الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدلية الوطن والمنفى في قصيدة أسعد البصري

وديع العبيدي

2014 / 1 / 23
الادب والفن




العلاقة بين النص الادبي والشعري -تحديدا- والواقع هي علاقة محدثة، تتصل ببدايات الوعي الاجتماعي وأهميته داخل النص الأدبي. ان تاريخ العرب هو تاريخ ملوك وحكام، وليس تاريخ مفكرين وأدباء، ومفاخرهم تتمثل بالحروب والغزوات التي تدعى (الأيام والمغازي)، وليس التآليف والدواوين. وظيفة الأدب وأهله لا تخرج عن نطاق الجوق الرسمي – أو الشعبي-. بداية الوعي الاجتماعي في النص الأدبي تتصل بشعور الفرد بالاغتراب في أرضه ومجتمعه، وهو يواجه الظروف الاقتصادية كالجوع والفاقة وفقدان الأمن، أو الظروف الطبيعية كانتشار الاوبئة والفيضان في أواخر العهد العثماني، دخولا في القرن العشرين.
ويمكن تحديد طريقتين للتعامل مع الحدث الاجتماعي: التعامل من خارج الحدث، التعامل من داخل الحدث. الطريقة الأولى هي الأكثر شيوعا، مقابل ندرة الطريقة الثانية. الكتابة من خارج الحدث يمكن تصنبفها منظورا لها عبر ثلاثة اتجاهات: منظور رسمي (حكومي/ شعبي)، منظور طبقي، منظور ايديولوجي. فالكاتب هنا يمثل دور ناطق اعلامي بلسان الجهة التي يمثلها طوعا أو توظيفا. وتدخل هاته النصوص في باب الدعاية أكثر من علاقتها بالابداع كحالة ذاتية. يعتبر الرصافي أبرز وأصدق حالات التعامل من داخل الحدث، كما في موضوعيه الأثيرين [اليتيم، الأرملة] على الصعيد الاجتماعي، وموقفه من الاحتلال الانجليزي لبلده على الصعيد السياسي. كان الرصافي جزء من الحالة التي عبّرت عنها نصوصه، وفي مذكراته يؤكد أن (الصدق) أبرز قيمة انسانية تعلمها في طفولته ولم تفارقه، وقد تحمّل مثله تبعات صدقه ومبدئيته في حياته، فعاش مشرّدا مغتربا في بلده حتى ميتته البائسة.
إلى جانب الصدقية والمبدأية، تحتاج الكتابة من الداخل إلى التجربة -العميقة- في الموضوع، ليمكن استيفاء الحدث حقّه، بشكل يجعل من النص (دالة) عليه. والحدث في نصوص الشاعر أسعد البصري هو واقع الاحتلال بكلّ أجوائه وملابساته وما يطفح منه ويتقافز من أسئلة ومعادلات مقلوبة تزيد من حدّة الوجع النفسي والفكري للشاعر.
العلاقة بالاحتلال كحدث، في ضوء انعكاسها داخل الأدب العراقي، لا يشكل علامة فارقة -للأسف-، والاحتلال – كمصطلح- يجري تغريبه بحسب الموقف السياسي العام. وفي الحدود الضيقة لتفاعلاته يمكن تقسيمه إلى صنفين: حدث نقطوي منقطع زمنيا، حدث خطي متصل الوجع. البعض أدرج نصوصا بحكم الانفعال بالمفاجأة أو الوقع لبعض الوقت، ثم انقطع عنه كفعل ماض. حالة نادرة يمثلها أسعد البصري أشبه بالنزيف -لوكيميا- لا تتحدد في اطار القصيدة أو المقالة أو الخاطرة او النقد، وانما هي كلّ ذلك وفي كلّ شيء.
استمرار الحالة يؤكد عصيانها على العلاج، وفي نزيفه الشعري المتواصل تقدح أفكار، وتتعالى صرخات، يقطعها نشيج، ويدخل في تناصات شعرية ونقدية، سياسية وصوفية، ولكنه لا يعرف التوقف ولا يمكن تصوّره. بعد جملة نصوص شعرية في بدايات النشر، انساق للغة النثر، وهو يدعوها أحيانا -خاطرة- هي أقرب لحالة الهذيان المتألقة في نقطة وسطية بين اللاوعي والوعي الشعري. عمق ألمه المهيمن أفلت لغته من الاطر الفنية والهندسة - الميكانيكية- للنص والموضوع والاسلوب والبلاغة الى حالة من هيمان تتجاوز اللغة ومحدداتها.
عمق الألم يمثل قسوة التجربة الحسيّة الذاتية، ولكنه في خضم ألمه لا يريد أن يحتكر الحالة لنفسه، فيتجه لأسماء ومشخصات أدبية واجتماعية، شخصية، تراثية وتاريخية، وكأنه يقاسمها –أو يدعوها لمقاسمته- الألم وعمق المأساة. أسعد البصري ليس سياسيا ولا راسماليا ولا رئيس عشيرة أو طائفة، ولم يكن مسؤولا حزبيا أو محافظا أو وزيرا سابقا، ولا اعتقد أنه كان مرشحا فيما يدعى –مجلس نواب-. أسعد البصري لا ينوب إلا عن نفسه، ولا يمثل غير ألمه وما يشعر به تجاه وطنه، ولكن عمق انتمائه الوطني وصدقه الانساني يجعله لسان حال من لا لسان له. قد يحتاج الألم – لدى البعض- إلى رحلة قد يطول أمدها، حتى تخترق طبقة الأحاسيس المتضمنة في جلدة الدماغ. وقد يضيع الألم فيضل عن سبيله للبعض الآخر. يترجم البصري مثلا كنديا فحواه أن كثيرا من لطش الطين لا بدّ يجعل بعضه يلصق. والطين هنا هو مادة تكوين الخلق.
حالة المنفى لها صلة فاعلة في نصوص البصري، عبر مسمار الاغتراب الذي يتغرز في قلب المغترب.. الذي يزداد دخولا في النص - الوطن- كلما ابتعد عنه بدنا، بحسب تعبير الراحل سركون بولص. وفي قصيدته (أراني نعشا) يرسم صورتين على درجة عالية من التناص والتماهي داخل الذات. وكلّ صورة مركّبة من طبقتين أو طابقين..
اولاهما: الكلام هو نعش محمول على أكتاف الرجال (صورة خارجية)، وفي داخلها (أنا- الشاعر) في هيئة نعش يحمله الكلام على كتفيه. فالصورة الكاملة هي نعش داخل نعش تحمله أكتاف محمولة على أكتاف -رجال-.
ثانيهما: بلادي يسكنها الاحتلال وأنا تسكنني بلادي. وبحسب قواعد الهندسة الجبرية.. إذا كان الاحتلال يسكن البلاد، والبلاد تسكن في الشاعر، فأن الاحتلال يسكن في الشاعر -بالاستعاضة-!. وهنا يتبرر مغزى أنين الشاعر المستمر من الاحتلال الذي يضطهد مشاعره وأحاسيسه وأفكاره وتأملاته، لأنه يقاسمه لحظاته وصفناته وأحلامه وقلقه وجلساته الطويلة أمام شاشة النت.
ولدى محاولة مطابقة الصورتين (المركبتين) مع بعضهما، نجد أن النعش الأول (الكلام) = الاحتلال، والنعش الثاني (أنا- الشاعر) = الوطن..
النتيجة.. ان الاحتلال هو (كلام) والكلام ظاهرة فيزياوية طارئة [حاضر داخل في ماضٍ]، وهو مصداق لتعبير الشاعر محمود درويش: [عابرون في كلام عابر].
المقابل.. ان الشاعر هو (الوطن).. والوطن يصنف اقتصاديا تحت بند [رأسمال ثابت]، أي (الأصول الثابتة) في المشروع، الذي يبقى لأصحابه الأصليين بعد أن يرحل/ يموت المستثمر/ المستعمر!.
لكن هذا ليس كلّ ما في القصيدة، أنه جزؤها -الظاهر- ويمكن التوقف واستغوار أعماق جديدة في سطور النص التي تراوغ القارئ ببساطتها الخادعة. أسعد البصري ليس شاعرا عاديا، ولا قارئا عاديا، ولا تدخل كتابته تحت باب -التقليد- الشعري أو الأدبي الذي يحتفل به ديوان العرب. ولكن مشروع البصري ما زال لما يعرض، ولا مفرّ من انتظار اصداره الشعري لاستزادة منسوب الضوء في فضاء الوطن.
-;- ربما- يحتاج الشاعر فترة انقطاع عن النت والنشر، ليمنح اختلاجاته واغتراباته واحتراقاته مدة كافية للاستحالة الى جنين -قصيدته- الجديدة.
ان ساحة الشعر العربي حافلة ومزدحمة بكم الشعر والشعراء، ولكن قدّ الفكر الشعري والشاعر المفكر يبقى نادرا، ومن هنا تنبع قيمته، أي ندرته.
لندن
العشرين من يناير 2014
يتبع.. النص

أراني نعشاً
أسعد البصري
الحوار المتمدن-العدد: 3471 - 2011 / 8 / 29 - 08:51
وماذا أرى عبر هذي الرياح و خلف الجدار
أرى رجالاً يحملون الكلام نعشاً على أكتافهم
و أراني نعشاً يحمله الكلام على أكتافه
كلّ ما حولي بشرٌ و حياة
كلّ ما حولي نثرٌ قاتل
السلطة تساومني بالمال و بالبنات
وأحياناً بقطع لساني
طبيب الأسنان يرفض أسناني و يقلعها ببرود
وماذا لو كنت حقاً مسكوناً
هل يهبني الله شعباً و مكاناً
بلادي يسكنها الإحتلال
و أنا تسكنني بلادي
وهؤلاء البشر لا يحبون هديل الحمام
بل يحبون لحم الحمام
لا تطول قصائدي ولا تقصر
لأنكم تضجرون من كلامكم فكيف تحتملون كلامي ؟
ولماذا يخرجُ ما بي على صيغة الرسائل الضائعة
ولماذا أسعى بكلامي إلى غرباء لا أعرفهم بلهفة العشاق ؟
لا أريد جرحاً من الخارج ، جراحي كلها من الداخل
ولعلي أتدارككم بالنزيف قبل أن يخنقكم الدم المكبوت
لا تحملوني على أيّ محمل
أراني نعشاً
يحمله الكلام على أكتافه
..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -شد طلوع-... لوحة راقصة تعيدنا إلى الزمن الجميل والذكريات مع


.. بعثة الاتحاد الأوروبي بالجزائر تنظم مهرجانا دوليا للموسيقى ت




.. الكاتب في التاريخ نايف الجعويني يوضح أسباب اختلاف الروايات ا


.. محامية ومحبة للثقافة والدين.. زوجة ستارمر تخرج للضوء بعد انت




.. الكينج والهضبة والقيصر أبرز نجوم الغناء.. 8 أسابيع من البهجة