الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بحيرة الحقيقة

سهير فوزات

2014 / 2 / 12
الادب والفن


-ها هو الدرب الترابي المؤدي إلى البحيرة العجيبة اتبعاني
خاطبت السائحين المرافقين لي بلغة فرنسية, بينما كنت أمسك يد طفلتي ذات الثلاث سنوات وأخطو.
-تذكرا أن سفحَ التلة شديدُ الانحدار وأن الضفة المحاذية للبحيرة لا تتجاوزعرض نصف متر بطول عشرة أمتار قبل أن نصل إلى متسع من الشاطئ.
كثيرون هم من سقطوا في البحيرة قبل أن يصلوا ضفة الأمان... بعضهم اعتقد أن الأمر نذير شؤم وآخرون أخذوها على محمل الدعابة وتابعوا سباحةً إلى الشط الأقرب أو الأبعد.
مشينا في الدرب الملتف حول التلة بين الأشجار الكثيفة التي تطوق المكان وتحجب عنه الشمس ككتيبة من قوى حفظ السلام.
بدأنا نحن الثلاثة نحس ميول الأرض تحت أقدامنا يزداد كلما اقتربنا من البحيرة, ووبشكل طبيعي نميل أجسامنا في الاتجاه المعاكس لنتوازن.
فقط طفلتي كانت -ربما بحكم صغر قدميها- تمشي باتزان. كنت أمسك بها مسكًا خفيفًا من كتفيها كي لا أحجز حريتها وكي أحافظ على توازنها ...وربما -لا أدري- لأتوازن بها.
كانت هي مشغولةً بمراقبة الزهور وتفاصيل نباتات الدرب وكنت أنا مشغولة بالتوازن... أما السائحان فقد كانا يتعجبان من كل شيء, يتلفتان كثيرًا, وينظران إلى الأمام بلهفة.
خرجنا من بين الأشجار إلى ضفة البحيرة, ولازلنا على الدرب الأحادي الاتجاه حيث أصبحت التلة المشجرة على يميننا, والسماء الخريفية المزاج تضفي الكآبة على المكان. لمحت عن بعد منظرًا دب الرعب في أوصالي لكني لم أتبينه وهدّأت نفسي :
- أيكفي أن أكون سورية حتى تملأني الهواجس وكوابيس الأشلاء الخيالية؟!
كنت أعرف أن هذا المكان -ككل الأماكن السياحية في هذا البلد- مهمل من قبل الدولة وقد أصادف فيه ما يحرجني أمام سائحين استعانا بي عن طريق صديق مشترك بيننا لأكون دليلهما في رحلتهما السياحية السنوية التي حطت رحالها هذا العام في بلد الحضارات المتعاقبة والإرث البشري العتيق والتنوع البيئي والإنساني المثير.
وقد قررت البدء بهما من هنا, من بحيرة طبيعية في مدينتي الواقعة جنوب (سوريا) ,بحيرة توصف بجمالها وغناها البيئي ومناظرها المتفردة, وتُحبَك حولها الأساطير حتى ليطلق عليها اسم (بحيرة الحقيقة).
صرنا نلتف أكثر فأكثر وتنكشف أمامنا البحيرة, وبدأت الأمور تزداد سوءاً إذ صار المشهد يتضح... طفلتي مازالت مشغولة بتفاصيل الدرب وأنا أنظر يميناً ويسارًا علني أفهم ما أرى ...
كانت تنتشر في البحيرة أشلاءٌ بشرية, أيدٍ مقطوعة بمحاذاة أرجلٍ أو رؤوسٍ ملطخة بالدم المتخثر وعلى إحدى الصخور كانت هناك جثة مرمية وقد تجمدت صرخة مذعورة في وجه صاحبها والغريب أنه كان فيها أناس يسبحون بجانب الجثث غير مكترثين حتى أن أحدهم كان يتكئ بمرفقيه إلى الشاطئ ويدس جسده في الوحل... نعم! لم يكن ما في البحيرة ماءً بل وحلاً. هنا صار كل تفكيري ينحصر في حماية طفلتي من رؤية أي مشهد يرعبها ويشوه طفولتها.
وصرت أفكر كيف أهرب بها من هنا والطريق أحادي الاتجاه! فالعودة تعني أن أرمي السائحين- الأمانة- خلفي في وحل البحيرة والتقدم يعني المزيد من المفاجآت المرعبة.
أدرتها نحوي في حركة سريعة, لكن! يبدو أنها لمحت تلك الجثة على الصخرة فراحت تتملص من ذراعي وتسأل بصوت عال :
لمذا يصرخ ذلك الشخص ماما, أما رأيته ؟
ضممتها إلى صدري دون أن أجيب وبدأت أحاول تسلق التلة المنحدرة المزلقة بفعل الرطوبة وخلفي السائحان مذهولان بما يريان يلتقطان الصور ويتحادثان بصوت بين الفحيح والصراخ. لم أعد أفكر إلا في الهروب من هذا الكابوس بأقل دمار.
بعد جهد عظيم في التسلق بيد واحدة, وقدمين غير ثابتتين وحنجرة مخنوقة.
قطعت الأمتار القليلة رجوعاً وبقيت أعصر طفلتي ولا أجيب على أسئلتها الغزيرة. ثم حين تجاوزنا المحدر الضيق, ضممتها بكلتا يدي وركضت خارج الغابة نحو الصخور البازلتية الصلبة وأنا أحاول الابتعاد عن هذا المكان المرعب قدر المستطاع
هنا بدأت السماء تتلون وتقذف نيازك ودخاناً كثيفاً.
سمعت دوي رعد وضوء برق وبدأ الوحل بالهطول كثيفاً تمنيت للحظة أن أصحو من هذا الكابوس وأعود إلى مكان آمن لا أشلاء فيه ولا قصف ولا خيال...وتساءلت :
أتراني حقاً في كابوس أم فيلم ثلاثي البعد من إنتاج أميركي ...أم هذه نهاية الأرض التي تحدث عنها العلماء كثيرًا؟!
تمنيت حقًا أن تكون نهاية الأرض, رفقًاً بما تبقى من إنسانية في هذا العالم. ومع أني لست مؤمنة بالحياة الخالدة , لم أخش الجحيم ولا أشك أنه يمكن أن يكون أبشع من هذا.
رحت أنتحب بشدة أمام طفلتي التي بدأت تشاركني البكاء دون أن تفهم السبب...بقيت أنتحب طويلاً حتى غفوت على كتفها, أو...لا أدري ربما غبت عن الوعي. حين رن منبه الصباح ليدخلني في حلم الحياة الرتيبة الآمنة بعيداً عن الأشلاء والجثث والحقيقة المرعبة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل