ واسعتان تسحبان الإنسان. لا. لا. نجلاء جميلة".
هب فيه "لا جميلة ولازفت. جميلة تخاصمنى وامتحانات آخر السنة على الأبواب؟ قل قاسية، أنانية".
وقع بصره على الكتاب بيد ناجي "تاريخ الأدب الانجليزي". قال "لا أدري كيف يكون تاريخ الأدب أطول من الأدب نفسه؟!". استدار وسحب دفترا وقلما من على سطح المكتب. جلس بجوار ناجي على طرف السرير " أوكي. على أية حال فإني فكرت طويلا كيف أنساها ووجدت طريقة". تساءل ناجي بشك " أية طريقة؟ ". قال "اسمع. سابقا كنت كلما تشاجرنا أحاول إخراجها من رأسي لكني كنت أنساها في مشهد فتثب لي عيناها من مشهد آخر، أنسى جولاتنا عند حدائق الأورمان فتقفز ابتسامتها أمامي. أطرد ابتسامتها من مخيلتي، فتمشي نحوي من مدرج المحاضرات. الآن، بعد تفكير، وجدت طريقة علمية لنسيانها ". تساءل ناجي "علمية؟ ".أخذ يشرح له " فكرت أني لكي أطرد كل شيء من ذاكرتي فلابد أن أتذكر كل شيء. أسجله.وأتذكره جيدا لكي أنساه. خذ عندك مثلا..
أخذيدون في دفتر على ركبته:
1- التمشية في حدائق الأورمان.
2- اليوم الذي ذهبنا فيه إلي السينما. أذكر اليوم كله. رافقتها حتى البيت وركبت معها المصعد. كنا وحدنا. قبلتها. ياخرابي ياناجي. مشهد فظيع لا ينسي. تسجيله ضروري لكي أنساه.
زام ناجي: هذه ذكرى لا تضيع بسهولة. أيضا لا تنس كوفي شوب الروضة. قضينا فيه أيام التعارف الأولى؟
قال:آه. بالضبط ! يخرب عقلك! جميل أنك ذكرتني!. دونته.
قال ناجي: والحقيبة القش المشغولة بعصافير ملونة؟
قال: أية حقيبة؟
قال ناجي: الحقيبة التي كانت تعلقها على كتفها أول مرة التقينا بها في الكافيتريا ؟ ألاتذكرها؟
قال متشككا: لكن هل الحقيبة مهمة فعلا؟ أوكي سأسجلها احتياطا .
نهض صالح واقفا وقد تذكر: آه. فرشاة الأسنان. كدت أنساها. هي التي ألحت عليَّ أن أنظف أسناني يوميا حين رأتني أدخن كثيرا واشترتها لي. من يومها لم أبدل الفرشاة. كنت أشعر بأنها معي كلما نظفت أسناني صباحا. سأحطمها وأرميها. أتعرف ماالذي فاتني تسجيله؟ نظرة عينيها. بالذات حين كانت تنظر إليَّ بحنان. سجلتها.
تمتم ناجي بتأثر: نعم. نظرتها دافئة. لكن هل تظن أن هذه الطريقة علمية ؟ أقصد تنفع ؟
قال:بالطبع. سأحتفظ بالقائمة معي كلما تذكرت شيئا أكتبه لكي أنساه. الآن سأنساها طوال الوقت. سأنساها باستمرار.
دق جرس المحمول. رقمها على الشاشة. التهب وجهه من الانفعال. شع دفعة واحدة بحيوية ونضارة.
قال: أوكي. سآتيك حالا. حالا.
سأل ناجي متنهدا بخفوت: نجلاء؟.
أجابه بعينين لامعتين بالفرح: هي. روح قلبي. هي. هل هناك غيرها ؟. اختطف الكاسكيتةالصفراء. اندفع من الحجرة إلى الصالة كالسهم. خرج من باب الشقة يطوي كل ثلاث درجات من السلم بقفزة واحدة.
هرول ناجي خلفه. استند على حافة السلم. رأسه لأسفل ينادي:
- ياصالح! أعود لبيتي أم أنتظرك؟
استدار راجعا يضغط كتاب تاريخ الأدب الانجليزي تحت إبطه. دخل إلى الحجرة. جلس إلى المكتب وفتح الكتاب أمامه. "ظهرت قصص المغامرات الخيالية الانجليزية شعرا في القرن الثاني عشر". أغلق الكتاب. أطلق زفرة حارة " نسي يوم تفسحنا بقارب في النيل وهي واقفة تضحك بين البنات".
تنهد بخفوت " نجلاء جميلة. جميلة جدا ! ".

***
أحمد الخميسي. كاتب مصري








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال


.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ




.. إسرائـ.يل سجنتني سنتين??.. قصة صعبة للفنان الفلسطيني كامل ال


.. عمري ما هسيبها??.. تصريح جرئ من الفنان الفلسطيني كامل الباشا




.. مهرجان وهران للفيلم العربي يكرم المخرج الحاصل على الأوسكار ك