الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجاوز الخوف من الماضي

فالح عبد الجبار

2005 / 6 / 23
مواضيع وابحاث سياسية



ما من أمة تخشى التاريخ مثلنا نحن العرب، العاربة والمستعربة. وما من أمة تخشى مثلنا القبول بتعدد أبعاد التاريخ المركب المعاني. نعلم ان النسيان شيمة المخلوقات الدنيا في سلم التطور، وهو أيضاً شيمة الحضارات الدارسة. فالتمسك بالذاكرة التاريخية معلم حضاري، كدريئة ضد النسيان، ونافذة على الآتي.
نحن نحب النسيان بطريقة عجيبة. فمن جهة، يغرق بعضنا في ذاكرة الماضي، الى درجة الذهول عن الحاضر، بل ان ذاكرة الماضي هذه مصاغة في صورة مثالية، منقاة من كل ما نتوهّمه شائبة. ويغرق بعضنا الآخر في غمار اللحظة الراهنة الى حدود إلغاء الماضي، بفعل التحريم المكين لأية معاينة حرة، متعددة لما كان، وهذا نسيان مزدوج، أو تذكّر ناقص.
أقول هذا متأملاً مثال لبنان والعراق بعد الحرب والاحتراب، مقارناً إياه بمثال جنوب افريقيا، التي أسست لجان المكاشفة والمصارحة وسيلة للقبول والفهم والتفهم والتعلم والتجاوز.
أقول هذا أيضاً ونحن على اعتاب مرحلة جديدة بغثها وغثيثها، ووعدها ولا وعدها. والعراقيون، كالعادة، منقسمون إزاء تاريخهم بالذات، إزاء معانيه، أسبابه وآفاقه.
ثمة نزعة تدميرية لإزالة الماضي، تستهدف الرموز المادية للحقبة السابقة، تماثيل الرئيس وأنصابه، مثلاً، مثلما ان هناك نزعة تقديسية لكل ما كان. وهذه المواقف من التدنيس المفرط الى التقديس المفرط، هي من بقايا العنت الايديولوجي. ما أحوجنا الى إبعاد الشعارات والكليشيهات عن الوقائع الثرّة المتشابكة، كيما نرفع عن التاريخ أي محرّم، ونطلق اوار البحث في أحداث الماضي بحثاً مفتوح النهايات، منفتحاً على المعطيات والمعلومات، هادئاً ومحترساً. ولعل مشروع الذاكرة العراقية، بمبادرة كنعان مكية، يأتي بمثابة إنقاذ: ثمة اكثر من ثلاثين مليون وثيقة من العهد السابق تنتظر الفرز والتبويب، وثمة ما لا عدّ له من الأنصاب، وما لا حصر له من الأجداث الغفل في حقول الموت المسماة: مقابر جماعية.
سيبقى تاريخنا ناقصاً من دون هذه الوثائق، وستظل الأسطورة تخالط الواقع ما لم ندرس هذا السجل. وأول مهام مشروع الذاكرة العراقية ان يختزل الآماد الزمنية لعملية الحفظ والتبويب. أتذكر في هذا الصدد كتاب ويليام شيرر الموسوم: «صعود وسقوط الرايخ الثالث» (دولة هتلر)، الذي اعتمد نحو 45 طناً من الوثائق. ويعد هذا الكتاب، حتى يومنا هذا، أفضل وثيقة عن المانيا النازية، قياماً وسقوطاً. والكتاب، بمعنى من المعاني، كان بمثابة تطهير اخلاقي لأمة أصيبت بجنون العظمة، واطلقت كل قوى التدمير الغريزي الكامنة فيها. كانت الأمة في حاجة الى التصالح مع نفسها، والى استعادة عافيتها الاخلاقية.
نحن ايضاً بحاجة الى تطهر اخلاقي، الى معاينة هذا الذي كان، وفهم جذور شرائع الغاب المنفلتة. وهذه ضرورة للضحية كما للجلاد، لمتلقي العنف كما لصانعه.
قبل أعوام، وأنا في زيارة لأربيل، حضرت ندوة كبرى عن حلبجة الكردية، المسممة بالغاز. رأيت أصنافاً عدة تدخل في بازار السجال: سياسيين يجيّرون المأساة في حسابات أحزابهم، ومحامين يتلهفون لرفع دعاوى تعويضات دسمة، وغاضبين يفكرون في الثأر، وأنصار الحكومة المركزية ينكرون وقوع ما وقع. وقبل عام وأنا في بغداد، رأيت مشهداً مماثلاً يتكرر إزاء اكتشاف عدد من المقابر الجماعية: سياسيين يلهجون بالمحنة لحساب أحزابهم، ومحامين يسيل لعابهم أمام صورة التعويضات المالية، وجمهوراً غاضباً يطالب بالانتقام، وأنصار الحكم السابق ينكرون حصول مجازر.
في الحالين غاب عنصر حاسم: الضحايا من عوائل ثُكلت، ومُزقت. يعيش هؤلاء الماضي كل يوم في اهاب كوابيس وهلوسات وحالات عصاب ورُهاب، دون ان يجدوا من يلتفت الى عنائهم المستديم. ذات مرة اشتكت عجوز كردية من كل هذه الندوات عن أهلها وأحفادها في حلبجة. في الأيام الأولى للكارثة، كما تقول، كنا نرى كابوس القصف الكيماوي كل ليلة. بعد سنوات صرنا نرى الكابوس مرة كل اسبوع. واليوم، بعد هذه الندوات، عدنا الى الاحلام الرهيبة في كل ليلة.
كانت شكوى الكردية المسنة بسيطة وبليغة: المهرجانات ترضي السياسيين، لكنها تنكأ جراح الضحايا الذين تركوا وحيدين مع أهوال الصدمة.
العراقيون بحاجة الى فهم الماضي لا الى نسيانه، بحاجة الى التطهير بمعناه الاغريقي، مثلما ان الضحايا بحاجة الى الشفاء بالمعنى السريري.
ابتكرت الحضارات سبلاً عدة لبلوغ هذا الأرب. ابتكر الاغريق المحاكاة على المسرح وسيلة لحض النظارة على التخلص من الأدران. وابتكرت أوروبا المسيحية طقوس الاعتراف، وابتكرنا نحن تقاليد الاعتذار (الاعتراف بالخطأ فضيلة). اختلافنا عن الآخرين ان التطهّر الاغريقي والاعتراف (فالغفران) المسيحي - الأوروبي كانا جزءاً من المؤسسات القائمة وعنصراً من مكونات الثقافة، أما تقاليد الاعتذار عندنا فعائمة، أي متروكة للمصادفة. وهذا تعطيل لإمكانية التجاوز.
غير ان التجاوز بذاته ليس سوى وجه واحد من وجوه المشكلة العراقية. نحن في حاجة الى الفهم ايضاً. فالنظام السياسي السابق، الشمولي بامتياز، خلق جمهورية من طراز خاص، سماها مكية «جمهورية الخوف»، ولعل بالوسع اضافة نعت آخر «جمهورية الصمت»، في البلد الذي اخترع الكتابة، وسيلة الإفصاح الكونية هذه.
كانت جمهورية الصمت - الخوف لا تكتفي بالهيمنة على مجال السياسة والاقتصاد والثقافة، بل تسعى، شأن النظم التوتاليتارية، الى اختراق فضاء الفرد، حقل حياته الحميمة، ودائرة مخيلته. كفّ العراقيون المولعون بالشتم عن شتم الرئيس المخلوع خشية ان يكرروا ذلك أثناء نومهم على مسمع من زوجة واشية أو جار مخبر. ورغم ان هذا الخوف آخذ بالتآكل إلا ان خطر اعادته قائم. والمفارقة ان هذا الخوف معمّم بالتساوي. وهو تذكرة بقولة مونتسكيو الشهيرة: «في ظل الاستبداد كلنا متساوون، لأننا جميعاً عبيد». وبهذا المعنى فالتحرر من عبودية الخوف ضرورة للضحية والمخبر سواء بسواء.
في وسع «مؤسسة الذاكرة العراقية» ان تنقذ وثائق الماضي، وان تفتح نوافذ الفهم والاستيعاب، لا لتغذية روح الثأر، بل للارتقاء بالذاكرة الى مستوى التطهر والإدراك.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد الجامعات الأميركية.. عدوى التظاهرات تنتقل إلى باريس |#غر


.. لبنان وإسرائيل.. ورقة فرنسية للتهدئة |#غرفة_الأخبار




.. الجامعات التركية تنضم ا?لى الحراك الطلابي العالمي تضامنا مع


.. إسرائيل تستهدف منزلا سكنيا بمخيم البريج وسط قطاع غزة




.. غزة.. ماذا بعد؟ | جماعة أنصار الله تعلن أنها ستستهدف كل السف