الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أربعة مشاريع أرشيفية في معرض بين الواقع الغائم وذاكرة الفن

يوسف ليمود

2014 / 2 / 5
الادب والفن


كل عمل فني يحمل، وبشكل غير مقصود، بذرة كونه أرشيفا، اعتبارا لحقيقة التحول الحتمي الذي يُحدثه الزمن فيه، إذ يحول قيمته من فنية إلى تاريخية، أي إلى مستند، أرشيف، بمعنى ما. ولكن ما بالنا بالعمل الفني الذي ينطلق أساسا من فكرة الأرشيف ويتعامل معها؟ تلك التي تذهب إلى العلامات والإشارات الناجية أو المتبقية من حدث تاريخي ما، تكشف الغطاء، تربط بين الخيوط، أو تفكك الخيوط، تضع علامات استفهام على المطموس والمحجوب والناقص، أو، حين يضن الواقع بآثاره ومعطياته، تنشئ هي نفسها أرشيفا فنيا وهميا بديلا. هذا المنطلق الفني، المتأرجح بين ما هو بحثي/ تنقيبي وما هو فني إبداعي، يمثل شكلا جديدا، نسبيا، لكنْ آخذا في الاتساع، على مستوى الممارسات الفنية المعاصرة منذ العقود القليلة الماضية.
بديهي أن الأدب، ومن بعده السينما، هما أكثر ما تعامل مع فكرة الأرشيف، بسبب الطبيعة السردية التي تحكمهما كشكلين من أشكال الفنون. أما الفن البصري، فتعامله مع الفكرة لم يظهر إلا في النصف الأخير من القرن العشرين عبر تجارب قليلة جدا ارتبطت بشكل عام بالفجائع البشرية من محارق ومذابح وإبادات… هذا الانتباه لفكرة الأرشيف كمادة للتعامل الفني، والذي لعبت الثورة المعلوماتية دورا كبيرا في تسليط الضوء عليه وبلورته كقضية، دعّمه أيضا اهتمام مماثل على مستوى الفكر المعاصر، حين نعرف مثلا أن فالتر بنيامين كان قد تناول الموضوع في واحد من مقالاته الكاشفة التي كان الفن محورها، كذلك كتاب دريدا "حمى الأرشيف الفرويدي"، وآخرون عديدون لمسوا الموضوع بشكل مباشر أو غير مباشر.

في سبتمبر 2012، وبدعم من المؤسسة السويسرية في القاهرة "بروهلفتسيا"، نظم كل من: الفنانة المصرية هالة القوصي والفنان السويسري أورييل أورلو ورشة عمل لمدة أسبوع، بمركز الصورة المعاصرة، حول أبعاد العلاقة بين الفن البصري وفكرة البحث الأرشيفي، تلى ذلك دعوة المشاركين بالورشة للتقدم باقتراحات لمشاريع قابلة للتطوير والدعم في حال قبولها، ومن الاقتراحات التي قُدمت تم قبول أربعة مشاريع حصل أصحابها، وهم خمس فنانين، على منحة المؤسسة، وذلك لمدة سنة عملوا فيها على الأفكار التي قدموها ليجسدوا منها أعمالهم الفنية التي عرضت حتى منتصف يناير المنصرم في مركز الصورة المعاصرة بالقاهرة.

جاء مشروع ندى شلبي "أنا وانت والزمن طويل" من واقع تجربتها، أو بالأحرى معايشتها لموقع أثري يدعى "تل اليهودية" بمدينة منشئها: شبين القناطر، بمحافظة القليوبية، حيث تتداخل الحقيقة التاريخية مع الأسطورة مع الاعتقاد الشعبي الخرافي لتخلق نسيجا ملتبسا ومتناقضا قوامه التبجيل والنفور في ذات اللحظة، الأمر الذي نلمس إشارة له في عنوان المشروع الذي يشير بلهجته العامية إلى مفارقة العداوة والارتباط الممتد، في الوقت نفسه. فقد كان بالموقع عمود وبقايا حمّام يعتقد الناس في قدرتهما على وهب الخصوبة للعاقر التي لا تلد، فتجيء إليه النساء ليمارسن الطقوس الخاصة بتلك الحاجة، وهي نوع من القناعة أشبه بتقديس مكان ينتمي تاريخيا إلى ديانة ساقطة في نظر من يترددون عليه أنفسهم. ويذكر هنا أن وزارة الآثار المصرية كانت قد قامت بإزالة الحمام والعمود ووضعتهما في مخازنها، في محاولة بائسة ويائسة للقضاء على تلك العادات والطقوس الشعبية.

اعتمد عمل شلبي على الحفر البحثي على كل الأصعدة الممكنة، من عرض لصفحات من بطون كتب تاريخية نادرة، إلى لقاءات ومقابلات مع علماء آثار وبعض سكان البلدة، إلى فوتوغرافيا للموقع وخرائط توضيحية، إلى إعادة إنتاج بعض الآثار والمخلفات التي نهبت من الموقع كالقدور الفخارية والتي توجد حاليا ببعض المتاحف العالمية الكبرى كاللوفر ومتحف بروكلين والمتحف البريطاني. تعمدت شلبي تقديم تلك الشواهد التي جمّعتها دون أي محاولة منها للتدخل، رمزيا أو تعبيريا أو بأي فذلكة فنية أخرى من النوع الذي يمكن أن يُشعر المتلقي بظل الفنان الثقيل مرميا على عمله. فطبيعة المادة والموضوع لا تحتمل وجود "أنا" أو ظل الفنان هنا، لذا آثرت الفنانة أن تقوم بدور الوسيط الذي لا أثر له بين كومة الآثار التي جمعتها وعرضتها في خفة تعادل هشاشة وجود تل أثري يعود إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد.

على شريط فيديو تسجيلي، ومجموعة من الفوتوغرافيا تصور لقطات تفصيلية من رسومات طلبة كلية الفنون الجميلة، ومنشور ورقي، قدمت مريم إلياس ومروى الشاذلي مشروعهما "رسم على جسد عاري" الذي يتناول قضية الموديلات الحية التي كانت تقف عارية، كما في كل أكاديميات الفن في العالم، حتى الستينيات، في مراسم كلية الفنون بالزمالك حيث من المفترض أن يتعلم الطلبة من الموديل وأوضاعه نسَب الطبيعة وعوالم الشكل والنور والظلال. يعرض هذا العمل ضمن ما يعرض من أبعاد عديدة، وربما بشكل غير متعمد، الحالة المزرية التي وصلت إليها المنظومة التعليمية بأكملها في مصر، وبالأخص في تلك الأماكن والمؤسسات التي من المفترض أنها ذات قداسة معينة لكونها تدرّس الفن والجمال فإذا بها أماكن للمنع والحجب والتحريم باسم الدين وبعنف وحيوانية الفقريْن، الفكري والمادي معا.

أما علياء صالح، تناولت إشكالية الحدود البحرية المصرية التي انتهكت اتفاقياتها من الجارتين: إسرائيل وقبرص، خصوصا بعد اكتشاف مصادر وحقول الغاز في المساحات الحدودية. في "خطوط في البحر"، وهو اسم المشروع، تحاول صالح أن تبحث، في ذلك السراب المائي، عن الخطوط التي أقرتها الاتفاقيات السياسية وضاعت في اللغو الصحفي اليومي بتصريحاته المتعارضة مع الحقيقة والواقع. تلك التصريحات السياسية طبعتها الفنانة على ورق أشبه بجريدة رمزية خالية إلا من عناوين جوفاء عائمة في فراغ أكوام من الورق (الصحف) المتراكم في بؤس، في أركان المكان والزمن.

"متحف الهولوكاوست الأسود" للفنان السوداني المولود بالقاهرة أمادو الفادني، هو اسم العمل الأخير المشارك، وقد طغت عليه الصبغة الرمزية، غالبا بسببٍ من تواضع المتبقي من أرشيف الواقع (بضع صور لأفراد مكبلين والأطواق في أعناقهم..)، وهو يعود بالذاكرة إلى ما يعتبر، تاريخيا، أولى المذابح التي افتتح بها القرن العشرون شهوته للدم: إبادة مئة ألف عضو تقريبا من قبائل الهريرو والناماجو، في ناميبيا الحالية، على يد الألمان الذين استعمروا تلك الأرض، بوحشية يُعتقد أنها كانت ملهِما لهتلر في أساليبه. ثلاثة آلاف عقلة مقتطعة من أغصان شجرة لحاءُها داكن البُنّية، رصّهم الفنان في شكل هرمي في الغرفة بعد أن رقمّهم بالأحمر، الأمر الذي يحيل إلى حقيقة ضياع أسمائهم من الأرشيف وإحلال الرقم بدل الاسم، وهم أبناء شعوب كانت حين يموت فرد منها تأتي بشخص يحمل نفس اسم الميت ليشعل نارا مقدسة فتتحرر بذلك روح الميت وتنجو من الضياع. أمام هذا الهرم الأصم، نسمع وصفا تفصيليا لعدد من الصور لمن سيكونون بعد التقاط الصورة أرواحا ضائعة وهائمة إلى الأبد في أرشيف الوجود.

يوسف ليمود








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_