الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأصوليَّات الدينيَّة في المدينة: تفاكير حول الربيع العربي-نزار السيد و ميجقان ماسومي-ترجمة:أسامة الخوَّاض

أسامة الخوّاض
(Osama Elkhawad)

2014 / 2 / 15
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


الأُصوليَّات الدينية في المدينة: تفاكير عن الربيع العربي*

نزار السيد و ميجقان ماسومي**

ترجمة أسامة الخوَّاض
______________________________________________________________________

نشهد حول العالم أشكالا جديدة من التنظيمات و تعبئة القواعد الشعبية،و الفعالية و الانتفاضات الشعبية،و كلها تنشد التغيير السياسي و العدالة الاجتماعية.تلك الأحداث تثير التفاؤل و التشاؤم معاً حول مقدراتنا في أن نتنبأ بمستقبل المدن في الجنوب العولمي الراهن .مواجهين بالمشهد المتنامي للفقر و انعدام العدالة في الاقتصاد العولمي و الاستقطاب الاجتماعي الفضائي الحاد ،يجب أن نسأل عمن تسبّب في هذه الأنماط الجديدة.هل السبب ينطبق بالتساوي على المدن في كل العالم أم أنه يوجد فقط ضمن سياق جغرافيات حضرية محددة؟ لعلّ التحول الأكثر حداثة و درامية ضمن المنطقة الحضرية العولمية هو الربيع العربي.في حين أن الناس في أجزاء عديدة من العالم العربي تباشر سعيها نحو الحكم الذاتي،فإنه لا يمكن التنبؤء بما ستفضي إليه هذه التجربة العظيمة.بناءً على المؤشرات الراهنة،فإن الدين سيلعب دوراً حاسماً في تشكيل مستقبل هذه الأمم،و بالأخص مدنها.هدفنا في هذه المقالة أن نستكشف السيرورة الحضرية التي بواسطتها تتحوَّل الحركات الدينية إلى حركات أصولية،و كيف يمكن لتلك السيرورة أن تعيد تشكيل المدن.

ما كان بإمكان أحد أن يتخيل أنه عندما أضرم محمد بوعزيزي النار في نفسه،مهاناً بالمضايقة المستمرة من قِبل البوليس التونسي لبيعه بضائع بدون ترخيص،يمكن أن يشعل ثورة مطيحة بالرئيس التونسي بن علي في ظرف أسابيع.لا أحد،و حتى الخبراء الأقليميون،كان يمكن أن يتنبأ بأن الانتفاضة في تونس ستنتشر إلى مصر و اليمن و ليبيا و البحرين و سوريا في غضون ثلاثة أشهر.

بدءاً من مارس 2012،أُطيح بحكومات في أربعة بلدان.فرّ الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى العربية السعودية في يناير 2011 بعد الاحتجاجات في سيدي بوزيد و أرجاء البلاد.و في مصر،استقال الرئيس حسني مصر في فبراير من نفس العام بعد ثمانية عشر يوما من الاحتجاجات الجماهيرية في ميدان التحرير،منهياً ثلاثين عاما من الحكم الراسخ منذ اغتيال انور السادات.و أُطيح بالقائد الليبي معمر القذافي في أغسطس 2012 ثم قُتل في أكتوبر بعد أن سيطرت قوات المجلس الوطني الانتقالي على مسقط رأسه مدينة سرت.و نقل الرئيس اليمني علي عبد الله صالح سلطاته إلى نائبه في فبراير 2012 بعد انتخابات بالتزكية. غالباً ما كانت تحدث التظاهرات الكبرى و الأكثر تنظيما خلال الحركة، في ما أطلق عليه العرب "يوم الغضب"،و الذي أقيم في أيام الجمع بعد صلاة الظهر.اتصفت إرادة المحتجين بمرونة و عزيمة لا تصدق،ملهمة المتظاهرين ،ليس فقط في الشرق الأوسط،و لكن حول العالم.مدن مثل الاسكندرية و صنعاء و القاهرة و بنغازي و طرابلس لعبت أدواراً حاسمة في هذه الأحداث.في الواقع إنه من الجدير أن نصف الانتفاضات العربية كثورات حضرية.يتبقى السؤال التالي:ما هي أنواع المدن التي ستنشأ كنتيجة لهذه التغييرات السياسية؟
أحدث الربيع العربي نوعاً جديداً من نظام الحكم الديني الذي شكّل المدينة العربية في مراتب مختلفة للمواطَنة.سنحاول خلال هذه المقالة،أن نستكشف السيرورة الحضرية التي بواسطتها تتحوّل الحركات الدينية إلى حركات أصولية،مستخدمة تاكتيكات للسيطرة، تعيد صياغة حياة و شكل المدن.نبدأ بمناقشة كيف دشَّن الربيع العربي أنظمة دينية للحكم الحضري، و أنظمة حضرية للحكم الديني،معززة العلاقة سابقة الوجود بين الدين و التحضُّر.بعد ذلك،نناقش العلاقة التقليدية المديدة بين الدين و التحضُّر و كيف أن الحداثة قطعت اطرادها.أيضا سندرس الطبيعة الإقليمية للأصولية بالإضافة إلى الخطاب الأكبر عن المدينة و المواطنة و التديُّن.نختتم بتعريفات "المدينة الأصولية".

بدتْ حركات احتجاج الربيع العربي علمانيةً في طبيعتها إلى حد كبير.انضمت المجموعات الإسلامية في تونس و مصر في المراحل المتأخرة.و لكن عندما تأسست الإجراءات الانتخابية الجديدة،كان المستفيد الأكبر الأحزاب الإسلامية،فائزة بالعديد من الانتخابات التي تلت الانتفاضات الشعبية في المنطقة.جماعة الأخوان المسلمين في مصر،الحركة الإسلامية الأكثر تنظيما في البلد،معروفة بحذاقتها السياسية و مرونتها و انضباطها. كسبت الكتلة الكبرى في أول أنتخابات برلمانية مصرية منذ أن استقال مبارك.أحرز حزب النور، أكثر حزب سلفي محافظ في مصر، المركز الثاني بحوالي ربع الأصوات تقريباً.

هنالك أفكار مختلفة حول لماذا نال الإسلاميون شعبية هائلة في انتخابات مصر الديمقراطية،و لكن السبب الأكثر قبولاً هو حضورهم المديد في حيوات عديد من المجتمعات المحلية الحضرية. لسنوات عديدة،كان الاخوان المسلمون يوفِّرون التعليم و الخدمات الصحية للفقراء و المعوزين،و يدفعون معاشات قليلة للأرامل و يديرون برامج للتسليف المحدود.السلفيون الآن أيضا منهمكون في الحياة الحضرية،موزعين الطعام للموائد الدينية و مقدِّمين دروساً في تلاوة القرآن.كما تيسّر لهم الوصول لأجهزة الإعلام عبر قنوات فضائية ممولة سعودياً ،و تعمل أربعة و عشرين ساعة في اليوم.

تبدو الأحداث في مصر جزءاً من توجه أقليمي عريض، أي صعود الإسلاميين،الذين يهيمنون بشكل متزايد على المشهد السياسي.في تونس،كسب حزب النهضة الاسلامي المحظور قانونياً سابقاً،أكثر من 40 في المائة من الأصوات في انتخابات نوفمبر للمجلس الدستوري.حسب النيويورك تايمز" مؤيدوه يغنّون أغانٍ دينية في المسيرات،خطباؤه يستشهدون بالقرآن بحرية و زعماؤه غالباً ما يتكلمون عن حماية حق ممارسة الاسلام بعد عقود من الإكراه من ديكتاتوريِّ تونس العلمانيين.مؤيدو حزب النهضة،الذي يشار اليه أحياناً بأنه حزب الله،يؤكِّدون أنهم ينشدون تحسين الطبيعة الأخلاقية للتونسيين بفرض قيود على الكحول و التجديف و الكفر في الثقافة الشعبية، و حتى على ما يُسمح للنساء بارتدائه.

مكلّلاً بالنجاح نفسه،نال حزب العدالة و التنمية،حزب إسلامي في المغرب،النصيب الأكبر من الأصوات في الانتخابات البرلمانية في نوفمبر 2011.تمّ مؤخراً تنصيب زعيمه عبد الإله بنكيران رئيساً للوزراء بواسطة الملك محمد السادس.اختار الحزب في المغرب نموذج الحزب الحاكم في تركيا،حزب العدالة و التنمية الذي يجمع بين الدين و السياسة الحديثة.راق الحزب بشكل كبير للفقراء لأنه ركَّز على القضايا الاقتصادية و الاجتماعية.قال مصطفى رميد زعيم حزب في المغرب،إنّ "أسلمة المغرب ستتحقق فقط بإعادة تأسيس العدل و الحرية الدينية".في الواقع،إنّ ما نشهده اليوم في الشرق الاوسط هي حركات سياسية جديدة معتنقة أيديولوجيات دينية أُصولية. ما من شك أنّ الدين سيلعب دورا حاسماً في تشكيل مستقبل هذه الامم،و خصوصاً مدنها.

هذه السيرورة ليست قاصرة على المنطقة العربية. فالمجتمعات المحلية حول العالم، تعيد تأسيس و تعريف و إحياء الدين و الممارسات الدينية.المسيحية و اليهودية و الهندوسية،من بين أديان أخرى،تمر بجيشانات جديدة من الالتزامات بالتقليد." بعض الباحثين يجادلون بأن هذه الروابط المكرّسة هي وسائل مهمة للمقاومة ضد قوى العولمة المهيمنة،بينما آخرون يفسّرون صعود هذه الممارسات الدينية كأشكال متمفصلة بديلة للحداثة غير الغربية.مشابهة للاخوان المسلمين و السلفيين في مصر،تنخرط مجموعات دينية (بالأخص الأرثوذوكس) بشكل متزايد في إمداد الخدمات للمجتمعات المحلية الهامشية التي لم تلبَّ احتياجاتها بواسطة الدولة.بعض هذه المجموعات تتّجه غالباً إلى أفكار أكثر راديكالية و رجعية،مما يؤدي إلى صعود حركات حضرية جديدة يُمكن أن تُعتبر اصوليةً التوجُّه.

الدين و المدينة

المدن هي من منتوجات التقاليد الثقافية،و بما أنها كذلك،فهي تزوّدنا بمعرفة عن الناس و منظومات اعتقادهم.تاريخياً،عرّف الدين البنية المؤسسية للمجتمعات و شكْل فضاءاتها الحضرية. الأمثلة المبكرة للتحضُّر تثبت كيف شكَّل الدين غالبا البيئة الطبيعية و الاجتماعية.نمت المدن القديمة حول أمكنة مخصّصة و مقدسة ،في الأغلب معابد و أضرحة و مبانٍ دينية ضخمة أو على سطح المقابر القديمة.المسجد الأموي،مثلاً،يحتل مساحة كبيرة في وسط دمشق في سوريا.في الواقع،إنّ تلازم الثقافة الدينية و التحضُّر قديم قِدم تاريخ المستوطنات،و ما من مكان في العالم كله،يكون فيه هذا التلازم بيّن الجلاء،مثل العالم العربي الإسلامي.

يُعزى إلى ظهور الإسلام و التوسُّع السريع للامبراطورية الإسلامية في القرنين السابع و الثامن، تحضُّر الشرق الأوسط.نشأ دين الإسلام في شبه الجزيرة العربية في بداية القرن السابع الميلادي،و لكن بنهاية القرن الثامن توسَّعت الامبراطورية الإسلامية إلى الهند و الصين في الشرق و شبه الجزيرة الايبيرية في الغرب.سيطرة العرب على الامبراطورية الاسلامية لم تؤدِ في البداية إلى تغييرات رئيسية فقط في المدن المحتلة،و إنما تسبّبت في إدخال مؤسسات و نشاطات جديدة.أصبحت مدن معيَّنة مرتبطة ارتباطاً قوياً بهذه السمات الجديدة.على سبيل المثال، أصبحت القاهرة و بغداد مركزيْن للتعليم و العلوم،و مكة و القدس مركزيْن للتجارة و الدين، و دمشق و اسطنبول مركزيْن للسلطة و السياسة.

قاد تعدُّد الشروط في مختلف الأقاليم الإسلامية ، العديد من الباحثين للتساؤل بحق عمّا إذا كان مفهوم "مدينة اسلامية"-كيان ذي تراث و خصائص و شكل و بيئة مشتركة-قد وُجد، أو كان يمكن أن يكون ممكناً.في الواقع،ان الامبراطورية الاسلامية لم تكن كياناً متناغما.فهي ضمَّت شعوباً مختلفة بثقافات و تراث قومي و شروط جغرافية و انطمة اجتصادية فريدة.بينما يبقى مختلفاً عليه اذا ما انّ مدينة اسلامية قد نشأت اصلا،هنالك إدراك متنامٍ بأنّ المدن الإسلامية لها خصائص عديدة متشابهة، أكثر من الدين المشترك.
بناءً على قرن من البحث،فإننا نفترض أنَّ المدينة الإسلامية النموذجية الموروثة من الأزمنة القروسطية، أنتجت أربع مؤسسات:الحاكمية،الواقعة في العاصمة،الأم،و طبقة من علماء الدين،التي تمثّل الفرع القانوني،و التجار،الذين يقومون بوظيفة الفاعلين التجاريين الأساسيين،من خلال هيئاتهم و نقاباتهم المختلفة،و الأقليات الاثنية و الدينية،و بالأخص ممثلوهم السياسيون.كل منها لعبت دوراً كبيراً في حياة المدينة.هذه المؤسسات انعكست أيضا في شكل المدينة الطبيعي:الزعماء السياسيون سكنوا في القلاع و القصور التي ظهرت في الأفق،و العلماء الذين عمل معظمهم في المساجد المركزية،و التجار احتلوا كل شق من بازار المدينة المتاهي،و مجموعات عرقية قطنت أحياء سكنية مفصولة، ليس على أساس الاثنية فقط،و إنما ايضا على أساس الدين و الأصل القومي و المهنة.نظَّم الدين حياة المدينة بأحكام دوّنها الحقوقيون الدينيون الذين ابتكروا عبر القرون أعرافاً تحكَّمت في كل أبعاد المجال العام.سمح توازن القوة بين هذه المؤسسات المختلفة لمدن العالم العربي، أن تحافظ على نظام نسبي،يُستخدم فيه الدين غالباً لتسوية النزاعات.

تميَّزت المدن الأوروبية القروسطية أيضاً بتلك الضوابط و الموازين بين مراكز السلطة الإقطاعية:الكنيسة و ملّاك الأراضي النبلاء و طبقة التجار الناشئة،و انعكس ذلك في العناصر الطبيعية للمدينة القروسطية.مثّلت القلعة و الكاتدرائية مؤسستي القوة و السلطة..كانت الكنيسة،التي يرأسها المطران، في أغلب الأحيان، قويةً بما فيه الكفاية لتخلق ميدانها في المدينة بشراء أراضٍ أو طرد سكان أو أعمال لترسيخ حضورها.في الوقت نفسه، رَمَز ميدان السوق للنفوذ المتنامي لمؤسسات المدينة الاقتصادية.مثّلت النقابة أو مبنى البلدية المؤسسات السياسية الجديدة التي اكتسبت سلطتها من صعود الطبقة التجارية.

الحداثة و الدين و المدينة

بظهور الرأسمالية الصناعية الحديثة،بدأ دور الدين في تشكيل المدينة و مجالها العام، في التغيُّر في أروربا، و في معظم البلاد العربية في الشرق الاوسط في القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين على التوالي.بدأت قوى اقتصادية جديدة تشكِّل المدن في أوروبا،بينما استمرت المدن العربية المستعمَرة في الشرق الاوسط ،و لو إلى حد أقل،في عكس القيم الإسلامية التقليدية.أرسى بروز الإمبريالية في القرن التاسع عشر،بين اوروبا و العديد من مستعمراتها في الشرق الاوسط،علاقةً غير متكافئة انتهكت و تجاهلت و شوّهت و نمّطت هوية المستعمّر.و كان تشكيل الهوية و الذي يرتبط إلى حد بعيد بالدين، أولويَّةً للعديد من المستعمرات لنيل استقلالها.

في السنوات المبكرة للاستقلال كانت معظم حكومات الشرق الأوسط توّاقة إلى الحداثة.تسبّب ذلك ، في كثير من الأحيان، في تبنِّى النموذج الغربي في التطور الحضري و الذي يفتقر في بعض الأحيان إلى أية أبعاد ثقافية.استشرت الظاهرة بواسطة رأس المال العابر للحدود و تدويل العمل و الازدياد المطّرد في التجارة و وسائل الاتصال العولمية. عقّدت تلك القوى شروط تشكيل الهوية الفردية و الجمعية.

بالرغم من التحوُّلات التي جلبتها العولمة للعالم،فإننا نشهد انبعاث ولاءات دينية و اثنية أعطت معنى جديداً للدين في المجال العام للعديد من المجتمعات المحلية. أصبح الدين مع الأثنية، من الأشكال البارزة لهوية المجتمع المحلي حول العالم.،و الأيدلوجية الدينية تشكِّل المدن أكثر مما كانت تفعل في بداية القرن العشرين. تتوافر الأمثلة، شاملةً صعود التبشير المسيحي التلفزيوني في الولايات المتحدة و افريقيا،و صعود الكنائس الكبرى في الولايات المتحدة و أمريكا اللاتينية، و استيلاء الشعائر الدينية الإسلامية على الفضاء العام في الشرق الاوسط العربي.

سيكون دائما للدين و الممارسات الدينية تأثير على المدن. موضوع الاهتمام الرئيس هو تحديد متى تولِّد الشعائر الدينية و العادات ممارسات إقصائية تؤدي في نهاية الأمر، إلى مواقف أصولية. متى يغزو تديِّن أغلبية مهيمنة أو أقلية قوية ،المجال العام للمدينة بحيث يصيِّر المدينة أصولية؟

التديُّن و الأصولية و التحضُّر

العلاقة بين الأُصولية و التحضُّر معقَّدة.بينما يعرِّف القاموس الأُصولية بأنها حركة أو اتجاه يشدِّد على التمسُّك المتزمِّت و الحرْفي بمنظومة من المبادئ الأساسية،فإن المراقبين اليوم يصنِّفون الأُصولية كشكل من التديُّن الإسلامي و الذي يكون غالبا في صراع مباشر مع العلمانية.في الواقع، لمفهوم الأُصولية أصلً مسيحيٌ. استُخدم المصطلح لأول مرة في بداية القرن العشرين بواسطة معمداني أمريكي ليصف البروتستانت المحافظين.

كانت المدينة دائما مهمَّة لتشكُّل الأُصولية كإطار أيدلوجي،و لكنها أيضا مهمَّة لفهم التمظهر الحدودي لأُصوليات مختلفة.هنالك اليوم نسختان من المدينة الأُصولية:المحدودة و العولمية."المدينة الأُصولية المحدودة،مثل بيشاور تحت طالبان،هي مدينة شكلَّت قواها المحلية، الطبيعة الإقصائية لفضائها.تُمثَّل المدينة الأُصولية العولمية جيداً بالأحياء الإثنية في المناطق الحضرية للشمال العولمي و التي فيها أقلية مسلمة ذات أعداد كبيرة من السكان، حيث شبكات من التفاعل العولمي تسمح بمستوى عالٍ من الممارسات الفضائية الإقصائية.

مهمة أيضا العلاقة بين المدينة و المنطقة المحيطة بها سواء كانت صحراءً و أرضأ زراعية أو بلدات ريفية صغيرة و قرى.نرى مثالَين مفتاحيَّين لعلاقة المدينة والمنطقة المحيطة بها في حركة القرن التاسع عشر تجاه الوهابية في شبه الجزيرة العربية و جماعة التكفير و الهجرة الانعزالية في مصر.تُظهر كلتا الحركتين ،تبادليا،ً علاقة معزّزة بين المدينة و المنطقة المحيطة بها،و في تلك العلاقة تدبّر الخطط في الأخيرة،المفترض انها فضاء للفضيلة و الطهر،المقضي عليهما في الأولى،المدانة باعتبارها فضاءً للرذيلة و الكفر.

يتعامل الوهّابيَّة مع القرآن و الحديث كنصوص موثوقية و أُصولية.ألهم هذا النظام العقدي الأحداث التي صاحبت حصار مكة في 1979 و هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضد الولايات المتحدة.في 1979،قامت مجموعة من الوهابية الجهاديين بقيادة رجل شاب يعتقد أنه المهدي المنتظر الذي جاء ليطهر الأرض من الخطيئة ،و يجلب مملكة الله للإنسان، قامت المجموعة بحصار الحرم،المسجد الحرام في مكة،معلنة أول جهاد عولمي. و ساهمت لاحقاً في إيجاد القاعدة.اتَّبع حصار مكة و هجمات 11-9 نفس القالب:هجوم على مدينة يعتقد الأصوليون أنها رمزت إلى فساد الحياة الحضرية. في غضون ذلك،هاجرت جماعة التكفير و الهجرة،متّبعة تقليد النبي محمد،هاجرت إلى الصحراء ،لأداء الهجرة،أو الحج،لتدبِّر مكيدة استيلائها على المدينة.تشكَّلت الجماعة كفرع من الاخوان المسلمين و تشمل أعضاءً شعروا بأنَّ الاخوان المسلمين شديدو المجاملة للأنظمة السياسية و ليست لديهم الرغبة لشن الجهاد العسكري.كانت الجماعة تدمغ بالكفر كل المسلمين الذين لا تتّفق معهم،و قامت بنشاطات إرهابية بلغت ذروتها في اغتيال الرئيس المصري أنور السادات في 1981،بعد معاهدته للسلام مع اسرائيل.

مثال آخر يوضِّح علاقة المدينة و المنطقة المحيطة بها،هو دور القرى و البلدات الصغيرة.على سبيل المثال،إحراق قطار بواسطة جماهير عريضة من المسلمين في بلدة جودهرا الصغيرة،في الهند في 2002، أشعل موجات شغب انتقامية ضد المسلمين في أحمدأباد و بومباي.أحالت التغطية الإعلامية الأحداث إلى اشتباك بين أصوليين هندوس و مسلمين-حصيلة متوقعة لحماسة أصولية دينية.في مقال يعلِّق على الشغب في بومباي، يزعم ارجون ابادوراي أن العنف المرتكب ضد المسلمين كان –في الواقع-بدافع رغبة الهندوس في ادَعاء ملكية المصادر الحضرية القيَّمة مثل الممتلكات و الماء، و تلك سيرورة يمكن أن تتحقق فقط باستئصال السكّان المسلمين.

توضِّح حادثة وقعت مؤخّراً ،و جرت في اسرائيل في ديسمبر 2011 ، التوتُّرات بين المجموعات الدينية المختلفة.بدأت الحادثة في بلدة صغيرة بها مجموعة ضخمة من السكان اليهود الارثوذكس.بشكل روتيني، كان يُبصق على بنت عمرها ثمانية أعوام و يطلق عليها "عاهرة"، بواسطة رجال و أولاد من مجموعة أرثوذكسية متطرفة عندما تكون في طريقها الى المدرسة ،لأنهم يظنون أنّ لباسها الارثوذوكسي المحتشم ليس محافظا بما فيه الكفاية. أصابت الحادثة مواطنين من مدن في أنحاء اسرائيل بالحنق، فشاركوا في احتجاجات في تل ابيب ضد هذا العنف الديني و التعصب في المنطقة المحيطة.و على الرغم من انّ التطرُّف الديني في اسرائيل حديث عهد ،فالإسرائيليون الأرثوذوكس المتطرفون يتعدَّون بشكل متزايد على المجال العام بتأويلهم المتشدِّد للاحتشام الذي يعزِّز الفصل الجندري و تهميش النساء. تمثِّل حادثة 2011 الصراع الأكبر حول طبيعة و مستقبل الدولة الدينية.

معظم العمل حول الأُصولية و الفضاء إمّا أنه اختزل الحضري الى العالم الصغير للأمة،أو إلى منظومة من المصادر التي توفِّر أرضا ثانوية لمعركة النزاع الأيدلوجي.يمكن أن تُفهم الأُصولية في المدينة ،ضمن إطارات المدينة الابارتية،و المدينة الجيتوية أو المدينة المقسَّمة اثنياً أو عرقياً أو دينياً. يبيِّن اورين يفتاشل بجلاء هذه النقطة مستخدماً مفهوم الإثنوقراطية. يقترح يفتاشل أنّ تحضُّر اسرائيل يمكن أن يُرى كمحرِّك اجتماعي و ثقافي وسياسي، و الذي من خلاله أمكن للأمة أن تكتسب سيطرتها المهيمنة على الأراضي الفلسطينية ،و من ثمّ تنجز تفويضها كدولة يهودية.مشيراً إلى مدينة بئر سبع ،يجادل يفتشايل أنّ اسرائيل استخدمت التخطيط الحضري كأداة للسيطرة لتؤسِّس أمة اثنية يهودية.

في النهاية،ليس مفيداً وجود تعريف واحد شامل للأُصولية، ،لأنّ أي سياق حضري يقدِّم صفات مختلفة و يحتمل أن تكون جديدة، للأُصولية.،و من ثمّ من الأفضل أن نتكلم عن الأُصوليات بصيغة الجمع،لأنها تستبطن عدم قدرتنا على أن نتَّفق حول تعريف مفرد لظاهرة محددة مثل هذي. نظرياً ،ربما يبدو الأصولي في نظر شخص ما بطلاً أو قائداً، و في نظر شخص آخر مجرماً. يعتبر البعض أنّ دافع الأصوليين هو نشاط أخلاقي، و تمظهره في المدينة يصبح تحضَّرا دينياً.هذه الأمثلة تمدّنا بنفاذ بصيرة ثمين في نقاش المدن و الأُصوليات، و تبيِّن بجلاء كيف أن المناطق الحضرية تصبح غالبا العالم الصغير للمعارضات الدينية للأمة.

المدينة الأُصولية

ما هي المدينة الأصولية؟ و من له الحق في أن يعرِّفها بهذه الصيغة؟ ليس واضحاً، متى يكون إنكار حقوق أو ممارسات معيَّنة في الفضاء العام، علامةً للأصولية.هل السياسات المنظِّمة للبس أو الحاظرة للتدخين، يمكن أن تعتبر مستوحاة بشكل أساسي من أصولية دينية؟في الواقع،ان أي نقاش حول الأُصولية في فضاء محدَّد، يحتاج أن يضع في الحسبان الثقافة المحلية و مكانها ضمن شبكة الترابط العولمي.

ما زلنا نحاول أن نعرف خواص مدينة أصولية مفترضة.مدينة كهذي ربما تمتلك السمات التالية: مدينة تُقصي صراحةً، بالقانون و التقليد و السياسة المعلنة، أو الممارسة المستترة ،أفراداً يدينون بدين آخر أو ينتمون إلى إثنية مختلفة عن أولئك في السلطة الحاكمة،أو أغلبية السكان، "مدينة تشرِّع أغلبيتها الدينية أو تتوقع عملياً، أنّ جماعات أقليتها ستطيع كل شعائر السلوك العام الموصوف في المدوّنة الدينية للأغلبية"،مدينة مفصولة بشكل حاد بواسطة الجندر و الاثنية أو العرق إلى درجة أن المجموعات المفصولة عندها إمكانية محدودة للوصول إلى الفضاء العام،أو مدينة "تطبِّع معظم أشكال السيطرة و الظلم المذكورة أعلاه في الحياة اليومية إلى درجة أن الاقلية تكفّ عن الاعتراض عليها".

تستند الأُصوليات على أيدلوجيا الاستثناء. يكتب العالم زياد فهمي أن "المدن العربية في الشرق الأوسط ،مشابهةً لنظيراتها في الجنوب العولمي،تحوَّلت إلى أقاليم متشظّية مصنوعة من فضاءات الاستثناء.و من ثمَّ فان علاقة كلتا الاصولية و المدن بموضوع المواطنة يصبح مهمَّاً جداً. أحداث الربيع العربي هي أفضل من يوضّح تلك العلاقة.

خلال الثمانية عشر يوما من انتقال السلطة المصرية في 2011،تحوَّل ميدان التحرير من فضاء احتجاج الى فضاء دين.كان التحرير دوماً فضاءً عاماً أساسيا في القاهرة،و استخدم تاريخياً كمكان تجمع لحشود مصر السياسية،خاصة خلال ثورات 1919 و 1952. مستحثة جزئيا بواسطة الاحداث في تونس،ابتُدرت الانتفاضة المصرية بواسطة عدد من المجموعات الشبابية و الليبرالية التي احتجت أصلا على وحشية قوات الامن المصرية.بيوم 28 يناير،"يوم الغضب" الأول،نمى الاحتجاج و المطالبات توسَّعت لتتضمّن إسقاط النظام.

شاركت مجموعات إسلامية قليلة في الاحتجاجات الأولى،و تعجّب المراقبون المصريون و الأجانب من أن الثورة المصرية السلمية تبدو علمانية إلى حد كبير،و ليست مهتمة أو معنية باستخدام الدين أو التوسل به، لتحقِّق أهدافها.في الواقع ،إن السلفيين-و هم مجموعة صغيرة و لكنها مؤثرة من غلاة المتطرفين و الأُصوليين المسلمين-أعلنوا أنهم مقاطعون للاحتجاجات.و عندما استجاب أخيرا نظام مبارك بتقديم تنازلات، و أصبح واضحا انّ الانتفاضة قد نجحت فعلاً في إسقاط النظام،أصدرت حركة الاخوان المسلمين بياناً في 6 فبراير 2011 معلنة انها وافقت على إجراء محادثات مع المسؤولين لتأكيد التزامها تحقيق مطالب الشعب.
و مع ذلك،لم يهيمن الاخوان المسلمون على ميدان التحرير بشكل واضح إلا في صباح الحادي عشر من فبراير.مستخدمين بنيتهم الفعّالة المتقدمة، و التي تقوّت بتوفير الخدمات الاجتماعية في العديد من أحياء القاهرة،انضم الاخوان المسلمون إلى جهود تنظيم الفضاء بتنظيف الأنقاض،و توفير العيادات و المحافظة على الأمن.

تحوِّل كلّ الميدان في تلك الجمعة مؤقَّتاً،إلى مسجد للصلوات بحوالي نصف مليون مشارك.و على النقيض،في الجمعة الماضية،4 فبراير،صلَّت مجموعات صغيرة من المسلمين في أجزاء من الميدان،محميةً بالمسيحيين الأقباط.بما أنه في التقليد الإسلامي يمكن لأي فضاء تقام فيه صلوات الجمعة، أنْ يصير مسجداً، أصبح ميدان التحرير مسجد المدينة في 11 فبراير.من المثير أن الرئيس مبارك أُزيح من السلطة في نفس المساء.

بينما يكون من الخطأ الإفراط في تحليل هذه الأحداث كاستيلاء إسلامي على القاهرة،فهي تذكّر بتحوُّل المدينة منذ سبعينيات القرن العشرين.عندما تضاعف سكان المدينة خلال الثلاثين سنة الأخيرة،ازداد عدد المساجد في المدينة بشكل غير متكافئ.العديد من هذه المساجد كانت ببساطة جراجات و أقبية ،استحث تكاثرها بزيادة جماهيرية في التديُّن، و سهّله قانون الضرائب الذي يعطي إعفاءات للذين يقدمون فضاءً للصلاة.

يُلاحظ أثر هذه التحولات في فضاءات المدينة،خاصة خلال صلوات الجمعة و شهر رمضان.خلال هذا الشهر المقدّس للصوم و الصلاة، تنشر مساجد الأحياء بسطاً في الشوارع الملاصقة، و يحضر العابدون سجاداتهم،موسِّعين فضاء المسجد الصغير في الحقل العام.تغلق المحال في المنطقة طوعيا، بينما ينسحب الأقباط، و المسلمون غير الممارسين للشعائر، و النساء المرتديات الزي الغربي، من أماكن كهذي أو ببساطة يتجنَّبون الخروج علانيةً في هذه الأوقات.بدون شك، مثل هؤلاء المواطنين لا يرغبون في أن يشاركوا في هذا الإحياء الديني،الذي ينتقص حقوقهم في المدينة.

في العقود الأخيرة،تم تطبيع الأشكال المواربة و الصريحة ،في حالات مثل السعودية العربية،للتقييد و الإقصاء الفضائي المبني على الدين في الحياة اليومية، إلى درجة أنه لم يعد يُعترض عليها أو يتم تحديها بواسطة المجموعات المقصاة.لعلّ هذا هو تكوين المدينة الأصولية. يمكن في الواقع أن نحرز أن الشرق الأوسط العربي يتطوّر إلى نموذج سياسي جديد،هو نموذج الحداثة القروسطية.الأمثلة التي ناقشناها توضح كيف أن المدن الحديثة في العالم العربي، ما زالت تمارس وظيفتها في أوجه عديدة من خلال نظام الفضاء القروسطي.هذا الإجراء المفهومي "يُظهر التناقضات الموروثة للحداثة،و إقطاعيات الديمقراطية،و الفورية المادية للأُصولية الدينية ،و تزامن الحرب و الإنسانية".لعلّ "القروسطي" كإطار مفهومي ،و ليس كفترة تاريخية ، هو أفضل من يعبِّر عن معاناة و نضالات المواطنة في عصر التحضُّر و التديُّن المتزايد.قد توفِّر دولة اسلامية حديثة العدل السياسي و القانوني،و لكن فقط إذا نشأت مؤسسات جديدة تستعيد التوازن الدستوري للسلطة و دور القانون.يستمر النضال لموازنة الإسلام و الديمقراطية،و يتبقَّى أن نرى إذا ما كان أنَّ أنماط التحضُّر الأصولي التي نشأت في مدن الشرق الأوسط العربية،و في أمكنة أخرى في الجنوب العولمي، ستفضي إلى صعود أمم أصولية في القرن الواحد و العشرين.
___________________________________________________________________________________________________________
. *Sayyad, Nezar Al, Massoumi, Mejgan, Religious
Fundamentalisms in the City: Reflections on the Arab Spring, Journal of International Affairs, Volume: 6
5, Issue:2, Spring-Summer 2012.

** نزار السيد هو بروفيسور في العمارة و التخطيط و التاريخ الحضري، و رئيس مركز الدراسات الشرق اوسطية في جامعة بركلي بكاليفورنيا. أمَّا ميجقان ماسومي فهو باحث مساعد و مدير مركز الدراسات الشرق أوسطية في نفس الجامعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا: تزايد أعداد الطلاب المتظاهرين المؤيدين للقضية الفلسطي


.. ا?ستاذ بجامعة سان فرانسيسكو: معظم المتظاهرين في الجامعات الا




.. هل وبخ روبرت دينيرو متظاهرين داعمين لفلسطين؟ • فرانس 24 / FR


.. عبد السلام العسال عضو اللجنة المركزية لحزب النهج الديمقراطي




.. عبد الله اغميمط الكاتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم التوجه