الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الملكةُ بكلِّ أُبهتها

صبري هاشم

2014 / 2 / 16
الادب والفن


***
خاطبني قبل سنوات الشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة قائلاً :
" إنني بصدد العمل على دراسة حول اللحظة الأولى للقصيدة، أي لحظة الإشراق الأولى، فكما قال الشاعر بول فاليري: "تَهِبُناَ الآلِهَةُ الْبَيْتَ الأَوَّلَ بِظُرْفٍ وَدوُنَ مُقاَبِلٍ؛ أَماَّ الْبَيْتُ الثاَّنيِ فَعَلَيْناَ صَنْعَتُهُ."، فإن للحظة البرق الأولى أهميتها في انطلاق النص الشعري في فضائه، أو ربما تختفي تلك الومضة دون أن يقبض عليها الشاعر/ ة.
برجاء تزويدي بشهادتك عن تلك اللحظة، شاكراً لك هذا سلفاً، ومقدراً إبداعك الشعري.. "
فكانت هذه شهادتي ـ رغم ما طرأ على قناعاتي من تغيير ـ عن الإشراقة الشعرية والتي صدرت ضمن شهادات شعراء آخرين في كتاب بعنوان " الإشراقة المُجنّحة .. لحظة البيت الأول من القصيدة " وقد وقِّع باسم الشاعر محمد حلمي الريشة والشاعرة آمال عواد رضوان .
***
الملكةُ بكلِّ أُبهتها
***
العارفُ مَنْ يُمسكُ بجنحِ الفراشةِ وإلاّ تضررَ الجناحُ وماتت الفراشةُ .. القبضُ عليه بقوةٍ ورقّةٍ في آنٍ . لا تعمدْ إليها إلاّ إذا خفقتْ بجناحيها أمام عينيك .. كذلك القصيدة لا تعمدْ إلى كتابتِها إلاّ متى أشرقتْ وتدفقتْ مشاعرُك فأنتَ مهما بالغتَ في صناعتِها وأجزلتَ عليها بالعطاءِ فسوف تبقى بدون روحٍ أعني بدونِ شعرٍ . لقد كتبْنا مِن القصائدِ الكثيرَ وصرفْنا عليها مِن طاقةِ الإبهارِ الشيءَ الكثيرَ أيضاً إنما ظلَّ الشعرُ فيها قليلاً والآلهةُ لا تمنحُ شعراً ربما منحتْنا بيتاً لقصيدٍ أو سطراً حديثاً أو مقطعاً أو قصيدةً كاملةً إنما الشعرُ يبقى في منأى عن الآلهةِ . الشعرُ يخرجُ مِنِ الرّوحِ . ما نُطلقُ عليه لحظةَ الإشراقةِ الأولى أو البرقةَ الأولى تُشكِّلُ روحَ القصيدةِ وهي ربما كَتبتْ القصيدةَ كاملةً بصرفِ النّظرِ عن طولِها وقصرِها وما يلي هذه البرقة أو لحظة الإشراقةِ هو مجرد تحرير القصيدة لا يمسّ روحَها الذي هو روحُ الشاعرِ . السماءُ تهبُنا القدرةَ على سكبِ أرواحِنا ، في لحظةٍ مجنونةٍ ، على ورقٍ أو نرسلُهُ شفاهاً وهي ستعيبُ علينا لو ارتكبْنا حماقةَ صناعة الشعرِ ونحن نُدركُ أنَّ هذه الصناعةَ تدخلُ القصيدةَ لا الشعرَ وإلاّ سنسألُ ببساطةٍ : كيف يصنعُ الشعورُ .. كيف نتصنّعُ المشاعرَ ونحن مُطالبون بالصدقِ دائماً ؟ القصيدةُ إنْ لم تُكتبْ بدمِ القلبِ ليست شعراً . أنا شخصياً لا أعبثُ بروحِ اللحظةِ الأولى ، البرقةِ الأولى ، الإشراقةِ الأولى . ما أفعلُه بعد سكبِها على الورقِ أو إرسالِها إلى الهواءِ هو تحريرُ النّصِّ .. تخليصُهُ مِن أخطائهِ البسيطةِ نحوية وإملائية وغيرها لا أُخضعُ شعري لقانونٍ بعد الكتابةِ لأني سأضطرُ إلى الحذفِ والإضافةِ والإلغاءِ والإتيانِ بمفرداتٍ ربما لا أحبُّها وسأرفعُ مفرداتٍ ربما أحببتُها وسأضطرُ للضرورةِ الشعريةِ عندئذ أُخضعُ قصيدتي للصنعةِ وهذا ما لا أُريدُه . كيف نلجأُ إلى صناعةِ الشعورِ ؟ هذا جنونٌ . "القصيدةُ" المطلوبةُ بَرْقَة ربما هي طويلةٌ نسبياً لكنها لحظةُ بَرْقٍ .. أنا لا أتحدثُ عن القصيدةِ إنما عن الشعرِ الذي يحملُ دفقاً روحيّاً في لحظةٍ عاصفةٍ . أشعاري موجودةٌ بكثافةٍ في بعضِ قصائدي وبكثافةٍ أكبر في رواياتي . إنّها حاضرةٌ بقوةٍ .. حتى أبطال رواياتي أتركُهم يتدفقون في لحظةِ ألقٍ ولا أُعاتبُهم على قولٍ شعريٍّ أخّاذٍ .. لا أُقرّعُهم على نقصٍ ولم أتدخلْ في مشاعرِهم . بول فاليري ينطقُ في داخلهِ روحٌ أوربيٌّ ليس قلقاً وهو مفعمٌ بالأمانِ . إنه مُسترخٍ .. مختلفٌ . بول فاليري يتحدثُ عن البيتِ والقصيدةِ وصناعةِ بيتٍ آخر لا يتحدثُ عن الشعرِ . البدويُّ في الباديةِ أو في الصحراءِ كان يبعثُ مشاعرَهُ حرةً في الهواءِ الطلقِ .. يبعثُها شعراً بدونِ بياضٍ أو مدادٍ .. بلا قوانينَ ولا فراهيديّ ولا أوزانٍ ولا تفعيلاتٍ ولا خلافِها . البدويُّ الذي أرسلَ عذاباتِه الأولى لا يصنعُ شعراً إنما يقولهُ بثّاً مباشراً .. يرسلُهُ مع عذوبةِ هواءِ الباديةِ مع طلوعِ القمرِ أو شروقِ الشمسِ .. مع نوحِ اليمامِ ، مع حركةِ القوافلِ ، مع عذاباتِهِ وعطشهِ الشديد . ما يكتبهُ الأوربيُّ عن الحبِّ أو الحنينِ إلى البيتِ والمكانِ والأمِ والمرأةِ بشكلٍ عام يختلفُ اختلافاً كبيراً عما يكتبهُ العربيُّ المقهورُ ، المُنهزمُ ، المُستلبُ ، المُحارَبُ ، المُتهمُ بذنوبٍ وآثامٍ لم يرتكبْها . مشاعرُ العربيّ متدفقةٌ بقوةٍ .. حزنُهُ عذبٌ صافٍ كما هو الحالُ مع أفراحِهِ رغم قلّتِها ، لذلك فإنّ شعرَهُ المصنوع لا روحَ فيه لأنه غيرُ صادقٍ ولو أثقلَهُ بكلِّ المُحسّناتِ وسخّرَ مِن أجلهِ كلَّ طاقاتِهِ اللغويةِ وأدخلَ في أبياتِهِ كلَّ إيقاعاتِ الأرضِ . اُنظروا إلى مراثينا ، أنّها مِن أجملِ الشعرِ لأنّها صدرتْ عن روحٍ صادقٍ .
أختلفُ مع التسمياتِ ولا علاقةَ لي بما توصلتْ إليه الترجماتُ حول شكلِ القصيدةِ . إنْ تقول قصيدةً حرّةً أو شعراً حرّاً عليك أنْ تتحررَ تماماً مِن كلِّ قانونٍ يلزمُ القصيدةَ وهذا القولُ يقتربُ مِن قصيدةِ النّثرِ ومِن القصيدةِ الحرّةِ باعتبارِها شكلاً شعرياً رابعاً وليس مِن قصيدةِ التفعيلةِ . حين نُتابعُ "بعض" كتاباتِ ما يُسمى بقصيدةِ النثرِ نجدْها مغرقةً بالشعريةِ . إنّها شعرٌ خالص وليست نثراً . النثرُ بلا روحٍ شاعرٍ . قصيدةٌ كهذه مشحونة بالشعرِ هي ما نُطلقُ عليه القصيدة الحرّة بشكلِها الرابعِ . قصيدةُ الحريةِ هذه دمعةٌ تنسكبُ بصمتٍ وبدون ضجيجٍ . دعونا نتصورُ الدموعَ التي تهلُّ بصمتٍ . إنّها أكثر جمالاً مِن تلك التي ترافقُ العويلَ ، الجعجعةَ الإيقاعيةَ . البعضُ يقولُ إنّ غيابَ الإيقاعِ ناتجٌ عن ضعفٍ في الأُذنِ الموسيقيةِ عند الشاعرِ ، هذا القولُ فيه الكثيرُ مِن عدمِ الدّقةِ وعدم الوضوحِ كيف تكون أذنُ الشاعرِ الحداثيّ ضعيفةً وهي مثقلةٌ بكلِّ أنواعِ الإيقاعاتِ والأصواتِ الموسيقيةِ المعاصرةِ . نحن في زمنِ انفلاقِ الصوتِ إلى ملايين الايقاعاتِ . لم نعُد نحتفي بحركةِ موجِ البحرِ وهديرهِ ولا بحركةِ الرّملِ وسيرِ القوافلِ ولا بصوتِ الحداءِ . نحن باختصارٍ في زمنِ جميعِ الأصواتِ التي لم يعرفْها الأجدادُ مِن قبل وأذنُ الشاعرِ الحداثيّ مكتنزةٌ بكلِّ هذه الأصواتِ فكيف تكون ضعيفةً ؟
نعودُ للحظةِ الإشراقةِ الأولى التي هي عندي القصيدةُ حتى لو لم تكن جيدةً .. هي الشعورُ وهي الروحُ الذي يتدفقُ سواء أُستقبلتْ مِن قبلِ الآخر أم لا .. أنا أخلقُها في لحظةٍ عاصفةٍ ولم أفكِّرْ لحظةَ الخلقِ بمشاركتِهِ إياي . الذائقةُ الشعريةُ تبقى مسألةً نسبيةً تُحددُها ، عند المتلقي ، جملةُ عوامل جمالية وتكويناتٌ ثقافيةٌ وهي مختلفةٌ عند البشرِ وعند الشخصِ نفسهِ تختلفُ مِن حين لآخر تبعاً لانفعالاتِه ولحظةِ الاستقبالِ ومزاجهِ وجاهزيتهِ للسماعِ أو القراءةِ وأحيانا يتبعُ التذوِّقُ والحكمُ على القصيدةِ الموقفَ مِن شخصِ الشاعرِ . هذا هو الشعرُ عندي لن أتنازلَ عن مفردةٍ أحببتُها ولو اختلتْ قوانينُ الكونِ وليس القانونُ الشعريُّ ولو خرجتُ مِن جميعِ البحورِ مطروداً . تلك القصيدةُ عندي ومِن حقِّ المرءِ أنْ لا يسميها شعراً . دعه يسمِها ما شاء فأنا أكتبُها بروحي أولاً .. البرقةُ إذاً .. لحظةُ الإشراقةِ هي القصيدةُ كاملةً إنما غيرُ منتظمةٍ . إنّها الشعرُ وروحُهُ .
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي


.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض




.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل