الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متاهات

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2014 / 2 / 5
الادب والفن




يجلس حسن متكورا قرب المنزل المكتري، ينتظر صديقه الأستاذ ؛ الباب مسدل، وضع حقيبته وجريدته، وانزوى قرب الباب، لاشيء يحيل على أنه أستاذ، لقد غادر قريته هذا المساء، ووضع حقيبته على ظهره، وهم بالمغادرة ؛ كانت القرية غارقة في الأوحال، ولم يسلم سرواله وحذاؤه من لطخاتها، إنه ليس أستاذا، ويحصل له الشرف ألا يكون كذلك . عاد إلى القرية، فاستبشر وجهه، وتخلص قليلا من تلكؤ الوزارة والتعليم، والعالم بأسره . فكل من التقاه يقول له : " أستاذ " ؛ إنه أستاذ بالاسم، حتى كره هذه اللفظة من أول حرفها إلى آخره .
سرواله ذاك، اشتراه منذ سنتين، أما حذاؤه الواشك على الانكسار، فاقتناه منذ أربع سنوات، لم ينل شيئا من التعليم غير أزيز التلاميذ، وشطحات المذكرات، وأوامر المدير، ونعيق الجرس...
وها هو الآن وصل إلى تلك المدينة الكئيبة، التي تتقاذفها همسات الكلاب، وأزيز الرياح، وتأوهات الباعة، مدينة يعمها الفقر، ويكتنفها البؤس، وتسكنها الفاقة، يختلط في متاهاتها، ويتوقف من حين لآخر لكي يقضم من الخبز الذي حمله معه من قريته، ولكن يجد صعوبة في قضمه، حتى وإن نخره الجوع، وهده التعب من جراء السفر والتنقل بين الحافلات والطاكسيات .
لقد لوت أمه الخبز بين مجموعة من المناديل، المنزل المكترى بعيد، والطريق طويلة، يفكر أن يستقل سيارة أجرة، حك جيبه، فتذكر أن النقود التي سلمتها له أمه لا تساوي إلا ثمن الكراء، ولن يبق له إلا بضعة قروش ستسد خصاصته مدة أسبوع شريطة أن يتقشف، لقد حثته أمه على الاقتراض، لكنه نظر في عينيها الكابيتين، وقبلها، وقال لها : " أمي إنني بخير، اعتني بوالدي المريض، أما أنا فلست بحاجة للمال "، فودعها، ووضع الحقيبة على ظهره، وغادر نحو المدينة التي يدرس بها التلاميذ، هكذا كانت علاقته بأمه عندما كان تلميذا، كانت تستقبله عند الباب، وتحثه بالكلام، وتمده بالنصائح، وتسلمه أجرا، لكنه كان يمتنع ولا يأخذ إلا القليل، فوالدته لا ترعى سوى ثلاث بقرات عجاف، ولا تبيع عجلا من عجولها إلا في غضون ثلاث سنوات، أو أربع .
كان يقول لوالدته : أنه بخير، أما هو فليس كذلك، لم يكن يفطر، ولم يكن يتغدى إلا بالخبز والشاي، أما في العشاء، فيتناول الحساء عند الجيلالي اللحية الذي يربض بكروسته قرب المسجد المجاور للثانوية . لم يكن يذهب إلى الحمام إلا في غضون أسبوعين، وغالبا لا يحترم هذا الوقت، فهو لا يفكر إلا في بطنه، فما بالك بأوساخه ؟ لقد ندم كثيرا على دراسته، وكان يتمنى في دخيلته أن يبقى جوار أمه يرعى الأبقار خيرا من التعليم في مجتمع يكره العلم، لن ينس في حياته حينما حث أحد التلاميذ بإعداد دروسه، فرد عليه هذا الأخير : " أنا ما بغيش نقرا، وزيدون نتوما مكتقريو والو، كتعرفو غير تريو في الفلوس "، فما كان من الأستاذ حسن إلا أن " خلا دار بوه "، فهو لا يعرف أن هذا الأستاذ قذف بين ألسنة النيران، وأنه ما كان يقوم بعمله هذا لو لم يفكر في مصير الشعب وهموم المنسيين، أليس هو أكبر منسي ؟ إن الأستاذ هو أكبر منسي حينما يزج به بين الأدغال والفيافي والعزلة، أما هؤلاء الذين يضعون المذكرات، فيتناولون فنجان القهوة بين مكاتبهم المكيفة . تلك هي مفارقة المفارقات .
ينتظر، وينتظر، لكن صديقه لم يأت ؛ يأخذ هاتفه، ويمازحه كما تمازح الرياح خصلات شعره، يحس بنوة تخترق أوصاله، ينكمش كالسلحفاة، ينظر نحو المصباح الكهربائي، يداهمه الجوع ثانية، يتذكر أمه، يحن إليها، ويشفق عليها وهي تريد أن تسلمه جميع ما يملك، يتذكر نظرتها الأخيرة كما يستشعر لحظة الوداع، يفتح حقيبته، يقضم الخبز، يمضغه، يقضم...يقترب من كوة نور، يتلاشى الليل البهيم، يأخذ ورقة ويكتب ....
وبينما هو يفعل ذلك، يطل عليه جاره حمودة " الميكانيك " قائلا : " صديقك لن يأت إلا في الصباح "، اقترب من الباب، وافترش الأرض، وفي الغد قرأ التلاميذ على ورقة تعبث بها الرياح :
" إلى كل الأساتذة ....اعتصام مفتوح من أجل استرجاع الحق المهضوم ...يا تلميذ...يا أستاذ...أنت لست بالمغبون، والثورة الثقافية هي التي ترجع لك حقك المهدور "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان وهران للفيلم العربي يكرم المخرج الحاصل على الأوسكار ك


.. محمود حميدة يحمل الوهر الذهبي من مهرجان وهران للفيلم العربي




.. تفاصيل أول زيارة لمصر من الفنان العالمي كامل الباشا?? #معكم_


.. خطبة باللغة العربية.. ما الرسائل التي أراد المرشد الإيراني إ




.. تاريخ كبير للفنان الفلسطيني???? كامل الباشا ?? #معكم_منى_الش