الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مات الملك .. عاش الملك !

محمد بن زكري

2014 / 2 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


إنها ليست ثورة ؛ سواء بالمفهوم العلمي للثورة ، أم بالمضمون الاجتماعي الذي عبرت عنه حركتُها على أرض الواقع الليبي حتى الآن ، ليس لأن القوى الشعبية التي أشعلت شرارتها لم تشأ لها أن تكون حركة تغيير جذري للواقع ، بل لأن قوى الشد إلى الوراء قد التفّت عليها ونجحت - بدرجة كبيرة - في إفراغها من محتواها التحرري ؛ فالحلم الثوري لملايين المُفقَرين المحرومين من كل الحقوق ، قد صادره تحالف الكومبرادور ؛ من الإسلامويين (برعاية قطر) والليبراليين الجدد (برعاية أميركا) ، وليس من شيء تغير سوى رأس هرم سلطة الفساد ، المتمثل في الشرائح العليا من الطبقة الحاكمة الجديدة ، المتحالفة مع نباتات الظل الطفيلية النامية في بيئة نظام الاستبداد والفساد السابق ، أما النظام نفسه فهو باقٍ ؛ باقٍ بكل فساده المالي والإداري ، وتقصيره - بل تآمره - في صون وحماية حقوق المواطن ، وهدره للإمكانات المتاحة للتنمية الشاملة ، وأُحادية نزعته السلطوية التسلطية ، وتبعيته وارتهانه للأجنبي .
و قولا واحدا : إنها ليست ثورة ! فليبحث لها المستثمرون في سوقها الموازية - سياسيا واقتصاديا - عن أي اسم آخر : هبّة ، انتفاضة ، فورة احتجاجية ، تمرد مسلح .. أو حتى حركة إصلاحية ؛ وليكفّوا عن لعبتهم القذرة لاستغفال المواطن البسيط الحالم بغد أفضل ، وقد خدعوه فصدّق أنها ثورة ، و الواقع أنها لم تكن بالأصل ثورة ، وما يقع الآن من أحداث انفلات أمنيّ وفوضى إدارية واضطرابات مجتمعية ناجمة عنها ، وما يجري ممارسته من سياسات اقتصادية واجتماعية كارثية الآثار باسمها ؛ لا يمت إلى (الثورة) بأية صلة على وجه الإطلاق .
لكن حتى نقول إنها ثورة أو إنها ليست كذلك ، لابد أولا من تحديد واضح ودقيق لمفهوم الثورة ومضمونها الاجتماعي ؛ انطلاقا من قراءة موضوعية نقدية للواقع - الظالم - المستهدف بالتغيير الثوري .
وبعيدا عن التعريف الدوغمائيّ - اليسارويّ - للثورة ، بأنها تحوّل نوعيّ في بنية الدولة والمجتمع ، تقوده الطبقة صاحبة المصلحة في تغيير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية السائدة ، بتسريع وتيرة تصاعد ضغط قوى الإنتاج على علاقات الإنتاج إلى حد تفجيرها ، واستبدالها بعلاقات إنتاج جديدة ...
فإنه يمكن - بشيء من التبسيط - تعريف الثورة بأنها : فعلٌ عمديّ (عنيف أو سلمي) لتغيير الواقع - مختل التوازن الاجتماعي - تغييرا جذريا ، وفقا لإستراتيجية ثورية محددة الأهداف الاجتماعية ، وتنفيذا لبرنامج عمل مخطط المراحل وأدوات التنفيذ ؛ باتجاه إعادة توزيع ثروة المجتمع لصالح الأغلبية (الساحقة / المسحوقة) من أبنائه ، وإرساء نظام سياسي ديمقراطي يقوم على أساس ديمقراطية العدالة الاجتماعية والتزام (الدولة) بصون الحريات العامة والخاصة للمواطن . هذا في الحد الأدنى لمفهوم وأهداف الثورة .. بما هي فعل تغييرٍ تاريخي لبنية المجتمع والدولة ؛ وهو ما تنفيه كل معطيات الواقع ، في النسخة الليبية مما أسموه ثورة الربيع العربي .
و من ثم قلت و أكرر القول : إنها كانت فجرا كاذبا ، و إن نصف ثورة يعني ثورة مضادة ، وإنها علميا - في التحليل الأخير - ليست ثورة ، بل هي مجرد انتفاضة شعبية عشوائية ، كان يمكن أن تتطور إلى ثورة حقيقية ، لو توفرت لها القيادة الوطنية المسلحة بوعي ثوري ، يؤهلها لتحسس حاجات الأغلبية الشعبية المحرومة المهمشة ، والاستجابة لها كجزء من حركتها التحررية ، في اللحظة التاريخية المواتية . غير أن قوى الثورة المضادة - برصيدها من الخبرة التنظيمية - قد بادرت إلى وضع يدها على الانتفاضة وعلى الوطن وعلى مسار حركة التاريخ ، حمايةً لمصالحها الطبقية من تطور الانتفاضة الشعبية إلى ثورة اجتماعية ، هي وحدها الحل .
فمنذ الأيام الأولى ، لما يسمى ثورات الربيع العربي ، بدا واضحا أن الإسلام السياسي (ذا الطابع الاستبدادي الكومبرادوري) سيكون هو الوريث غير الشرعي للأنظمة السابقة المطاح برؤوسها ، والتي لا زالت مستمرة ، بكل سياساتها الاجتماعية والاقتصادية وأدائها الإداري ؛ سواء في تونس أم في مصر أم في اليمن أم في ليبيا .
و لكأنما (الانتفاضة) في ليبيا ضد نظام القذاقي لم تقم ، وأنّ عشرات آلاف الشباب من المعطَّلين عن العمل وأبناء الفقراء لم يُستشهدوا ، وأنّ آلاف الفاضلات لم تنتهك أعراضهن ، وأنّ القدرات العسكرية الليبية لم تدمر ، وأنّ مدناً لم تدك فوق رؤوس سكانها ، وأنّ مئات الآلاف لم يشردوا من ديارهم ، وأنّ عشرات آلاف الأيتام والأرامل والثكالى لم يعانوا مرارة الفقدان ، وأنّ الدولة الليبية لم تتعرض للتدمير .. إلا من اجل غايتين اثنتين هما وفقا لخطاب إعلان التحرير : تعدد الزوجات ، وإبطال الصلاة في الخرائب المملكة للفقراء !!! أو من أجل أن يحكم الإخوان المسلمون بنفس سياسات الإفقار والتجويع والترويع والإقصاء والإلغاء ، التي حكم بها القذافي لاثنتين وأربعين عاما ، على نحو ما عاشه الشعب الليبي واقعا مريرا خلال السنتين 2012 – 2013 !
والقادم من أيام الربيع العربي هو بالتأكيد أسوأ مما سلف أضعافا مضاعفة ، حيث سيصار إلى رسملة الدولة - إسلاموياً - عملا بوصفة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، وانصياعاً لإملاءات منظمة التجارة العالمية : إطلاقاً لقوى السوق و تحريراً للأسعار ، و خصخصةً لشركات ومنشآت القطاع العام (أي بيع أصول الدولة للأثرياء) ، و تقليصا لقائمة المواد المدعومة أو رفع الدعم عنها جزئيّا أو كليّا ، وإلغاءً لدور الدولة الضامنة (وخاصة في التوظيف) . كما سيصار إلى العودة عن مكاسب الفقراء المحدودة (العودة عن تمليك البيوت لسكانها / نموذجا) والعودة عن مكاسب المرأة ؛ لجهة تعدد الزوجات ، وفرض الحجاب في المؤسسات التعليمية .. من المدرسة الابتدائية حتى الكلية الجامعية ، مع ترسيخ قيم ومفاهيم التمايز الطبقي والتمييز ضد النساء في القوانين وفي الواقع الاجتماعي .
أما من يقول بأنها ثورة أو إنها كانت بالأصل ثورة ؛ فهو إنما يحدد موقعه في صفوف قوى الثورة المضادة ، فينحاز إلى جانب اليمين المتطرف بجناحيه الإسلاموي والليبرالي ، بقصد التخريب الأيديولوجي وخلط الأوراق وقلب المفاهيم ، أو يصطف إلى جانب النخب المتبرجزة - الوسطية - من محدثي النعمة والتكنوقراط والمثقفين المتحررين تَحَرر العبيد ، الذين يقفون في المنطقة الرمادية العازلة (buffer zone) بين المتسلط والمقهورين ؛ بانتقائيتهم الانتهازية المعروفة ، رِجْل هنا ورِجْل هناك ، أما في أحسن الافتراضات .. فهو (طوباوي) يُسقط رؤاه الخيالية الجميلة على واقع قبيح .. بل هو شديد القبح
و إن ما يحدث الآن في ليبيا من أخونة لأجهزة الدولة و مؤسساتها ، و سيطرة جماعات الإسلام السياسي على السلطة و تحكّمِها بالاقتصاد ، لم يفاجئ إلا من لم يُجِد استقراء الواقع الليبي .. أو لم يهتم أصلا بقراءته ؛ فالواقع الاجتماعي الليبي - نتيجة لعقود من التجهيل الممنهج والعزلة عن العالم - تسيطر عليه ثقافة سلفية إسلاموية إتِّباعيّة معادية للتغيير والانفتاح ، تتغذى على موروث الفكر الديني في أشد صوره جمودا وانغلاقا على الذات ومناهضة لحق الآخر في الاختلاف . وهو ما انعكس بوضوح في نتائج العملية الانتخابية لشغل مقاعد السلطتين التشريعية والتنفيذية (المؤتمر الوطني العام والحكومة المؤقتة) ، ولن يختلف الحال في (معركة) صياغة الدستور .
وإن تحالف القوى الوطنية ، الذي يضم خليطا غير متجانس من : الليبراليين ، والليبراليين الجدد ، واليسار المدجّن (منزوع الهوية) ، والإسلامويين الأقل راديكالية يمينية ؛ لم يفز في صندوق الاقتراع إلا بنظام القائمة ، المخصص له 80 مقعدا في المؤتمر الوطني العام . أما في نظام الترشح الفردي ، المخصص له 120 مقعدا ، فقد مني بهزيمة ماحقة ؛ فضلا عن انه لم يفز إلا في المدن الكبيرة كطرابلس وبنغازي ، حيث نسبة الوعي أعلى . أما في الأرياف والدواخل ، حيث تسود ثقافة الإسلام هو الحل ، فكان نصيبه الخسارة الفاجعة .
ومن ثم فقد كانت المحصلة النهائية لانتخاب المؤتمر الوطني العام هي أغلبية مطلقة من الإسلامويين .. ربما تفوق نسبة 75 % (حزب العدالة والبناء الإخواني ، و حزب جبهة الإنقاذ .. ذو التوجه الإخواني ، وكتلة الوفاء -السويحلي وشركاه - الإخوانية ، وبعض الأحزاب السلفية الصغيرة ، والإسلامويون المستقلون) . ولذلك رأيناهم كيف تكاتفوا وراء السيد محمد المقريف (الإخواني الهوى) رئيسا للمؤتمر ، ورأيناهم كيف يتناغمون مع الميليشيات الإسلاموية ، يحمونها ويحتمون بها .. داخليا ، ورأيناهم كيف يمدون جسور التواصل مع حكم الإخوان المسلمين في مصر وتونس وفي كل مكان .. خارجيا . وباستقالة المقريف - تحت طائلة قانون العزل السياسي الفضيحة - رأيناهم كيف أتوا بالسيد نوري بوسهمين - ممثل الكومبرادور والإسلامويين معا - رئيسا لمجلس تحالف رجال الأعمال الإسلاميين والليبراليين المسمى (المؤتمر الوطني العام) ، ولا عجب ! فإنها فرصتهم التاريخية التي لن يفلتوها أبدا لإقامة نظام حكم إسلامويّ الشعارات .. كومبرادوريّ السلطة .. راسماليّ المحتوى .. غربيّ التبعية ؛ استنساخا لأسوأ ما في نظام القذافي خلال العشرية الأخيرة قبل انتفاضة فبراير .
وفي واقع الأمر ، لقد كان وجود ممثلي تحالف القوى الوطنية ، في ما يسمى المؤتمر الوطني العام ، مجرد غطاء ديمقراطي شكليّ لسلطة الإخوان المسلمين ومشتقاتهم ، ربما دون قصد من الكيانات الحزبية المتناسخة و منظمات المجتمع المدني الهشة ، المكونة للتحالف ؛ الذي تديره قيادة محسوبة على الليبرالية السياسية ، لكنها تجاهر في خطابها الشعبويّ بمرجعية الشريعة ، وتضمر الانتماء لتيار الليبرالية الجديدة ! وهو ما انعكس في الأداء المشوش لأعضاء التحالف ، كمجرد شهود زور في المؤتمر (الإخواني) ، حتى لقد بلغ بهم فقدان الأهلية لشغل مواقعهم السياسية حد إضفاء الشرعية - المفبركة - على قرار المؤتمر بتمديد ولايته المنتهية ، فيما يعتبر تدبيرا تآمريا لاغتصاب السلطة ، خاصة مع ما تبع ذلك من تحصين المؤتمر لنفسه ضد الديمقراطية وضد إرادة الشعب ، بموجب القانون رقم 5 لسنة 2014 ، المستنسخ حرفياً من ترسانة التشريعات القمعية التي سنها النظام السابق ؛ في محاولةٍ (إخوانية) بائسة لرسم الخطوط الحمراء و ترسيم الدكتاتورية وإعادة إنتاج دولة الثقب الأسود .
وبكل الوضوح : إن ما بعد فبراير 2011 لا يختلف عمّا قبله ، فليس من سيئٍ تحسّن أبدا ، بل إن كثيرا من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية ، التي فجرت الانتفاضة ؛ قد ازدادت سوءً ، بدءً من تفاقم ظاهرة البطالة (خاصة بين الشباب) واتساع قاعدة الفقر ، وانتهاء إلى الدولة الفاشلة . وكم هي أرقام السطو على المال فاحشة فادحة ، وكم هي حقائق الفساد مرعبة .. في حقبة الربيع العربي الزائف ؛ سرقات وارتشاء بالملايين والمليارات ، ومرتبات وامتيازات فئوية بمئات الآلاف ، وقلة تثري - بكل الوسائل - حتى البطر ، وأغلبية يسحقها الحرمان حتى المذلة . ومات الملك .. عاش الملك !
أما ودولة الثقب الأسود تعيد إنتاج نفسها (و باسم الثورة !) ؛ فإنه ليس من خيار - بتقديري - غير التقدم في اتجاهين متلازمين : الإبقاء على اتقاد جذوة (لا) بالوعي الذي يطور الانتفاضة (العشوائية) إلى ثورة اجتماعية شاملة - بما هي حركة تغيير جذري للواقع - في الفكر والممارسة ، و تعبئة الجماهير للمواجهة مع الخصوم (حتى لا أقول الأعداء) وحسم معركة الحياة أو الموت في الشارع ؛ وصولا إلى الإمساك - شعبياً - بزمام حركة التاريخ و تصحيح مسار الدولة والمجتمع ، حتى يسترد المفقرون والمعطلون عن العمل والمهمشون حلمهم الثوري قبل فوات الأوان ، و لم يعد ثمة متسع يذكر من الوقت . وإلا حق على الواهمين واللامبالين أن ينعوا أنفسهم إلى أنفسهم دون عزاء .
وأعود لأقول بكل الوضوح : إن هذا المولود المسخ القبيح الذي يحمل هوية 17 فبراير ، ما هو إلا ابن زنا للفادح من سبتمبر . ولأني قد حسمت أمري - منذ زمن بعيد جدا - ولا أتطلع إلى أي مغنم ، فلن أغير أقوالي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مطعم للطاكوس يحصل على نجمة في دليل ميشلان للمطاعم الراقية


.. فاغنر تتكاثر في ليبيا وتربط بين مناطق انتشارها من السودان إل




.. الاستئناف يؤكد سَجن الغنوشي 3 سنوات • فرانس 24 / FRANCE 24


.. روسيا تتقدم في خاركيف وتكشف عن خطة لإنشاء -منطقة عازلة- |#غر




.. تصعيد غير مسبوق بين حزب الله وإسرائيل...أسلحة جديدة تدخل الم