الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيرة شخصية - الفصل الثاني

ناهدة جابر جاسم
(Nahda Jaber Jassem)

2014 / 2 / 8
الادب والفن


فمنذ منتصف ستينيات القرن العشرين المنصرم، دأبت أمي وعمتي على اصطحابي لزيارة أبن عمي – محمود – الذي كان يعمل مع أبي في دكانه إلى سجن – الحلة – بعد ان حُكم عليه بالسجن مدة عشرين عاما في دعوة مشهورة أعقاب انقلاب 8 شباط 1963 حينما قام مجموعة من شباب مدينة الديوانية بسرقة مطبعة من ثانوية الديوانية أذتذكر منهم الشاعر والمجدد في القصيدة الشعبية علي الشيباني وطباعة بيان باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراق وتوزيعه، فانكشفوا لكنهم في المحكمة رموا الحاكم العرفي بالأحذية مما جعل حكمهم قاسيا. كان ابن عمي مشترك معهم.
تلك الزيارات انطبعت في ذهني وأتذكرها الآن بوضوح وكأنها جرت بالأمس. الجلوس في باحة السجن، جموع المساجين وعائلاتهم، زوجات وأمهات مدلهات بالابن والزوج المسجون. وابن عمي الطيب الرقيق بوجهه الصابر المستسلم المبتسم وصوته المنخفض الخجول لكنه القوي، كل ذلك من اللحظة التي نحضر بها الأكل والشرب إلى طريقنا إلى حافلات الحلة في فجر يوم كل خميس والطريق القديم المحاط بالبساتين والحقول، ولحظة السماح لنا بالدخول إلى المواجهة والعودة الحزينة، كل ذلك خلق في نفسي الكثير من الأسئلة التي سوف أسعى للوصول إلى أجوبتها وأجد نفسي أسلك نفس سلوك – محمود – ابن عمي الذي مات في فراشه موت ملاك وأنا هنا في منفاي الدنمركي أواخر تسعينيات القرن الماضي.

في أعقاب نكسة حزيران 1967 كما يسميها العرب وقت حكوماتهم القومية حينما هزمتهم إسرائيل في غضون ستة أيام و جيوشهم واحتلت ما تبقى من فلسطين، أطلقت حكومة – عبد الرحمن عارف – العراقية الضعيفة سراح السجناء السياسيين، فأصبح – محمود – رمز طفولتي قريباً جدا إذ عاد للعمل مع أبي في دكانه وسط السوق، وصرت أراه خصوصاً في العطلة الصيفية حينما أغبش مع أبي إلى السوق. وكان يسكن على مبعدة عشرة أمتار من بيتنا، كان رقيقا، شديد الرقة يبكي لأقل ضرٍ يمس الإنسان. أدمن الخمرة، وفي كل ليلة يمر على دارنا وينفجر في بكاء مرّ على أقل خبرٍ فيه أذيه لإنسان. أورثته سنين السجن رقة قضت عليه وهو لم يتجاوز الخمسين في عراق ظل ينحدر من درك أسفل إلى أسفل.

صارت الشيوعية عبر ابن عمي – محمود – شيئا رقيقا، معني بالإنسان، ومع قربي من سني المراهقة وتقدمي في مراحلي الدراسية وبتفوق في المتوسطة بدأت بالاهتمام الشديد في القراءة. ومن الطريف في هذه القصة أن من وفرَّ لي الكتب في تلك الفترة شخصية من أطرف شخصيات الديوانية سائق سيارة (أو أم UM)على طريق بغداد – الديوانية ( مجيد حرز ) كان صديق عائلتنا وصديق أشهر عوائل المدينة إذ كان يأخذهم في دورات لزيارة الأماكن المقدسة، نجف كربلاء، سامراء. وكان كما سأكتشف لاحقا بعد اقتراني بزوجي – سلام – أنه كان صديقا لمثقفي المدينة وشعرائها الشعبيين المشهوريين في العراق ك علي الشباني، وعزيز السماوي، وشاكر السماوي، وكزار حنتوش، وكان كما ذكر لي زوجي يحضر كل جلساتهم في البيوت سنوات سبعينيات القرن الماضي، وكان يمتلك مكتبة دسمة فكرياً، فبدأت أستعير منه كتباً ساهمت بتوطيد أفكاري عن النضال والإنسان، روايات عن نضال الأنصار الشيوعيين وقت الاحتلال النازي للإتحاد السوفيتي.
كنت متوقدة أشعلتني رواية الأم لمكسيم غوركي وتخيلت نفسي تلك الأم المناضلة التي تتابع أبنها الذي تدله في السياسة رغم ترعرعه في عائلة ممزقة أباه سكير يضرب أمه، حلّت بروحي روح الأم المناضلة، فعدت لا أرى شيئا سوى درب النضال من أجل تحقيق حلم الإنسان في وطن عراقي حر وشعب سعيد، شعار كنت أقرأه على الصفحة الأولى من جريدة – طريق الشعب – العلنية بعد إعلان الجبهة الوطنية في 17 تموز 1973. عدا الروايات الإنسانية كروايات تولستوي ودستويفسكي التي أمدتني ببعدٍ ثقافي عميق سوف يتوارى طويلا في خضم التجربة السياسية العنيفة التي خضتها،ـ لكنه أمتلك كياني في خريف العمر وأنا في منفاي الأسكندنافي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاخت العزيزة ناهدة جابر جاسم
جمشيد ابراهيم ( 2014 / 2 / 8 - 10:45 )
عزيزتي ناهدة
هذه الذكريات الشخصية اهم من النصوص العامة و هي ايضا مهمة في الرجوع اليها في الغربة و هي التي تواسيك في حزنك و وحدانيتك و لكني اعرف ان الذكريات يجب ان تبقى في الماضي و لا يلتقي الحاضر بالماضي و الا تبددت مثلما ماتت بعض ذكرياتي بسبب البحث عن الماضي في الحاضر
لك مني اجمل التحيات و احترامي و تقديري

اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس