الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالة لا تنطق عن الهوى

بن جبار محمد

2014 / 2 / 13
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


رسالة لا تنطق عن الهوى

كنت دوما أقول ، لكل زمن رجاله ، و هذا الزمن المغرق في الرداءة ، تتحول فيه الأشياء ،الكلمات ، المعاني ، التاريخ و اليوميات المعاشة إلى مجرد تراكم مادي و وجودي مبهم ، مسطح ، مشوب بالعبث و الفراغ و الجحود ، رجال الأمس من الرعيل الأول، ليس هم الرجال الذين نراهم اليوم بيننا الأوائل ، عاشوا الفترة الكولونيالية وما قبلها بالتأكيد رضعوا من أمهاتهم تراب الوطن و نهلوا من حكايات البطولة و المجد و الشرف و ترعرعوا على الرجولة و المروءة ، تلك القطع الفسيفسائية و الشذرات و الأفكار غير مكتملة الملامح تحولت إلى فصول من البطولــة قل نظيرها ، كانت هذه الأفكار تراودني و أنا أقرأ رسـالة أهل زمورة و لم تمض بعد ستة أشهـر على استقلال الجزائر ، يطلبون و يترجون السماح للأخ رشيد الذي عمل مع قبائل و أعراش مختلفة ، سي رشيد تلك الشخصية النادرة كان جامعا للمتناقضات، كان معدنا خالصا صهر فرقاتهم و تضادهم في بوتقة الثورة رغم تباينهم العرقي و القبلي و الأصل و المنشأ .
وضعت هذه الرسالة على مكتبي الزجاجي ، أخرجتها من حافظة الأرشيف و وضعتها بعناية على مكتبي كانت رسالة قديمة مؤرخة بتاريخ 12 جانفي 1963 موجهة بالدرجة الأولى إلى والي عمالة مستغانم لإعادة النظر في أمر تعيين رئيس المندوبية البلدية لبلدية زمورة ، ستة أشهــر كانت كــافية لمعرفة رئيس المندوبية البلدية الذي زاول مهامه مباشرة بعد الاستقلال ، الانحراف و الفساد الإداريين و التفرد بالرأي والثراء السريع لا شك أنها القطرة التي أفاضت الكأس وهي السبب في مطالبة أهل زمورة و عجلت بكتابة هذه الرسالة و طلب استقدام سي رشيد من باليكاو –البرج – لتقلد زمام الأمور بالبلدية ، لأنهم يعرفون طينته و يعرفون شخصيته و هم على دراية بمهارته أثناء الثورة و حكمته في إدارة شؤون الأهالي .
لاشك أنها شخصية فريدة من نوعـها ؟ طرحت السؤال على نفسي و أنا أقرأ الرسالة لمرات عديدة لعلها تضيء لي بعض الغموض الذي يلف هذا الشخص ، يبتدئ أهالي زمورة كتابة هذه الرسالة من موقع له دلالة ثورية ، كفاحية ، نضالية لا غبار عليها ، أنه مركز العويدات الجبلي الذي يبدو، أنه لم يحل أو يهمل أو يتخلوا عنه بتلك السهولة التي نفكر بها ، مركز العويدات الذي جمع مجاهدي المناطق المختلفة ليفكروا ويقرروا بفكــر رجل واحد وعقل واحد و قلب واحد ، حيث لا مجال للعروشية و المداخل الشخصية ، كان الهدف هو طــرد المحتــل و إيمانهم الوحيد هو النضال المسلح بوسائل التنظيم و الإدارة و الإمداد و التنسيق و تحصيل المعلومات والتوعية وتطويع الأهـالي في الاتجاه الذي يخدم القضية الوطنية ، كان سي رشيد هو رجل المرحلة الذي وحد ما بين القبائل وصهـر تناقضاتهم في كأس القضية مسويا للصفوف ،يبدو أن العزف المنفرد و الممارسات النشازية لم تظهر تباعا إلا بعد مرحلة بعينها ، و تحديدا مباشرة عند استكانة الأشخاص ، هكذا توحي الرســالة ، أنهم يسحبون ثقتهم من المسؤول الأول في البلدية لتعويضه بالرجل الذي عملوا معه عن كثب و تتلمذوا على يديه و تعلموا عنه الحس الوطني و الجدية في إدارة أمورهم و شؤونهم اليومية و الثورية أعضاء مركز العويدات الذين أضحوا يقاومون النسيان و يقاومون وجودهم لإيمانهم باستمرار العمل الثوري و إيمانهم بالمستقبل يفتتحون الرسالة : الجمهورية الجزائرية ، الولاية الخامسة جبهة و جيش التحرير ،المنطقة الرابعة ، الناحية الخامسة ، القسم العاشر .
أعدت تلصيق الرسـالة المهترئة ، تكاد أن تتفتت في يدي و تتحول إلى أجزاء منفصلة تستعصي على القراءة و تستعصي على زمن لم تعد فيه المطالب والطلبات و العرائض هي نفسها .
أعدت قراءة الرسالة التي أصبحت هاجسي الأول منذ مدة ، فكرت أن أكتب عن الرسالة في مقال أو دراسة تاريخية مسهبة محللا كل الجوانب التي توحي بها و الجديرة بالاستنطاق ، أن أقيد الأسماء الذين أمضوا على الرسالة ، أن أقرأ تلك الشخصية العظيمة التي يطالبون فيها أهالي زمورة انطلاقا من مركز العويدات الثوري، أردت أن أعرف شعورهم بالخيبة في الأيام الأولى للاستقلال و مشاعرهم الثورية وحماستهم الوطنية التي تختلج صدورهم و هم يرون أن الثورة لم تكن سوى حلم لم يتحقق على أرض الواقع بالكيفية التي حلموا بها أو بالتصور المثالي الذي تصوروه إبان الكفاح المسلح ومن المقولات و الأدبيات الثورية التي تتغنى بها الأمهات و الأجداد في الأعراس و الأسواق و البيوت و الوعدات ، كنت أسير بين جنبات بساتين الزيتون و الحمضيات التي بدأت تفقد كثيرا من بريقها و تفقد كثيرا من رونقهــا بسبب السياسات الخاطئة و بسبب قــلة الحب و التنكر ، حب التراب و الوطن و التنكر للتاريخ ، الذي لم يمض عليه سوى خمسون سنة ، يبدو أن داء النسيان يضرب بجذوره في أعماقنا ، داء اليأس الذي آتى على آخـر ما تبقى لنا من أمــل ، داء النكوص ، داء التشاؤم الذي يعشعش فينا و يفكك كل كياناتنا الصلبة التي واجهنا بها ظلمات التاريخ وظلمات المستعمر و ظروف العيش المستحـيلة .
كنت أسير و أنا أسرح بنظري في بساتين الزيتون و البرتقال ، حيث الطريق تؤدي إلى مــقر عملي في مكان منعزل عن المدينة الصغيرة ، عادة أن هذه الطريق ، لا يستعملونها المارة كثيرا لأنها لا تؤدي إلى مكان آخـر سوى مقر عمـلي ، كل صباح بعد نزولي من الحافلة ، أسير في ذلك الممر الضيق الطيني المترب ، فجــأة تتراءى أمام مخيلتي هذه الرسالة بكل دلالاتها و كل إشارتها و كل ما تحمله من زخم الحياة ، كنت أقاوم هذا الإغراء الذي سيجهدني لا محالة ، في البحث و الدراسة و المساءلة واليقظة المضنية و مواجهة الذات التي تميل إلى الخمول والبلادة ، كانت الرسالة التي وضعتها في أرشيفي الخاص تحظى بكل أنواع الرعاية التي يمكن للشخص بذل كل مجهوده لشيء عزيز نادر لا يتكرر مرتين ، و أنا أعتقد أن هذه الرسالة لا تتكرر في التاريخ و لا تتكرر من أعضاء مركز العويدات، الذين بدأوا يفقدون آمالهم و تتساقط أسوار أحجارهم واحدة تلو الأخرى ، و تتعرى سوءاتهم و تتزلزل يقينياتهم و تخمد حماستهم و سكنهم اليأس و الهزيمة وتتآكــل وطنيتهم أو يستعجلون الموت وهم يعايشون زمن الكفر بالوطن و زمن اللعنات التي طالت الجميع كوباء أستوطن جميع النفوس . كانت الرسالة بما تحمله من إرهاصات و تخوفات لم تنطق بها ،بقيت في ظلال الكلمات تستعصي عن الفصح و الجهـر خشية من زحف الانهزامية التي تتسلل من مسام اللغة و الكلمات ، القوم لم يعرفوا الانهزام يوما ، عذبوا ، عزلوا ،جاعوا، تشردوا ، أهينوا ،تركوا أزواجهم و فلذات قلوبهم ، تحملوا المشاق ، سهروا الليالي ، خطروا بأنفسهم ، سلكوا طرقا شاقة ، سكنوا الجبال و الوديان و الغابات ، تخلوا عن حياة الرفاه ، لم تغريهم ثروة ولا مال ، فقط آمنوا بالوطن . كنت أسير الخطوات الأخيرة قبل أن تطأ رجلي عتبة مقر العمل ، كانت تلك الكلمات تتساقط علي كالمطــر ، أصبحت أكثر تصميما من ذي قبل أن أعود الآن إلى البيت و أعيد قراءة الرسالة مرة أخـرى ، لعل الرســالة تفصح بمكنون لم أكن قد توصلت إليه من قبل ، ربما الرسالة تقاوم الحاضـر أو تغلق أبوابها في وجه المتلقي أو أفلت شعلتها أو نورها في وجوهنا ، لأننا لسنا أهلا لها أو مستويات الوجود تختلف عن تلك الذي عايشها الرعيل الأول من الرجــال ، على خلاف رئيس البلدية زمورة المعين على رأس البلدية الذي لم يروق للأهالي في أول ستة أشهر الذي زاول مهامه و شهدت أول الإنحرافات في الجزائر المستقــلة . دخلت إلى مقر عملي ، بداية بالطقوس الصباحية في تفقد الوجوه وإلقاء التحيات ،قراءة المراسلات الإدارية التي لا طعم لها ولا رائحة تعيد نسخ نفسها حسب المواسم و الشهور ، ركنت في مكتبي و أنا متعب بهواجسي التي حفرت في وجهي ثغر غائر ،تكاد الابتسامة تختفي من محياي لا أحد يعلم سواي ، أن الرسالة تسبب لي القلق والانشغال الوجداني ، سأعود بعد الانتهاء من العمل مساءا و أخرجها و أضعها على مكتبي و أضع اللومبادير الأبيض الكاشف و أقرأ محتواها كلمة كلمة و أقرأ ما بين السطور و تحت السطور و أدقق جيدا في تاريخهــا و الأسماء التي وقعوا على الرسالة و طلباتهم وآمالهم و خوالج أفكارهم و تنهداتهم و مخاوفهم و مراميهم و تلك اللحظات الزمنية التي حررت فيها الرســالة ، كنت أعلم أن هذه الرسالة ليست كالرسائل ، يكتبها إنسان عادي يطلب فيها أو يلح فيها على أمر من شؤونه الخاصــة ، تكتب بعجــالة أو على الرصيف أو حتى في مركز البريد ، أن أحس أن هذه الرســالة ، كانوا الأخــوة يداومون على النشاط الثوري بجدية و تفان ، أيضا كتبوا هذه الرسالة بإنتباه و تيقظ و جديــة ومشاورة و حماسة و تجرد ، رسالة لا تنطق عن الهوى .
مطلب الرسالة أو مضمونها ، بسيط بساطة حياتهم و أهدافهم وتوقهم إلى حياة أفضـل ، حياة كريمة للأجيال ، هؤلاء محررو الرسـالة عندما مسكوا بالقــلم وخطوا تلك الأسطر القليلة ،كانوا يفكرون في أولئك الأيتام و الثكلى و الجوعى و المشوهين و المعوقين و المجانين الذي دمرتهم الآلة الجهنمية ، كانوا يكتبون و يفكرون في رفقاءهم الشهداء الذين سقطوا في ساحة الشرف ، لا أحد يستطيع استشفاف قلوبهم وهم اليوم يواجهون مصيرا آخــر ، الانتكاسة ، الخطر المحدق مع ولادة وطن فتي ، لا قبلة له ولا اتجاه له سوى بذل المزيد من الحب للشهداء و مزيدا من الإحترام للوطن و مزيدا من الحرقـة و الحزن و مزيدا من الدموع ، وضع بن علي بن عيسى حروفــه على ورقة الرسالة و هو مقتنع أن الكتابة لن تغير من الواقع شيئا و لكنها استمرارا للعهـد الذي قطعوه على أنفسهم ، رعاية بستان الوطن الذي شذبوا أشجاره و سقوه بعرقهم وبدماء الشهداء ، لكن المسؤولين الجدد بزغ عليهم عهدا جديدا ، لم يحملوا من معاني الوطن إلا النزر اليسير ، امتثلوا لإرادة أخرى غير إرادة الشهداء ، أستخلفوا الحاكم العسكري أو المدني الفرنسي على رأس البلدية ، استخلاف لا معنى له سوى شغل المنصب بدلا من شغوره .
وضـع بن علي بن عيسى الكلمات الأولى ، الأكثر أهمية و أكثر دلالة ، نحن مجاهدو مركز العويدات كأنه يقول نحن سلطة اعتبارية ثورية وضعنا السلاح و لكننا لا نتورع في رفع القلم في وجوهكم ، نندد بالوضــع الذي آلت إليه الأمور ، ما نعايشه اليوم في الجزائر المستقـلة و نراه في بلدتنا ليس من القيم الثورية و ليست من الحكمة و ليست من الأهداف التي ناضلنا و جاهدنا لأجلها ، سيدي الوالي ، يا ممثل الحكومة ، أنقذوا هذا الوطن من براثن أشباه الرجال ، أنهم يحولون مسار الثورة في اتجاه مجهول ، يختطفون مسارنا ومصيرنا ، تحركوا قبل أن يستفحل الداء ، نحن نعلم أكثر من غيرنا أن حسنا الوطني و الثوري يشعرنا أننا سننحرف عن المسار ، نحن لا نستطيع أن نتعايش مع هكذا وضع الذي يسير في اتجاه أسوء ، يا ممثل الحكومة هذا ليس زمن التقاعس ، تداركوا الأمــر قبل أن يستشري ، لم تمــر سوى ستة أشهــر فقط ، يمكن أن تصحح الأمــور بعجالة و نخرج بأقل الأضرار ، سيدي ممثل الحكومة لقد طفت القبلية و العروشية و الفردانية إلى السطح مثلما كانت ذات مرة ، طفى الشقاق و النزاع والتفرقة و المصلحة الشخصية في الآن تعشعش في مكاتبنا ، في مصالحنا ، في إدارتنا ، تحركوا قبل فوات الأوان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السيسي ينصح بتعلم البرمجة لكسب 100 ألف دولار شهريا!


.. تونس.. رسائل اتحاد الشغل إلى السلطة في عيد العمّال




.. ردّ تونس الرسمي على عقوبات الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات


.. لماذا استعانت ليبيا بأوروبا لتأمين حدودها مع تونس؟




.. لماذا عاقبت الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات تونس؟