الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جودي الكناني في فلمه الوثائقي-رحلة إلى الينابيع :صياغة بصرية لمَاحة وممتعة للسيرة الشخصية

فاروق صبري

2005 / 6 / 21
الادب والفن


"في الآونة الأخيرة بثت فضائية "الشرقية" فلماً من إخراج المخرج السينمائي العراقي جودي الكناني المقيم في الدنيمارك والفلم الذي حمل عنوان "رحلة إلى الينابيع" يرافق بصرياً محطات من حياة الفنان المسرحي العراقي قاسم بياتلي المقيم في إيطاليا منذ ثمانية وعشرين عاماً والذي يقول عنه البروفيسور غالو أستاذ الدراسات المسرحية في جامعة بولونيا:" بأن بياتي أنجز عملاً خارقاً للعادة" وذلك لتأسيسه جسر تواصل بين المسرح الغربي وبين الموروث الشرقي ومثل هذه الشهادة المهمة في الفلم كان من المفترض أن لا تقتصر على مرجع وحيد بل تشمل أراء العديد من الذين عايشوا حياة وتجربة بياتي المسرحية.
تفتح الكاميرا عينها على مشهد قصير من أحد عروضه المسرحية ومن ثم نراه وهو يتجول في بعض شوارع وأزقة وساحات وأسواق فلورنسه متحدثاً عن علاقته بهذه المدينة حيث عمل في أسواقها كبائع وحمّال وغسل الصحون في مطاعمها وعاشها من داخلها في علاقاته مع ناسها وثقافتها وارثها المعرفي إذ نشاهده متطلعاً بشغف صوب مبانيها وهي مازالت على طرازها المعماري العائد إلى عصر النهضة ويلازم مواقعها التاريخية وشواهدها الفنية من مسارح ويتحدث عن تماثيل مايكل أنجلو وكنائس ومنها كاتدرائية المدينة التي صممها أكبر معماري عصر النهضة برودنسكي وبنى برج كنيستها جوبتو ويتوقف بياتي عند بيت دانتي ويتأمل كنيسة المدينة التي عمد فيها وشهدت أرائكها حبه لحبيبته بياتريشا.
والبياتي وهو يسرد بعضاً من سيرته التي احتضنتها فلورنسه وعلاقته بها يستحضر ذاكرة أرضه الأولى ، العراق-كان من الأفضل أن يكون الاستحضار بصرياً وليس عبر السرد الصوتي- بميراثها المعرفي الشعبي ودلالاتها البيئية الغنية بالحكايات والشواهد التاريخية ويشير أيضا إلى كون هذه الذاكرة"الحبل السري" الذي يمدّه ويمنحه آفاقا جديدة في عملية الإبداع المسرحي .
يقدم جودي الكناني جوانب من سيرة بياتي سينمائياً من دون تحديدها وقولبتها في إطار ما يسمى بـ(الوثيقة المصوّرة) التي ترتكن بعد عرضها في رفوف المكتبات والمكاتب ، فـ"الكناني" يبث أيضاً هواجسه ومشاعره وذاكرته في إيقاع وسياق الفلم وهو يبني لقطاته بعفوية لمّاحة وجمالية ممتعة لجهة بنية الكادر وزواياه وعمقه وألوانه وظلاله وأضوائه بصورة تنم عن عمق وغنى تجربته التقنية وعن قدرته على امتلاك أهم شرط إبداعي_ معرفي الا وهو صياغة "السيرة الشخصية" كونها سيرة تخرج من سياقها الفردي لتلامس افقها المتفرد بتأثيره وتأثره بالمحيط العام والمثير لتساؤلات حول الإبداع والمنفى والذاكرة .
فكاميرا المخرج وإن تسرد بهدوء حكاية"رحلة إلى الينابيع" بصوت بياتلي وعبر محيطه أو بعض من عايش تجربته الفنية الا أن تلك الكاميرا لا تكتفي بالسرد البصري الخارجي المنطوق ، إنها كذلك تلتقط وتكثف ما هو مخفي في أحلام وعذابات وهواجس هذا الفنان المسرحي وذلك عبر التركيز على ملامحه الحزينة وهو يجلس على رصيف ما وحركاته الصاخبة وهو يدرب طلابه على الرقص الشرقي و(بدي تكنيك) ونظراته الحائرة وهو يتحدث عن منجزه وما يحلم أو يساعد عمال المسرح وانفعالاته المتألقة وهو يؤدي دوره في مسرحيته"للصديق القريب في الأرض الغريبة" أو هو يقضي وقتاً في مقهى وبار "الجبة الحمراء" المشهورة .
ما يزال البعض يعتقد سهولة إنجاز الفلم الوثائقي وخاصة لجهة المعالجة الفكرية والتقنية ويتوهم الآخرون بأن فلماً كهذا لا يحتمل ولا يحتاج الكثير من المقترحات الفنية أوالتخييل الذي يعتبر من أهم وأخطر سبل الصعود صوب عملية الإبداع مثلما تحتاجه وتحتمله الفلم المعتمد على المادة الروائية والمكتوبة لكن الفنان جودي الكناني في فلمه هذا حاول إعادة الثقة والمتعة للفلم الوثائقي وإثارة التساؤلات حول حضوره المعرفي والذوقي في حياتنا ، فهو أي الكناني شحن مادة فلمه التوثيقية والأرشيفية بمعالجات تقنية وفنية عبر الإيقاع المونتاجي المتوتر والمؤسس للقطات سريعة تكثف الحالة والحدث ومن ثم الانتقال إلى فضاء مظلم يلونه اللون البرتقالي القريب لضوء الشمس عند الفجر وبياتلي جالس وحيدا وصامتاً على مصطبة والكاميرا من خلفه هي كذلك ساكنة وصامتة وتقاسمه مشاعر الوحشة والتأمل ونرى أيضاً حركية الكاميرا وفعالية عدستها في رسم مشهديات بصرية ممتعة ومنها مشهد يظهر فيه الكناني مع بياتلي داخل "فاركونة" قطار سرعته الهادئة تتداخل مع حرارة حديثهما حول المسرح وتجاربه لكن حضور القطار لا يشكل في الفلم فقط مقترحاً فنياً ، انه مرتبط كحنين حالم للماضي بذاكرتنا العراقية.
ومثل البدء يغلق الكناني عين كاميرته في فضاء مشهد مسرحي صاخب وممتع بالرقص والغناء والأداء التمثلي وكلمة إهداء للراحل بهنام ميخائيل وفاءً له كونه أستاذ ربى تلاميذه على الصبر والأخلاق المسرحية وكأن عبر ذلك كله يحاول المبدعان بياتلي والكناني التعاطي مع مفردات الحياة والتفاعل مع صيرورتها الإبداعية بروح وإن تبدو مثقلة بالخسارات والمآسي الا أنها روح حالمة ووفية تطرد اليأس وتطارد والظلام.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب


.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج




.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت


.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال




.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب