الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
قطوف
نبيل محمود
2014 / 1 / 28الادب والفن
خرجت إلى البريّة الممتدّة حتى مشارف الربيع.. بسلّتها المهملة منذ الشتاء، بكّر الربيع في بثّ خصبه وسكْب عذوبته في العروق هذا العام. تورّدت بشرة الصبيّة بمزيج الضوء والعطور، وانتشت البهجة على وجنتيها، ورطّب شفتيها طعم الندى المتبخّر من الحشائش الغافية، تشبّعت روحها بالنسائم، وتنبهّت حواسها بوشوشات الخضرة المتراقصة، استدرجها حبور الطبيعة إليه فتوغلت بعيداً.. وباتت قطعة يانعة من هذا الوجود المتجدّد. غاب البيت عن أنظارها، وتخفّفت من تحفّظها وتحسّبها واندفعت في أعماق الخضرة الطالعة، وداعبت أناملها الأغصان الهامسة للشجر المستيقظ من سباته وانكماشه الشتائي.. بين خطوة وأخرى كانت تلتقط زهرة متفتحة أو ثمرة مكتنزة وتضعها برفق في سلّتها.
جفلت فجأة حينما انتصب شيخٌ مهيب أمامها، وقاطع سياق الربيع المتناغم، وكأنّه قطعة منسيّة من شتاء غابر.. لم تفلح بالتحكّم بخفقات قلبها الذي كاد أن يطفر خارج صدرها لشدّة ما اعتصرته مباغتة الظهور غير المتوقّع للشيخ الغريب. نظرات الشيخ المتحيّرة والمعتذرة بخجل، ولحيته الكثيفة البيضاء ساهمت قليلاً بالتخفيف من روعها وكبح تسارع قلبها الواجف المرتعش، والتقطت مزيداً من الأنفاس العميقة لتستعيد توازنها المختلّ الذي كاد أن يسقطها أرضاً. جبهة الشيخ العريضة المتغضّنة ونظرات عينيه الحانية، استحضرتا في ذهنها وجه أبيها المحبّب، وبدأت تزداد اتّزاناً وتماسكاً بعد ذلك الأضطراب الشديد، وغمرت نفسها الطمأنينة والسكينة حين تسرّب إلى سمعها صوت الشيخ الخافت العميق وكأنه نابع من بئر مهجورة:
- أعذريني يا بنيّتي فلست أدري كيف نسيت نفسي هنا، أو ربما نسيني زمان قديم.. وجعلني أقطع سبيلك وأعكّر عليك خلوتك والربيع.. سامحيني ودعيني أكفّر عن هفوتي.. وسيسعدني لو أنّك تقبّلت مني بعض ما تبقّى لديّ من نفائس حياتي..
وما أن لاحظ الهدوء الذي علا قسمات وجهها، لم ينتظر أنْ ينتهي من كلامه، وانحنى بظهره المحدودب وببطء على صرّته العتيقة التي يتوسّدها أثناء نومه، ودسّ يده المعروقة فيها والتقط منها بضعة أشياء، استوى منتصباً بتثاقل، ومد باتجاه الصبية كفه المبسوطة التي تلألأت فيها حفنة من نجوم لامعات..!
- لا تخافي يا بنيّتي فلست بساحر أو مشعوذ، هذا ما بقيَ لديَّ من رحلة حياتي، فاقبليها منّي وامنحي روحي سلامها الأخير.. لا تتردّدي خذيها فما من شخص يستحقها أكثر منك.. قرّبي سلّتك لأضعها فيها..
استغربت من انصياعها وامتثالها لطلبه، ومن السلام العميق الذي سكن روحها، تحت تأثير الحنان والسحر الذي كان ينبعث من الحديث الدافئ لهذا الشيخ الغريب.. بعد أن أفرغ الشيخ نجومه في السلّة سحبتها إليها وتمعّنت فيها، كانت الورود والثمار مضاءة بالنجوم الساطعة داخل السلّة. رفعت وجهها إلى الشيخ لتشكره.. وكما باغتها ظهوره العجيب فقد حيّرها اختفاؤه السريع، لم يعد موجوداً هناك، لقد اختفى الشيخ بلمح البصر بلا أثر، وكأنّه لم يكن! حسبت أنّه حلم أو وهم، عادت لتلقي نظرة أخرى إلى محتويات سلّتها فاندهشت أكثر، كانت النجوم فيها وهي أشدّ لمعاناً وسطوعاً..
لم يصادفها في حياتها القصيرة ربيع فريد كهذا أبداً، عادت من جولتها غادة مسحورة! تحثّ الخطى قاصدة البيت، وفي سلّتها أطيب القطوف، وفي روحها أعذب ذكرى من مصادفات الوجود.. قبل وصولها البيت لمحت عند العريشة القريبة من البيت، فتاها الوسيم الذي اعتاد أن يلبث هناك ليتبادلا التحايا وتلك المتع الصغيرة المختلسة. مازحته بمسح وجهه بوردة حمراء استلّتها من سلّتها، وقبل أن يباشر لعبتهما المألوفة بشفتيه! التقطت النجوم من سلّتها ونثرتها بين كفيه، سرى في داخله تيار من نور، ما لبث أنْ شعّ في وجهه الوسيم ألقاً متّقداً لم تألفه فيه من قبل. بات مأخوذاً بما بين يديه والدهشة اربكت وأفسدت كل خططه المعروفة المكشوفة، وقبل أنْ تنطلق من فمه كلمات التساؤل والاستفسار.. تركته مذهولاً وغافلاً عن قطف القبلة المعهودة! وراحت تتواثب متضاحكة بخطاها الواسعة، ومخلّفةً الفضاء وراءها مشبّعاً بالعبير، وضفيرتها تتراقص بين كتفيها يميناً وشمالاً، لتدخل البيت وتضع بين يديِّ أمّها سلّتها الممتلئة بقطوف الربيع الأولى من ثمار وورود..
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف
.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص
.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة
.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس