الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حمص: الأسطورة تجدّد شبابها

عبد الكريم بدرخان

2014 / 1 / 25
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


لم نكنْ نصدّقُ فيكتور هوغو، ولنْ نصدّقه، عندما روى لنا قصّة (جان فالجان) الذي سُجنَ لمدة تسعة عشر عاماً من أجل رغيف خبز، فلا يمكن للعقل أنْ يتصوّر ذلك، لا في ذاك الزمن، ولا في هذا الزمن. يا تُرى كم ثورةً تحتاجُ هذه القصة؟ وكم مقصلةً تكفي لأعناق الظالمين؟، الذين لا يعرفون قيمة الخبز، فيقولون للشعوب: كلوا الكعك بدلاً عنه!
لكنّ هوغو كان قصيرَ النظر وضعيف الخيال، أو أنّ كلَّ الظلم الفاحش الذي رآه في حياته، وكلَّ خياله الروائي الخصب، لم يسعفاه بأكثرَ من قصة رجلٍ يُسجنُ تسعة عشر عاماً من أجل رغيف خبز. ربما لم يتصوّر يوماً، ولم يصل بخياله، إلى قصّة خمسين شاباً من خيرة شباب حمص، يموتون من أجل رغيف خبز!. وهنا يبدو اسمُ روايته "البؤساء" أقرب إلى "السُعداء"، مقارنةً مع ما جرى ويجري كلّ يومٍ في سورية.
في آذار 2012 كنتُ ما زلتُ مقيماً في حمص، وفي أحد الأيام كان جسدي حلقةً من سلسلةٍ بشريةٍ مصطفّةٍ أمام كوّةِ بيع الخبز، عندما مرّتْ مدرعةٌ عسكرية وأطلقت النارَ عشوائياً على الناس والبيوت. كان حظّي أوفرَ من إخوتي الآخرين، عندما عدتُ إلى البيت وفي رأسي سؤالٌ واحد: هل يمكن للإنسان أنْ يموت من أجل رغيف خبز؟
في بيتي الذي أصبح رُكاماً، ومكتبتي التي أكلتها النيرانُ والجرذان، كنتُ أقرأ عن (ديميتر) اليونانية، إلهة الزراعة والخبز، وهي تنشد: "الخبز غذاء الجسد والروح، الخبز أنشودة الحياة". ومع بدء الحصار على حمص، ومع قيام القنّاصةِ بفرضِ حظر تجوالٍ على السكان، قام شبابُ الحيّ بفتحِ ممراتٍ أرضيةٍ بين الأبنية، يستخدمونها للتنقّل من شارعٍ لآخرَ دون مرأىً من القنّاص. وكان جارُنا (علاء) يحملُ ما تيسّر له من الخبز، وينتقل به من شارعٍ لشارع، ومن نفقٍ لنفق، ويقفزُ به من جدارٍ لجدار، إلى أنْ يوزّع الخبزَ على كلّ البيوت. (علاء) الذي لم يتركْ مظاهرةً إلا وخرج فيها مطالباً بالحرية، اقتصر عملُه على توزيع الخبز، إلى أنْ أسقطَهُ القنّاصُ من على أحد الجدران، مضرِّجاً الخبزَ بالدماء.
في العام الأول للحصار المفروض على أربعةَ عشر حيّاً في حمص، تحوّلتِ الحدائقُ إلى مقابر، لا آسَ يزيّنُ قبورَ الشهداء، ولا أقاربَ يزورونهم. تخرجُ النساء والعجائز إلى هذه الحدائق، يلتقطنَ ما يجدنَهُ من نباتاتٍ وأعشابٍ نبتتْ سهواً، ولماذا كان الربيعُ سيّد الفصول؟ أليس لأنه موسمُ (الخُبّيزة) التي نبتتْ من التراب الذي كان أجساداً، أو من الأجساد التي أصبحتْ تراباً.
عامٌ ونصفٌ على الحصار، والناس يؤمّنون الماء والغذاء بنفس الأساليب المتّبعةِ قبل ألفي عام، ففي كلّ حارةٍ يوجدُ بئرٌ اسمه (جبّ النبي يوسف)، وفي كلّ بيتٍ عتيقٍ يوجد تنّورٌ قابعٌ في إحدى الزوايا منذ سنين. لا يحتاجُ التنوّرُ سوى بضعةِ حطباتٍ من الصفصاف الذي يمدُّ جذوره إلى العاصي، وسوى يدينِ مولعتين بملامسة النار كيديّ جدّتي، وكذلك كيساً من الطحين، لتبدأ عجلةُ الحياةِ دورانها دون توقّف، ودون أيّ إحساسٍ بالخوف أو اليأس أو الهزيمة.
خلال عامٍ ونصف، يحمل الشباب أكياس القمحِ من المخازن، يطحنونها في المطاحن القديمة، ويذرُّون الطحينَ الأبيضَ من بين أحجارِ الرحى السوداء، يعجنون الطحينَ بماءِ البئر أو ماء المطر، ويخبزون كفافَ يومهم في التنوّر العتيق. هذا التنوّر الذي راح يتساءل: أَلَـمْ أكنْ ميّتاً منذ عشرات السنين؟ من الذي يرشُّ الماءَ على وجهي، ويُحيي الحجارَ وهي رميم؟!
عام ونصف، وهم ينشدون أغاني الحصاد القديمة، ويرمّمون حجارةَ المطاحن، ويبعثون الحياة في عروق التنّور العتيق. إنه تمّوز إذنْ؛ سيّدُ الشهور، تموز شهر الحصاد، تموز شهر الحياة، تموز إله الخصب والقمح والخبز، ما زال فارساً ينشلُ الحياةَ من بين فكّي الموت: الموت قصفاً والموت جوعاً.
بعد أنْ نفدَ القمحُ والطحينُ في أحياء الحصار، لم تنفدْ إرادةُ الحياة في قلوب الصامدين، ولم يمتْ بريقُ الأمل في عيون شباب حمص. إنهم أبناء كتيبة (شهداء البياضة)، خمسون شاباً وضعوا مخطّطاً للوصول إلى مخازن الطحين الواقعة خارج الحصار، لنقل أكياس الطحين عبر أنفاقٍ حفروها بإيديهم خلال أشهر، على أملِ أنْ يعيدوا الحياةَ لمئات المدنيين المحاصَرين. كان مخطّطُهم أشبه بالمهمة المستحيلة، أو أشبه بالانتحار، لكنّ الرجال الذين يموتون من أجل رغيف خبز؛ رجالٌ يصنعون المعجزات. عندما وصلوا إلى مبنى (المطاحن) ليأخذوا حقهم من الطحين الذي أنجبته أرضُهم وأرض أجدادهم، علمَ القتلةُ بهم وبمخطّطهم، لكنهم لم يجرؤوا، ولن يجرؤوا، على مواجهةِ الرجال الذين يموتون من أجل رغيف خبز، ولذلك قاموا بقصف المبنى بالصواريخ، مدمّرين الجدران والسقوف على أجساد أبناء الخبز.
إنهم خمسون شاباً، خمسون تمّوزاً، يموتون فداءً للآخرين. يموتون لكي ترتوي الأرضُ بدمائهم، وينبتَ القمحُ من أجسادهم، وينعمَ الناسُ برغيفِ الخبز. لا أنبلَ ممّنْ يقدّم نفسَه قرباناً لخلاص الآخرين، ولا غرابةَ أنْ يتبارك الناسُ بالخبز، ويطهّروا أرواحهم به، باعتباره رمزاً لجسد الفادي المخلّص. إنّ مثلَ الذين يموتون من أجل الخبز {كمثلِ حبّةٍ أنبتتْ سبعَ سنابل، في كلّ سنبلةٍ مائة حبّة}.
هنيئاً لحمص بشبابها الخمسين، بنجومها الخمسين، الذين يكتبون الأسطورة من جديد، مازجين الدم بالطحين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل وبخ روبرت دينيرو متظاهرين داعمين لفلسطين؟ • فرانس 24 / FR


.. عبد السلام العسال عضو اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي




.. عبد الله اغميمط الكاتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم التوجه


.. الاعتداء على أحد المتظاهرين خلال فض اعتصام كاليفورنيا في أمر




.. عمر باعزيز عضو المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي