الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في التعددية الفكرية وشرعية الاختلاف

سجاد الوزان

2014 / 2 / 17
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


نص افتتاحي :
إن أزمة المجتمعات العربية اليوم تكمن في فقدان الهوية، وتكمن في فقدان الكيان الذي تدافع من أجله وتلوذ به، لتنتقل الأزمة إلى صناعة أزمة جديدة وليدة الأولى متمثلة في غياب لغة الحوار وقبول الآخر، لتبرز الدوغمائية بقوتها وبكامل معاني اصطلاحها (الجمود الفكري، الفكر المطلق، أو الرأي المطلق، التعصب العقائدي – لدين أو مذهب - )، لتنتهي تعددية الأفكار وشرعية الاختلاف في أمةٍ يمتهن قادتها لغةً واحدة تحتكم إلى السيف، لتسيل دماء شعوبها وأفراد مجتمعاتها .

التعددية المتاحة والاختلاف المشروع :

إن من مميزات الفكر الإنساني هو إنه يسير سيراً عرضياً، ولا يسير سيراً تركزياً يرتكز على عمود دون آخر، وعلى جهة دون أخرى، فكما إن للمسلمين أيديولوجيات معينة اتجاه الوجود تمتهن المنهج العقلي والمنطقي القائم على البرهان والدليل، كذا للمسيحيين أيديولوجيات معينة اتجاه الوجود، وكذا اليهودية كأديان سماوية، كما وإن للبوذي والزرادشتي والمانوي والصابئي وغير ذلك رؤيتهم للوجود والإنسان وغير ذلك .
والفكر الإنساني في جوهره ومكامن حقائقه هو حركة تسير اتجاه اكتشاف مجاهيل الوجود الكوني، بل والإنساني، وحتى الغيبي، وذلك الاكتشاف ينطلق بمرتكزات ما هو معلوم من الفكر والمعرفة لتتشكل (نظرية المعرفة) الإنسانية، التي ساهمت في تشكيلها جميع العقليات الإنسانية، وجميع أفكار البشر، فهي نتاج الكل وليد الفرد، الفرد الأول الذي عمل على صناعة أسرة ومجتمع يختلف في ما بينه، في الرؤى والأفكار وإعراب الوجود والنظرة إلى الحياة، وتقديس ما يمكن تقديسه، ونبذ ما يمكن نبذه، وحتى نتج مجتمع العولمة، وعولمة المجتمع، ذلك المجتمع الحديث والعصري، والذي انتهت إليه غاية ما كانت تؤسسه نظرية المعرفة الإنسانية أو لنقل البشرية بالعرض على مر حركة التاريخ بمكانه وزمانه .
ونظرية المعرفة الإنسانية (البشرية) تستند في قوتها وبقائها اليوم على مشروع تعدد الرؤى والأفكار وقوالب المعرفة ونمط التفكير والأساليب الكيفية والكمية للتخاطب والتواصل مع أفراد المجتمع .
نعم ذلك الفرد الذي يعترف بالآخر، وذلك الآخر الذي يستوعب الآخر، وبعد هذه الجزئيات الفردية التي تشكل الـ (نحن) المجتمعية التي تحتوي ضمنها (أنا) المسلم و (أنت) المسيحي و (ذلك) اليهودي والصابئي وغير ذلك، ليتطور ذلك المفهوم النحنوي ليصنع التعددية في نفس العقيدة، من حيث القبول في تعدد المذاهب، بسبب وجود تعدد المفاهيم حول نصوص العقيدة، لتبدأ التقسيمات التي هي مصدر القبول بالآخر في نفس العقيدة من جديد (أنا) الشيعي و (أنت) السني، ونفس ذلك في تعددية الأفكار والنظريات الفكرية الوضعية (الماركسي، الوجودي، المثالي، الربوبي، اللاديني ....) .
وكلما كان القبول بالأفكار والرؤى أياً كانت بشرط منهجيتها، كلما كان المجتمع يتحرك نحو الديناميكية الثقافية، لننتج ديناميكية الوعي الثقافي المجتمعي بنفس موضوع التعددية، ونفس موضوع شرعية الاختلاف، وإنما دليل شرعية الاختلاف سيكون وليد تلك الديناميكية التي تريد فكراً مغايراً وثقافتاً أخرى ووعياً جديداً على الدوام، كما وإنه تغيب الاستاتيكا التي توازن بين الثقافة الجامدة والعقيدة المطلقة، لتنتهي حركة المجتمع وديناميكيته الفكرية والثقافية .
لذا فالتعددية الفكرية والإقرار بشرعية الاختلاف هي احد معوقات ظهور الاستاتيكا المجتمعية، بل وإحدى موانعها، لتتيح للحركة الثقافية والفكرية بأن تتواجد دائماً للفرد وللمجتمع بقوة وهدف وكيان كامل ومستقل عن كل شيء لنأخذ منها كل شيء .
فمثلاً مما ينقل عن الثقافة البصرية قديماً إنها ثقافة تحمل في طياتها التعددية الدينية، والتعددية المذهبية، لننتقل إلى ثقافة التعددية الفكرية والمعرفية، لتكون بمفهومها العام ثقافة متوازنة حققت أهدافها على واقعها الاجتماعي، في حدود ثقافة التسامح والتقارب وقبول الآخر كآخر مهما كان ومن أين كان ولمن ينتسب .
فالشواهد التاريخية تبين لنا وجود ثقافات متبادلة بين مختلف المفكرين والعلماء في البصرة، ووجود نقاشات وحوارات علمية واسعة، تشكل جميعها الثقافة البصرية، والتعددية الثقافية للمجتمع العراقي، والأمة العربية، فيروى أنه كان في البصرة، التي تميزت بنشاطها الفكري الواسع والمتعدد آنذاك، مجلس يعقد بانتظام يضم عشرة من أشهر المفكرين والأدباء (لا يعرف مثلهم في الدنيا علماً ونباهة) وهم : الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب النحو(مسلم)، والحميري الشاعر(مسلم)، وابن نظير المتكلم (النصراني)، وابن راس الجالوت (يهودي)، وابن سنان الحراني (صابئي)، وعمر بن المؤيد (مجوسي)، وحماد عجرد (زنديق شعوبي)، وبشار بن برد الشاعر (شعوبي خليع ماجن)، وسفيان بن مجاشع (خارجي صفري)، وصالح عبد القدوس (ثنوي)، فكان يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتبادلون الأفكار والأخبار، ويتحدثون في جو من الود لا تكاد تعرف منهم أن بينهم كل هذه الفروق الدينية والمذهبية، فلقد ذهب هذا المجتمع العجيب المدهش – في صميم القرون الوسطى – مذهباً بعيداً في احترام كرامة الإنسان وتعميق الأخوة الإنسانية دونما نظر إلى دين أو طائفة أو اختلاف في الرأي (1) .
كما وإن العقيدة لا يمكن أن نجعلها حائل ومانع من نشوء التعددية والاختلاف في المجتمع، وتلاقح الأفكار بين أفراده، لأن نفس موضوع العقيدة هو أمر خارجٌ على الإنسان، وقد يفرض في بعض الأحيان دون الدليل ودون البرهان، وكما يقول الدكتور علي الوردي : (إن العقيدة في الواقع ليست بيد الإنسان، وهو لا يستطيع أن يحصل عليها أو يتركها كما يريد، إنها قناعة لا شعورية تأتي نتيجة الإيمان القوي والمراسل الطويل والانغمار الذي لا يخامره شك أبداً .
إن العقيدة التي تكون في العقل الظاهر ولا تتغلغل إلى العقل الباطن قد تضر ضرراً بليغاً من هذه الناحية، وهي ربما أدت إلى عكس النتيجة المبتغاة منها ....
إن صاحب هذه العقيدة السطحية لا يكاد يضع قدمه على النار اقتداءً بفقراء الهنود مثلاً، حتى يأخذ عقله الباطن بالتخوف والاستغاثة، فهو يقول لنفسه : أقدم ولا تخف، ولكن عقله الباطن يهمس في أغوار النفس بهمسات الخطر ودنو الأجل)(2) .
د. علي الوردي، خوارق اللاشعور، ص184
لذا فعندما تستحوذ العقيدة على ملكات الإنسان التي تقدم له الوعي والتفكير، سوف تتيح له حالة الغيبوبة في الشعور في كون النار حارقة كما يفعل الهنود، أو كون إدخال السيف في الأحشاء قاتل كما يفعل (الدراويش) وغيرهم من الممارسات الخارقة، فلو شك صاحب العقيدة في باطنه (العقل الباطن) لشعر بالأذى والنار وغير ذلك .
لذا فنحن اليوم نريد عقيدة واعية تحكم براهينها وتتيح لمشاعرها بأن تأخذ دورها اتجاه السلوكيات والأحداث التي تنتج على الواقع، وسلوك صاحب العقيدة مع المخالف له بالعقيدة وبالرأي والفكر .
وكلما كانت لغة الاختلاف مشروعة في المجتمع، تحمل في طياتها معاني التعددية، كلما كان المجتمع يستوعب الثقافة بلغتها العالمية، وبلغتها التقدمية والحداثوية، وإنما الحداثة هي وليدة المجتمعات الحركية والفعالة، والمحتوية على المختلفين في شتى صنوف المعرفة والعلوم والتشريعات، والاختلاف في ذاته يصنع تعدد الرؤى والأفكار والنظريات، ليكون ذلك المجتمع هو الأقوى في حل قضاياه المصيرية، وهو الأقوى في إيجاد الحلول لكل مشاكله المستعصية، وهو الأقوى في بناء دولته المدنية والعصرية والمتطورة في جميع صنوف المعارف كبروياتها وصغروياتها .

وركود المجتمع وفقدانه لهذه اللغة الإنسانية (الاختلاف والتعددية) يعني بلادة المجتمع وأفراده، ويعني انعدام الرؤى للواقع الذي يعيشونه، ويعني ظهور الجريمة والعنف والإرهاب، ويعني ظهور التخلف والجهل، وغياب لغة العدالة وظهور لغة المظلومين، بصورة ظاهرة حية تكبل حركة النهضة في ذلك المجتمع، وتقيد تعدد المعارف والعقليات والأفكار التي تستوعب همها ومشاكلها وتخلفها وانعزالها عن العالم الخارجي، والذي أخذ بالتطور والتقدم بصورة السوبر سرعة، أو وصوله إلى مرحلة النتائج المعرفية الكبرى، ومرحلة الوعي المعقد، أو الباطن الفكري والذهني التعقلي لقضايا الكون والوجود والإنسان والحياة .


المراجع :
(1) : ): محمد عبد الرحمن مرحبا، أصالة الفكر العربي، منشورات عويدات، بيروت/باريس، 1982 ص9، بزيادة من قبل : د.عبد الحكيم الكعبي، التعددية الفكرية وشرعية الاختلاف، ص79 .
(2): د. علي الوردي، خوارق اللاشعور، ص184 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلة الجزيرة: مواجهات وقعت بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهري


.. الاتحاد السوفييتي وتأسيس الدولة السعودية




.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): 80% من مشافي غزة خارج الخدمة وتأج


.. اعتقال عشرات الطلاب المتظاهرين المطالبين بوقف حرب غزة في جام




.. ماذا تريد الباطرونا من وراء تعديل مدونة الشغل؟ مداخلة إسماعي