الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة : لعنة النزيف

بديع الآلوسي

2014 / 2 / 12
الادب والفن




( 1 )


غريب ، وغريبة هذه الغابة . آه ، كم تقت إلى أن أعطي نفسي فسحة من الراحة . كي أواجه ما سيؤول إليه الزمن القادم من نضارة أو تجهم . قبل يومين عصرا ً، وبينما كنت أتجول في الغابة ، سد طريقي سؤال أوقفني وهو يردد : ما الحدود الفاصلة بين التخيلات والواقع ؟
اليوم في المرسم ترددت أصداء نفس السؤال وامتزجت بنغمات الموسيقى . نعم ، كنت كئيبا ً مهموما ً، تلعثمت وأنا احاول الإجابة عليه تشكيليا ً .
وبما أني أخشى مواجهة اللوحة العذراء ككثير من الفنانين ، لذلك بريت أقلامي الملونة ، عقدت العزم على ترك الحرية للخطوط لتواجه الموقف ، عسى باستطاعتها ترجمة إحساساتي البدائية، أو ما يشغل ذهني من أفكار هائمة على وجهها . ومما لاشك فيه أن الثلاث ساعات كانت مغرية ، عدت لأتفحص وبانتباه ما أنجزت من خطأ وصواب ، في هذه اللحظات المثيرة ، ساورني التوتر بما سيلفت انتباهي منها . وتساءلت بحزم :
ـ حسنا ً الآن ، ماذا سأفعل ؟
تلك هي المسألة إذن ! ، بعض التخطيطات مليء بالحيوية ومنها ما سيقذف في سلة المهملات . ولحسن حظي ، إن بعض السكيتشات كانت تبدو طازجة ، لذلك حدست أنها ستمهد لي الطريق تدريجيا ً . اخترت للوحتي اسما ً أوليا ً هو : ( العزاء ) ، وهنا خطر في بالي ما للعنوان من أهمية ، معتقدا ً بضرورة الاحتفاء بكلمة العزاء والاستفادة منها كدليل إيجابي .
قناعتي في السنين العشر الأخيرة غلبها هاجس وحيد هو : ما في داخلي أهم مما في الخارج . لذلك لا غرابة أن تكون أغلب لوحاتي تميل إلى التجريد أو التعبير ، فهي فظة وخشنة ، وربما فيها مسحة مما هو عدائي . فمثلا ً، إن لوحات ( المرأة الحامل ) تبدو غير محتشمة للوهلة الأولى ، وأعتقد إن لوحات( الطيور) تثير دهشتي وفضولي هي الأخرى، فهي بالرغم من واقعيتها المتخيلة ، تشعرني بان ثمة رهبة تحملها هذه الكائنات الصغيرة المتوترة وكأنها تسائلنا :إلى متى اشعر بالوجل منكم؟
أما لوحات ( الوجوه) فهي لا تشبه أحدا ً ، كأنها خارجة من طيات كوابيس المنفى محملة ً بأسرارها الخاصة . نعم ، كذلك هي سلسلة لوحاتي الصغيرة والكبيرة عن موضوعة( النقطة) ففيها نضارة صوفية ، وأحس أن كل منها يخفي لحنا ً موسيقيا ً يعيدني إلى حيث الحياة الهادئة بصمتها . وحين أتذكرها اليوم ، اردد عبارة ( جوبرت ) : لا يمكن أن نجد الشعر في أي مكان إن لم نحمله في أعماقنا .
كل هذه الموضوعات وغيرها أثارتني وشغلتني، وحاولت أن ادعها تتكلم نيابة عني بصريا ً ، لكن فجأة ، قفز ذلك السؤال الذي ارقني وجعلني لا أنام نوما ً هانئا ً ليلة البارحة : ما ذنبي إذا ما أحببت الجمال ؟
راقبت التخطيطات كلاً على انفراد ، شعرت بحزن لأن ثمة قرارا ً ينتظرها ، لذلك نشرتها على الأرض وبدأت أتمعن فيها وأتفحصها واحدة تلو الأخرى ، فلم أجد في تلك التخطيطات الإثنى عشر سوى تخطيطيين قد دبت فيهما الروح . أثارا إعجابي ، لأنهما أكثر رشاقة وقربا ً لما في ذهني .
لكن ولكي لا أصاب بالإحباط أو الملل ، وللتوقف عن الجري وراء الأفكار ، اكتفيت بهذا النصر، مصغيا ًلذلك التساؤل : هل يجتمع النظام و الفوضى في رحم لوحة واحدة ؟.
سرعان ما شعرت بالقلق أو الخطر ، وانتابتني رغبة بتمزيق ستة تخطيطات ، في النهاية وددت أن اسأل السكيتشات ، فهن رفيقات رحلتي :
ـ أيهما أهم الحالة الذهنية أم الفعل الذي تجسد على الورق ؟
في الساعة الخامسة عصرا ً ، خانتني الشجاعة أن أقوم بأي فعل . أغلقت جهاز الموسيقى ، حينها بدا لي صوت التخطيطات أكثر وضوحا ًوهي تقول :
ـ ليس ثمة ما يدعو إلى العجلة ، أذهب فالغابة بانتظارك .


(2 )


ا
في غابتي ، التي تلفها العزلة الباذخة ، ينمو الفُطر تحت أشجار البلوط والأرز والبندق ، وتتناسل بين أغصانها طيور العقعق والشحرور ونقار الخشب والصقر ، وأصادف بين أحراجها الأرنب أو الثعلب أو الخنزير ، حينها أتمهل لأرصدها بفرح ، كأن نظراتها تقول لي : لا تنس ، فنحن سُكان هذا المكان .
اليوم أوقفتني سيدة هيفاء القامة ، لتسألني ، بعدما رأت سحنتي الشرقية :
ـ من أي بلد أنت ؟
قليل من أهالي قريتي يعرف أن لي مشغلا ً ، أهتدي إليه بمهل بعد احتساء قهوة الصباح . وفيه أجد هزائمي وانتصاراتي وما يملأ حواسي من عطش . في المرسم تعلمت أن الأفكار لا تبرعم ما لم نحسن العناية بها ، لذلك كنت أردد دائما ً : لا إلهام من دون رباطة جأش .
مشيت مخترقا ً حديقتي باخضرارها الزاهي وأزهارها المتناثرة ، متجها ً نحو مرسمي مرددا ً ونفسي : أيها الولد الشقي ، إنك تعرف ما سيحل بالمرأة .
يبدو اليوم بنهاره الربيعي وكأنه خارج دائرة الروتين . مررَت بالحصى وقطع الفخار المركونة على جانبي سلم المرسم ، لا اعرف لماذا شعرت لحظتئذ وكأنها تفيض سلاما ًوحنينا ً لشيء ما .
في منتصف الشتاء ، تتحول الباحة التي أمام المرسم الى حلم بلوري ، فالثلج يثير رغبتي هو الآخر ، يجعلني مدركا ً أن تأدية واجبي بحاجة الى كل الفصول . لكن حين يكون الشتاء قاسيا وطويلا ً ً، يزعجني الثلج ، حينها اعترف بكل ذلك للفلاحين الفرنسيين ، الذين لا يكف اليساريون منهم عن ترديد : ما أحوجنا إلى الثلج .
ما أن أقف أمام المرسم حتى تنتابني رعده خفيفة تسري بظهري ، وعندما أصعد الدرجات السبع أحس بخفق قلبي ، كمغرم مُقبل على مغامرة .
هذا الدرج الأسمنتي يقودني إلى المرسم ، ببابه المطلي بدهان اخضر غامق ، والمزدان بقطعة كبيرة من الزجاج ، منها يتاح لي مراقبة الغيوم عند الضجر .
من يتلصص إلى ما في داخل المكان ، يرى وبقليل من الجهد خزانة كبيرة اعتلتها مزهرية
، كتب ومجلات رتبت كبيادق الشطرنج ، لوحة متوسطة الحجم بإطار مذهب ، وعلب الألوان تناثرت على البلاط ، وحزم من فرشاة الرسم تملأ العلب السيراميكية والبلاستيكية ، كما يمكنه مشاهدة نباتات الزينة التي قرب الشباك المطل على الشارع ، أما في الزاوية الشمالية فيلحظ المكتبة الموسيقية التي طالها الإهمال والفوضى . وقرب المدفئة هنالك كرسي هزاز لطالما استخدمته للراحة والتأمل ، ومن يرفع عينيه إلى السقف يلحظ النيون الطويل والمصابيح المتدلية التي وضعتها لتسعف المكان بالضوء يوم تكون السماوات مدلهمة بالغيوم .

في هذا الصباح ، كان المرسم باردا ً ، لذا شغلت نفسي بجلب الحطب وإشعال المدفأة . وما أن تراقصت النيران واسترقت ُ النظر إلى التخطيطات التي على الطاولة ، حتى أدركت ماذا ينتظرني ، لا اعرف لماذا راودني هذا السؤال : هل سأجد الروح تنبض في التخطيطين أم أنهما فارقا الحياة ؟
اعتراني شيء من الغضب لأن ما في ذهني يتعذر انجازه بيسر ، أن فكرة السيدة التي تحتاج الإغاثة ، تظهر ببريق مشع ومن ثم تغرق في ضباب بلا شفاعة .
أردت أن تهمس الشيطان أو العفاريت في أذني ، علي ً أجد من يساعدني على اختيار حجم اللوحة ، التي سأعقد حواري معها ، وظل القلق يكتنفني بانتقاء الهارموني اللوني المناسب والذي عليه كنت أعول لتأويل جوهر تلك اللحظة المفجعة .

يا له من نهار محمل بالرعود ، بدأت أحوم بعيني نمر يقظ حول التخطيطات ، محاولا ً العثور على الهدوء او تغافل ذلك السؤال : يا للهول ، متى أبدأ ؟

في هذه الأثناء ، داهمتني رغبة لسماع الموسيقى، تطلعت من الشباك ، بنظرة عابرة ، فرأيت عامل النظافة يحمل كيساً اسود وهو يركض وراء الشاحنة ، في لحظتئذ بدأت ألحان ( فرانز شوبرت ) تثبت حضورها و ترشدني إلى المفاجأة التي تتربص بي .

في الساعة الثامنة وأربعين دقيقة ، استفاقت رغبة كنت بانتظارها ، بدأت أتحسس الدفء ينعش زوايا المرسم ، هتفت كمن وجد الحل : سيكون أمرا ً طيبا ً لو يكون حجمها مترا ً مربعا ً .
هذا الاختيار حفزني ، بسرعة علقت اللوحة العذراء على الحائط ، جلست على الكرسي أتأملها ، أحدق بها ، باحثا ًعن نقطة البداية المناسبة ، بدأت أحساساتي ومخيلاي يشتغلان ويرقبان ما سيحدث ، وصارت عيني ترى أشياء ً متخيلة ً من الصعب أن يراها الآخرون .

في هذه الأثناء ، انحسر تدفق الضوء ، نظرت إلى الغيوم والى الرذاذ الناعم ، فوجدت من الضروري الاستعانة بضوء المصباح المتدلي .

في تلك اللحظة الكاشفة تغير كل شيء ، ما أن اتجهت إلى اللوحة فاركا ً عيني لعدة مرات ، حتى توضح نبر الصوت القادم من داخل اللوحة ، بعدها عاد حيث مصادره الأولى ، وصرت كمن يصغ إلى عويل امرأة اغتيلت بطلقة طائشة .
فقفزت ، وبدأت الرسم ، غمست الفرشاة في علبة الأيكرليك الأسود، وبحذر بدأت اتلمس طريقي نحو رحلة التخطيط والتكوين ، مستعينا ً بكل ما أنجزته في نهار أمس .

اعرف أن تناسل الخطوط له طاقة تتغير بتعددها ، ومرت أكثر من ساعة ، كانت فيها خطواتي تقترب وتبتعد ، وعيناي تنغلق بنصف اغماضة وتنفتح ، لأحدس ما سيحدث .

فجأة ً ، صار بإمكاني رؤية شعاع الشمس الذهبي ، ذلك السحر البهي أعاد الثقة إلى نفسي ،
لذا تطلعت في اللوحة مطولا ً وبشيء من السخرية قلت : كلا ، سوف لا أهلك .

بعد ساعتين ، شعرت بالبهجة وأنا أنظر إلى التخطيط وما فيه من حياة ، أدركت عندها أن التكوين الأولي قد أكتمل … لتحمل عنوانا ً جديدا ً هو : لعنة النزيف .

لم يعد هربي مجديا ً ، ولا يمكنني مطلقا ً نسيان ما رأيت ، نعم ، لحظت فيما يشبه الحلم تلك المرأة المخضبة بالدم ، يحضنها شخص فزع العينين ، موقنا ً إن السماء تخلت عنهما .

في تمام الساعة الثالثة ، وبعد أن تعبت من الكر والفر ، وبعد ان وهبت لوحتي الجديدة ما يناسبها ، تنفست بعمق ، عبأت غليوني بالتبغ ، راميا ً بجسدي المتعب على كرسي التأمل .

لم تكن حالتي تسمح بالثرثرة ، لكني توقعت أن اللوحة ستجد صعوبة بالغة في معرفة ما في خلدي ، لذلك سألتها :
ـ هل تعتقدين بأنني أصبت الهدف ؟
تناهى إلى سمعي جوابها بعد دقيقتين :
ـ لا يمكننا التكهن بالضبط عما ستثمر عنه الخطوة الأولى ، إنها عرضة للتغيير .
ـ أعلم ذلك ، لكني لا اعرف ماذا سيحدث غدا ً .
سمعت كركرات عذبة ، بعدها قالت بصرامة :
ـ لا ينقصك اليوم سوى رؤية الغابة ، إنها بانتظارك .


( 3 )

مر الوقت سريعا ً في الغابة ، بمشاهدها الرَعويّة ، بظلالها الدسمة وهوائها المعافى ، كنت أغني حين صادفت ذلك الرجل الذي يشق طريقة بعصا الراعي ، أشرق وجهه حين سألني بخجل :
ـ هل صحيح ، أن المهاجرين غريبوا الأطوار ؟ .
وأنا أتجاوز الدروب عائدا ً إلى قريتي ، هذه القرية التي يوم سكنتها قبل سبع عشرة سنة وجدتها خالية من الأطفال ، كأنها منتجع للمتقاعدين . لا اعرف من أطلق عليها تسمية ( لاشو ) . فيها منجم لليورانيوم ، وعلى بعد خمسين كيلو متراً نرى الجبال البركانية الخامدة . لكني لا أبالي كثيرا ً وأقول لأصدقائي العراقيين القاطنين في باريس : إنها أفضل مكان للخلوة وممارسة التأمل .
من شباك مرسمي أرى الكنيسة ، التي لا شأن لأهالي القرية بها غير يوم الأحد ، أما أنا فلم اذهب أليها إلا في مراسيم جنائزهم ، أكتفي بذلك لأني احترم هذا الخلل الطارئ . منهم من يفاجأ لحضوري المباغت ، وبعض العنصريين منهم يرددون في سرهم : ماذا تفعل بيننا أيها الغريب ؟
في صباح اليوم التالي كانت الشمس تثير الخيال ، لكني ككثير من البشر صرفت وقتي وشغلت نفسي في أمور جانبية ، فلم افتح باب مشغلي ، الذي بدأت تحوم فيه كائنات متراقصة .
بعد الظهر بقليل أكلت بشهية واحتسيت نبيذا ً أحمر خلاف ما هو معتاد . فكرت باللوحة ، بمصادفاتها ، بوجه المرأة الذي يشبه القناع ، لا أفهم لماذا قلت لزوجتي : يجب أن لا أنساها .
حين نكون مع أنفسنا فقط ، تتجدد الأهداف وتهاج الذكريات وتنتشي الهواجس الثملة ، عرفت ان كل ذلك يبحث عن لحظة إشراق ملعونة . ياه ، كم احتاج اليوم لأعتق من ذلك التساؤل الذي يتسلى بتعذيبي :
ـ هيا ، اخبرني ، ما ذنب اللوحة أذا كنت محبطا ً ؟
لكني لم ابحث عن الجواب ، دخلت المرسم وأنا أسمع ورائي نباح كلبنا ( غوزي )، تسمرت جالسا ً كالأبله على كرسي التأمل ، متحسسا ً جمر المدفئة ، مصغيا ً لما تثيره موسيقى اليابانيين الصوفية .
محدقا ً باللوحة التي تركتها زاهية ً بألوانها السوداء .
الخواطر تجمعت ، كلمت ُ اللوحة متمنيا ً أن ترفع عن كاهلي لحظة التردد ، قالت بصوت محايد :
ــ ما الذي يخيفك ، هيا ، أيها الحر ، بوسعك أن تكون خالقا ً إذ أردت .
ـ حسنا ً ، يجب أن أنهض أذن .
بعد تلك الاستراحة ، استجمعت طاقتي ، وكأنني صرت أبصر لحظة التنوير . هنا وقفت أمام اللوحة متوقعا ً أن الخطوة القادمة ستحمل لي بين طياتها مسامرات دراماتيكية .
بينما بدأت أضيف طبقات اللون على وجه المرأة ، شعرت بتحسن مزاجي ، لكني لم أتخل عن الكر والفر وإعادة قراءة اللوحة لتدارك الخلل .
غير ان الخواطر التي لا يمكننا برهنتها بسهولة هي التي جعلتني اغمض عيناي نصف اغماضة، وأعاين اللوحة بتركيز ، وصرخت بها بينما أنا أحتسي قهوتي وأملأ رئتي بدخان غليوني ، كمن يريد أن يكتشف أمرا ً مستترا ً :
ـ لماذا لا تريدين أن تولدي إلا بعملية قيصرية ؟
في الصيف الماضي ، كان النشاط المغري من نصيبي ، قضيت أياما ً طويلة في تصوير موضوعة ( القبلة ) ، كنت فرحا ً، فالزمن كان يطير بلا شعور بالذنب أو التأنيب .
لكن بعد ذلك الأمل لم ترتو روحي من الرؤى ، فالحياة تورطنا يوميا ً بما هو جديد .
أخرجت دفتر الملاحظات وكتبت وأنا اختلس النظر بين الفينة والافينة إلى اللوحة ، هكذا ، كتبت وبخط واضح :
1 ـ ما أصعب أن نبقى نتأرجح بين الرغبة والرهبة .
2 ـ النتائج المذهلة للرسم تحتاج اكتشاف ما هو ضروري .
3 ـ أمام كل لوحة جديدة ، أتساءل : هل لحظة الإلهام غرقت في الوحل ؟
ما أعرفه الآن هو أنني أحببت هذه اللوحة ، يبدو أن الحب لعب لعبته ، إذ استعدت نشاطي محاولا ً أعادة الحياة لها ، بضربات رشيقة ومتعاقبة على وجه الرجل ، شعرت بأن عينيه الجاحظتين بدأتا تترجمان تلك اللحظة الدرامية ، كذلك هما يداه اللتان تطوقان المرأة التي تلون وجهها ورقبتها بالدم .
وأنا ارصد هذا المشهد الدرامي بجزع ، حاصر ذهني أكثر من هاجس ، سمعت اللوحة تسألني : لماذا في بلادك لا يحترمون البشر ؟
ابتعدت قليلا ً عن اللوحة كي أوقظ الذاكرة ، متسائلا ً عن اللون الملائم لسماء هذا المشهد .
وبما أننا بحاجة الى المغامرة بأثرها الدال ، لذلك لم أجد ما يليق بسماء اللوحة سوى السواد ، والغريب أن الضربات السوداء بخطوطها المنفعلة ، بدت وكأنها تلتف وتطوق رأس الرجل .
بعدها صار قلبي يخفق ، على اثر رؤيتي للطيور السوداء الحائمة ، والتي خلقتها المصادفة .
لكن بعد صراع بين ما أريده وبين ما تبغيه اللوحة ، أدركت أن كل ذلك عبث غير ضروري، نعم حقيقة ً لم أستأنس بكل ما قمت به خلال ساعتين .
خشية أن تسقط اللوحة في إسراف الثرثرة أو أن تتحول الطيور إلى عناصر مخادعة أو زائفة . فجأة ، ومن دون انتظار أو أسف ، أخذت الفرشاة الكبيرة وأنا اردد : يجب أن لا أسقط في فخاخ الزخرفة . ما أن تذكرت ذلك حتى طليت الجزء العلوي كله بالأسود .
غمرني هذا اللون بالراحة وأعاد إلى نفسي الرضا . وسرعان ما سمعت اللوحة تهتف بفرح : حسنا ُ فعلت .
هنا قلت متعجبا : حقا !
قالت كسيدة محتشمة : الآن ، ربما قد عرفت أن المحو هِبَة عظيمة
ـ ماذا يلزمني الآن ؟
ـ أن تروض عقلك على الاسترخاء
ـ الاسترخاء !
ـ نعم ، أمضي إلى الغابة ، إنها بانتظارك .

(4)

الزمن في الغابة لا يكترث لنا ، ففي وديانها تتدفق عيون الماء والسواقي التي لا تكف عن ترديد : هنا الصيادون يهددون السلام . حتى السنجاب يعرف ذلك ، وفاضت عيناه بقول غريب : الطلقة المارقة لها زمن لا تدركه الضحية .
لكن هنا في المرسم للوقت نبض آخر . كانت اللوحة بانتظاري ، وعندما ألحظها الآن أسمع صوتا ً يباغتني : يجب ان تصغي لي جيدا ً اليوم .
من كان يعتقد أن نظرة المرأة لي قد ساعدتني في نهاية المطاف على إعادة معالجة وجه الرجل وتغذيته بإحساسات جديدة . لكن وأنا أتسامر مع اللوحة ، كانت عيناي تحدقان بالمرأة ، برغبة عامرة وددت إنقاذها لكني لم افلح . أطبقت أسناني على الغليون الذي لم يعد يفارقني ، وتساءلت بحيرة :
ـ تُرى من تكونين ، ولماذا هذا الاستسلام العجيب ؟
وهكذا ، بدأت أشم رائحة الدم الذي ينزف منها ، في الساعة الحادية عشرة صباحا ً فكرت أن اللوحة تحتاج لمماحكة لبقة ، ولابد من فعل ، ولابد من مراجعة ردة الفعل ، الذي ربما يعيد بصيص الأمل إلى نفسي .
وما دام الأمر يتعلق بالأمل ، لذلك غمست الفرشاة باللون الأحمر ، على حين غرة كان الألم يلم بي عندما طليت الجزء الأسفل بصبغة دموية . وأحسست أن هذه المبادرة كانت حاسمة في بناء التكوين لهذه اللوحة .
لم تتركني هذه المرأة وشأني ، أردت أن أصرخ ، لكن ما أن فتحت الشباك حتى سمعت دوي طلقة طائشة ، أعادت إلى ذهني جزع الموت المحدق بتلك المرأة .
أخيرا ً تكومت على كرسي التأمل . حينها مرق في بالي ذلك الهاجس : نعم ، تجاوز عمري الخمسين ولا بد من التخلي عن ما يفسد اللوحة ، يجب أن أهذبها من كل ما هو تجاري .
كان الوقت يمضي ، انتصاف النهار يعني أشياء كثيرة بالنسبة لي ، منها تنامي الحماس ، وتأويل اللوحة كما لو أني أقرأها للمرة الأولى . ولكي لا أقع في الحيرة ، بدأت اصدر أحكامي النقدية ، التي ساعدتني على أضاءة وجه الرجل بالبرتقالي ورسم الظلال بضربات منسجمة .
كلنا يعرف أن للوحة شكل دال ، ولكني تساءلت : ما هو ، وكيف يمكن البرهنة علية الآن ؟
استغرقت في التفكير راصدا ً الضباب المتصاعد من المروج المقابلة للشباك . هذه الاستراحة القصيرة وتنشق الهواء العذب بسلام أثار انتباهي وحفزني لترويض ما هو مستتر ، أو البحث عن ما يوحد اللوحة تشكيليا ً .
أعطت للمسات الانطباعية البيضاء على وجهي الرجل والمرأة حيوية للشكل وطردت عن ذهني الإحساس بالخيبة ، إنها كانت تشبه الإشارات الطيبة للإهتدء إلى الإيقاع الداخلي .
نظرت مطولا ً إلى الوجهين ، قبل أن أقول لهما :
ـ يا لحزني عليكما اليوم ، حط الغراب على انفي ، وسمعت حشرجات انكيدو .
هكذا أنا ، تقاسمني لوحاتي همومي ، معها يتحول الزمن الأبدي إلى نقطة حلم وسراب ، كالدخان المتصاعد من غليوني ، كل ذلك ذكرني بعبارة تيشخوف الحاذقة : كلما زاد نقاء المرء زادت تعاسته . وبين قلق وإلهام أضفت إلى الوجهين لمسات صفراء باهتة ، وعاودت تأمل اللوحة ، كمن يحدق في وجه حبيبته بحثا ًعن إيماءة نشوى . تجاوزت عقارب الساعة الثانية ظهرا ً ، فلا احلى من ملء الصمت بحوار تصالحي ، عن الخوف من التهلكة أو عن مغامرة تغيرنا أو عن المواعيد السرية . تلفت وجدتهم معي ويشغلون حيزا ً من المرسم ، لكني وبالرغم من هذا التحول المباغت والمدهش سألتهم :
ـ من يبدأ الحوار بيننا ؟
قال الرجل قبل ان تفر الكلمات من ذهنه :
ـ ليس من الأنصاف قتلك لهذه السيدة الجميلة .
لم أتوقع أن يباغتني بهذه العبارة ، لذلك تساءلت مندهشا ً :
ـ ماذا تعني !
ـ أعني .. خسارة أن تموت هذه الحسناء .
قلت بحزن ظنا ً مني انه أساء فهمي :
ـ أتريد أن تعرف من قتلها ؟
فقال الرجل بنبرة متميزة :
ـ اعرف . لكن ، ألا توافقني الرأي أن القتل من اجل القتل أمرا ً مقرفا ً ؟
فقالت المرأة بمرارة وبصوت واهن :
ـ يتوجب عليك عدم الإكثار باللون الأحمر مخافة أن نغرق بالدم .
قلت وأنا أهرش فروة رأسي محاولا ً أخفاء ضحكة مكبوتة :
ـ هل تريد سيدتي أن ألون الواقع الدموي باللون الأخضر .
ابتسما معا ً، وجرجرنا الحوار إلى تعريف الشكل الدال ، بعدها قادنا الحديث إلى الفرق بين الحواس الصادقة والمزيفة ، وعند الرابعة عصرا ًقالت المرأة بصوت مهذب :
ـ بالله عليك ، لا تنس موعدك مع الغابة .
هززت رأسي وأنا أراهما يعودان ، كل إلى موقعة من التكوين ، قلت بلهجة مقتضبة :
ـ سأهتم بهذا الأمر ؟
قالت المرأة بفرح : خذ معطفك المطري ، فالغابة بانتظارك ؟

( 5)

أن الذي في داخل الغابة كالذي في باطن الفكرة مع فارق التأويل ، هذا ما ورد في خاطري . كانت الريح باردة هذا اليوم ، جلست على الصخرة حين مر ثلاثة صبية وهم يلهون مع كلبهم الذي يشبه الذئب ، قال لي احدهم :
ـ الطبيعة تشذب نفوسنا ، أنها كالمدرسة .
ودون أي تردد قال أصغرهم :
ـ أني أكره كل ما يذكرني بالمدرسة .
بعد أن غادروا ، بدأ نديف الثلج يهطل كريش الملائكة . كنت وحيدا مع نفسي ، محاولا أن أمتص هذه اللحظة الهشة ، التي تنبؤني بكلمات لا تخص أحدا ً سواي : الجمال الساحر بدأ من الغابة وينتهي بها . لذلك بُحت للغابة بكل ما يجيش في خاطري.
مشيت بخفة مقلدا رقصة الظبي ، من يراني لا محالة يتهمني بالجنون ، لكن قبل أن أصل إلى شجرة الدرداء لمح بصري يَحمُور قفز بخفة كأنه رأي شيطانا ً ، أردت أن أقول له : تمهل ، أتعرف ما سيحل بسيدة اللوحة ؟ ، لكنه كان أكثر حذرا ً، فقد توارى بين الأحراج المنحدرة نحو باطن الوادي .
في الغابة يولد حلم حسي وبدائي ، أما في المرسم فأخاف على الحلم من أن ينهار لأي سبب طارئ ، لذلك كنت اليوم أكثر احتراسا ً وانأ ادخل المرسم ، ربما لأن اللوحة بدأت تشير لي : أن الخيال المسرف يودي إلى جنون اللاكمال .
حالة التردد زادت من تنامي المخاوف في قلبي . نعم ، كل ذلك بسبب الأنين الصادر عن اللوحة .
قلت للمرأة التي أضناها الألم : لا تموتي يا أختي الطيبة .
كانت العينان الفاحمتان للرجل بحاجة الى نقطة بيضاء لتكون أكثر نظارة وحياة ، بفرشاة صغيرة عالجت الأمر، هكذا أصبحت نظرته أكثر قسوة ، كأنها تطالبني : بحق الرب ، أنقذها .
في هذا الوقت ، شعرت بالتذمر ،ودَنوت منهما ، متذكرا ًأن لعنة النريف تطاردنا جميعا ً .
أخيرا ً ، حشوت غليوني بالتبغ ، وقررت أن أخذ جرعة من التأمل . بعدها ولج قلبي الهدوء الضروري ، سمعت المرأة تواسيني ، كأنها أحست أن رؤيتي قد أشرقت ، قالت بثقة : لا تنس ، أني لم أتخل عنك . وواصلت عملي كمن يصعد إلى رابية .
بعد منتصف النهار نظرت من النافذة ، فرأيت السماء تنث رذاذا ً ، وأبصرت قطعان الغيوم الرمادية تهرول كأنها في مهمة سماوية .
أذكر لحظتها بأني كنت أصارع ألما ً لا أعرف مصدره ، حتى اللوحة أحست بذلك ، وهي تتلقى ضربات الفرشاة المتوالية كزخات المطر .
ما أن أدرت ظهري عن اللوحة ، وابتعدت قليلا ً ، حتى تملكتني رغبة لمعرفة ما قمت به .
لم أنتظر من احد أن يقول لي ما أفعل ، شيئا ً فشيئا ً صرت أقترب من حقيقة ما أريد فعله ، أو بتعبير أدق ما تريده اللوحة على نحو أوضح .
وجدت ملاذي بمعالجة ملابس الرجل باللون الأسود ، قلت له وعلى شفتي ابتسامة كامنة :
ـ يا صاحبي إن معطفك كجلباب صوفي يخاف الأسلحة .
أصغيت إلى المرأة ، متمنيا ً أن ترشدني إلى اللون المناسب لثوبها ، نعم ، أحببت تلك المرأة ووددت أن يكون فستانها ذا لون مشبع بالزرقة ، لكن بعد أن تمعنت مطولا ً بالأمر ، عدلت عن ذلك ، وفضلت أن يكون ثوبها محتشما ً . قالت :
ـ آه .. كم أحب الأزرق السماوي ، لماذا لا تجربه ؟ .
قلت : لا .. أرجوكِ .. في تقديري أنه لا ينسجم مع الجو العام للوحة .
بدت عبارة الرجل تثير فضولي وكانت كإيماءة لحقن الدم النازف :
ـ يا له من جرح راعف ، كيف يمكنني إيقافه ؟
تبادلنا النظرات ، وهمست لي اللوحة :
ـ يا ترى ، هل تعرف ما عليك فعله ؟
ـ أعرف ، ولكن النهايات أصعب من البدايات .
غمرني أحساس بالارتياح حين قالت المرأة :
ـ ألا تجد من الضروري وضع لمسات صفراء على عنقي .
ـ كل شيء ممكن ، ولكن لماذا يا جميلتي ؟
ـ اعتقد يا سيدي ، أن هذه المحاولة ستشد الأبصار للجرح آو الدم النازف .
تركت اللوحة تتكلم عن التفاصيل المثيرة والغريبة ، وبعد نصف ساعة صار اللون الأصفر أمرا ً واقعا ً . محدثا ً لي صدمة للوهلة الأولى ، لكني ما أن تأملته حتى أدركت أنه بالغ الحيوية .
غمرني صمت لا يوصف ، والإنهاك الذهني كاد أن يقوض بناء اللوحة ، كنت في نهاية هذا النهار كمن يخرج من رقصة الموت خائر العزيمة .

كدت اذرف الدمع عليها ، أتعبني القنوط ، محاولا ً بكلتا يدي إيقاف النزيف ، قلت مبتئسا ً :
ـ آه .. أحس إنها ترتعش من رهبة الموت .

رأيتها تنظرني بفزع وحيرة ، ودت لو أواسيها ولو بكلمة ، غير إني لم أجد ما أقوله لها سوى : نامي يا أخيتي بسلام .

تركت كل شيء في مكانه وعلى حاله .. أطفأت المصابيح وخرجت .. حاثا ً الخطى صوب دروب غابتي الشعثاء ، التي أحسستها تغط هذا المساء بوجع حارق عميق ، من دون أن تحدثني هذه المرة إلا بسؤالها الوحيد : إلى متى .. إلى متى تستمر لعنة النزيف !؟ .

انتهت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اليحمُور : حيوان بري ، ما بين الماعز والغزال








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا