الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عداد الدفع المسبق، وخصخصة المياه، ووحشية رأس المال الفلسطيني

ناجح شاهين

2014 / 1 / 29
القضية الفلسطينية



"الناس شركاء في ثلاثة: الماء، والكلأ والنار" حديث شريف

خلافاً للحديث الشريف المعروف، ليس الناس شركاء في الماء ولا الطاقة ولا الموارد الطبيعية الأساس. أو هذا على الأقل ما يعتقده البنك الدولي ومن يتبع نصائحه على كوكبنا الذي يعج بالبؤس والمعاناة على الرغم من الوفرة منقطعة النظير التي تحققت للبشرية بفضل التقدم المذهل في ميادين الإنتاج المختلفة. وفي فلسطين التي تنفرد بين البشر بدستور ينص على الالتزام بقدسية السوق، يتم ابتلاع وصفات البنك الدولي التعسة بدون تفكير في أهون الأحوال، أو مع سابق إصرار وروية في أسوئها.
لا يوجد بلد عربي واحد يطبق فكرة عداد الدفع المسبق فيما يخص تزويد المواطن بالمياه. ويوجد بلدان قليلة تفعل ذلك في مستوى الكون من قبيل بريطانيا وجنوب أفريقيا وبعض الولايات في دولة الولايات المتحدة. وعلى الرغم من ذلك، فإن أسعار المياه في هذه البلدان أرخص بكثير مما هي عندنا، ولا بد أن ذلك أمر غير مفهوم بالنظر إلى أن مستوى الدخول في هذه البلدان هو عشرات أضعاف ما هو لدينا. ومهما يكن من أمر فإن فاتورة المياه عندهم قد لا تزيد بحال من الأحوال عن ثلاثة في المائة من متوسط الدخل. أما عندنا فهي تهدد جيوب متوسطي الدخول ناهيك عن الفقراء والحالات الاجتماعية وما اصطلح على تسميته بفضل لغة البنك الدولي بالفئات المهمشة.
لكن ما هي الفكرة الأساس من عداد الدفع المسبق؟ أولاً عداد الدفع المسبق هو الضمان لكي تتحول ضرورات الوجود والحياة ذاتها إلى سلعة قابلة للاستثمار من قبل رأس المال، وهي لذلك أساسية من أجل خصخصة قطاع المياه، وهذه العملية أي الخصخصة تقف على رأس أولويات السلطة الفسطينية في سياق خصخصة كل شيء وتسليعه بما في ذلك الوقود، والكهرباء، والماء بالذات. كأننا في مواجهة سلعة مثل السجائر أو الويسكي أو سيارة المرسيدس، من يمتلك الثمن يستطيع أن يتمتع بترف الحصول على السلعة، ومن لا يمتلك عليه أن يعاني عجزه عن ذلك. لكن صانع القرار الفلسطيني لا يدرك –أم تراه يدرك؟- أن تحويل الماء إلى سلعة معناه وضع حياة الإنسان ذاتها تحت رحمة قانون السوق الذي لا يرحم. ولن تقوم مؤسسة ربحية بتوزيع الماء مجاناً عاش من عاش ومات من مات، فالربح هو القيمة الوحيدة بالنسبة للاستثمار الرأسمالي، ولسنا نلوم المستثمر على ذلك، ولكننا نوجه اللوم بل الاتهام لمن يسمح وييسر ويشرع تحويل الماء وأساسيات الحياة إلى سلع للتداول في السوق، في الوقت الذي لا تفعل فيه ذلك مراكز الرأس مال العالمي ذاتها باستثناء بريطانيا مثلما أسلفنا أعلاه.
لكن الحق أحق أن يقال وأن يتبع. إن عداد الدفع المسبق يمكن أن يكون طريقة لضبط استهلاك المياه الشحيحة في بلاد تعاني أزمة مياه مثل فلسطين. ولا بد أن تشغيل هذا العداد سوف يقود إلى انخفاض استهلاك الماء إلى حد كبير. ولا بد أن ذلك مما يثلج قلب إسرائيل التي تهدر المياه كيفما اتفق إلى الحد الذي يجعل مواطنها يستهلك من الماء أكثر من المواطن الألماني الذي يتلقى ما يقرب من 2000 ملم من الأمطار سنوياً. ربما تنخفض نسبة استهلاك المياه في أوساط الفقراء إلى النصف، وربما أكثر. وهكذا نكون قد وفرنا المياه القليلة، لكن على حساب الحياة إن كان لحياة البسطاء من حساب. كأن مدارس الفقراء –بما فيها بعض المدارس الخاصة ذات الرسوم المنخفضة- لا تحفل بالأطفال الذين يعانون من أمراض النظافة وآفاتها من قبيل القمل والحكة الجلدية والجرب. ذلك لا يهم لأن المهم هو فاعلية النظام وإدارته بشكل مجد واقتصادي، وهذه أهم أولويات خبراء البنك الدولي الذين ينعون على الحكومات التي تدعم السلع الأساسية أنها تفسد اقتصاد البلاد وتفسد الفقراء على السواء بتدليلهم وتعويدهم على الكسل.
هل يعقل أن لا أستطيع الذهاب إلى الحمام أو أن أحلق ذقني في الصباح لأن بطاقة الدفع الذكية استهلكت الساعة الحادية عشرة ليلاً ونفذ الماء. ماذا أفعل؟ أليس هذا درباً من الانحطاط بالإنسان إلى مستويات يعجز عنها ظرف الزنازين بالذات. بالمناسبة حتى الزنازين في المتوسط العالمي تتمتع بخدمات من قبيل الماء والكهرباء على امتداد الساعة. يقول بعض الظرفاء في رام الله إن بعض الفيلات في الطيرة والمصيون قد ظلت بدون كهرباء لبعض الوقت خلال المنخفض العاصف الشهر الماضي لأن أصحابها لم يتمكنوا بسبب تعطل كل شيء من الحصول على بطاقات الكهرباء على الرغم من أنهم من الفئات الميسورة القادرة على شراء الخدمة وبالسعر الذي يحدده المزود. ماذا يفعل الفقراء في هذا السياق؟ هل يمكثون مرتين أو ثلاث مرات في الشهر بدون كهرباء لبعض الوقت؟ وهل سيتكرر هذا السيناريو مع "سلعة" الماء الأشد خطراً؟
ماذا يفعل المرء لو هب حريق في منزله أو بجوار منزله وخذله عداد الدفع المسبق؟ في إحدى المرات وقع حريق بسبب حرق الأعشاب بقرب منزل الجيران، ولم يكن أحد منهم في البيت وقد تمكن جار آخر بفضل خرطوم المياه الموصول مباشرة بالساعة وليس بخزان الماء من مكافحة النيران والحد من انتشارها مدة نصف ساعة إلى حين وصول سيارة المطافئ لتكمل المهمة. من البدهي أن عداد الدفع المسبق ما كان ليسمح لهذا الجار بإنقاذ الموقف على هذا النحو. هذه التفاصيل مهمة في حياة البشر، وإن كنا ندرك أن رأس المال وصانع القرار لا يهمه شيء من ذلك.
حتى في بريطانيا العجوز العظمى وصاحبة براءة اختراع خصخصة المياه حدث شيء من التراجع عن التطبيق الحرفي للفكرة بعد أن انتشرت الدوسنطاريا في بعض أحياء الفقراء على إثر تركيب عداد الدفع المسبق. أما في كوازولو في جنوب أفريقيا التعسة بالتخلص من التمييز العنصري ومجيء حكومة سوداء أجرأ من سلفها الأبيض على التلاعب بحياة العباد فقد أصيب قرابة 114000 من سكان المنطقة المعدمين بالكوليرا بعد استخدام العداد سيء السمعة مباشرة. وهذه عينات من المخاطر الصحية التي يمكن أن تترتب على وضع المصلحة الاقتصادية العمياء لرأس المال أو المصلحة المتصلة بتوفير المياه –لإرضاء البنك الدولي وإسرائيل- في المكان الأول، ووضع حياة الإنسان الفلسطيني في المكان الثاني.
وماذا عن الأخلاق العامة؟ ألا يقوم الناس في الأحياء الفقيرة بسرقة المياه بعضهم من بعض في الوقت الحالي؟ ما الذي سيحصل عندما تصبح الخدمة مدفوعة مسبقاً؟ سوف تصبح ظاهرة سرقة المياه إحدى العناوين الرئيسة للنزاعات والمشاكل لترفع نسبة العنف وتقدم سبباً آخر لتقويض السلام الاجتماعي. غريب بالفعل أن صانع القرار الفلسطيني لا يدرك هذه البدهية، إن سرقة المياه منتشرة بما يكفي في الوقت الحالي، وليس من داع لسد الطرق في وجه الناس الفقراء بحيث لا يظل أمامهم من طريق إلا سرقة المياه من خزان أحد الجيران المحظوظين. إن هذا للأسف سيؤدي إلى نشر السرقات على نطاق واسع، ولا نريد أن نصدق أن النخب التي تقود هذا المجتمع لا تأبه لسلامه وتضامنه على الرغم من الخطابة الواسعة ليل نهار حول تحرير الوطن وبنائه وإسعاد أفراد شعبه..الخ.
لا بد أن الحقد الاجتماعي الطبقي أمر عادي عندما يتصل الأمر بمن يستطيع شراء سيارة ب.م إكس فايف ومن لا يستطيع التنقل إلا بالمواصلات العامة، ولكن إحساس المواطن من الطبقات المسحوقة أنه لا يستطيع أن يشرب الماء بينما يذهب الماء إلى برك النخب بدون حساب هو إحساس مكثف بالقهر قد يقوض أركان السلام الاجتماعي من أساسه. والبنك الدولي للأسف لا يهمه هذه الأشياء، على الرغم أن التجربة قد بينت مرة تلو الأخرى أن تطبيق وصفاته يقود إلى عواقب وخيمة سياسياً واجتماعياً.
وأخيراً نستطيع أن نقول بثقة تامة إن خصخصة المياه ستؤدي إلى تعميق معاناة الفئات التي تسمى بالمهمشة. ونستطيع أن نتوقع على الفور أن نقص المياه في المنزل سوف يدفع ثمنه الأطفال والنساء أولاً، بينما يحتفظ رب الأسرة الرجل بحصة الأسد لنفسه. وليس سراً أن الأسر الفقيرة تضحي بالخبز والدواء في أحيان كثيرة لمصلحة علبة السجائر التي يدخنها الرجل مهما غلا ثمنها. هل يتفق هذا التوجه مع الخطابة الرنانة حول الجندر ودعم الطفولة؟ أليس هذا متناقضاً مع أقسام الجندر المفتوحة –بالتمويل الأوروبي- في كل وزارة من وزارات السلطة؟
يبدو لنا أن السلطة الفلسطينية لم تأخذ بعين الاعتبار المخاطر الشديدة المترتبة على هذا القرار الذي لم يدرس كفاية فيما يبدو في ظل الانسياق لمجاملة البنك الدولي وبعض شركات القطاع الخاص بما فيها الشركة التي تسوق العدادات مسبقة الدفع والتي يسيل لعابها على الأرباح المنتظرة من تشغيل مئات الآلاف من العدادات دون أن يعنيها في شيء التكلفة الاجتماعية الباهظة لمكاسبها. قال لي المهندس سمحان سمحان من منظمة الهيدروليجيين الفلسطينيين إنه مقتنع أن مشروع العداد المسبق لن ينفذ، لان عكس ذلك يتنافى مع الاخلاق الانسانية ومع ما تقوم به المؤسسات الوطنية من برامج و تدخلات ذات طابع انساني وتنموي تهدف لخدمة المهمشين بالدرجة الاولى، لكنه أضاف إنه يتوقع من القوى الحية كلها بما فيها من مجتمع مدني وأحزاب وأفراد في داخل السلطة ذاتها إضافة إلى جموع المواطنين أن يصطفوا جميعاً ليعبروا عن رفضهم لهذا المشروع الخطير. ولا بد أن ما قاله سمحان هو أضعف الإيمان، إذ أن مرور مثل هذا الحدث بسلام لا بد أن يقود إلى تغول رأس المال المحلي وانفلاته النهائي من أي عقال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - محبة المال اصل لشرور كثيرة
القس بسام بنورة ( 2014 / 1 / 29 - 08:04 )
أشكرك سيد ناجح لانك تحمل هم شعبنا الفلسطينين وتكتب بلسان المتألمين في فلسطين الجريحة. وبدوري اصلي الى الله أن تعيد قيادة شعبنا حساباتها ولا تسمح لراس المال ان يسحق انسانية الانسان، لان الله يحب الانسان ويريد له الخير دائما

اخر الافلام

.. نواب الجمعية الوطنية الفرنسية.. مفاوضات مرحلة ما بعد الانتخا


.. ما ردود الفعل في أوروبا على نتائج الانتخابات التشريعية في فر




.. حماس تتخلى عن مطلب وقف إطلاق نار دائم كشرط مسبق للتفاوض للإف


.. صور حصرية لحرق مستوطنين شاحنات بضائع ومساعدات في طريقها إلى




.. بسبب القصف الروسي.. دمار كبير في مستشفى الأطفال ومبان سكنية