الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سماسرة الاتصالات يجهزون على ما تبقى: قانون الطوارئ المالي في التلفزيون السوري

محمد منصور

2005 / 6 / 28
الصحافة والاعلام


بدأ التلفزيون السوري منذ أسابيع قليلة ببث برنامج يومي اسمه (غنيلي) البرنامج المذكور ليس برنامجا على الإطلاق، إنه نسخة مجتزأة من بث المحطات الغنائية التافهة: أغاني فيديو كليب موصولة ببعضها بعضا، مع شريط إهداءات رسائل موبايل للمراهقين والمراهقات!
التلفزيون السوري الذي كان يعمل ضمن منظومة شعارات تؤكد أنه ينتمي إلى فصيلة الإعلام الرصين والهادف... صار مضطرا لمجاراة أسوأ أشكال البث الفضائي وأكثرها سخفا وتفاهة... والسبب ليس الرغبة في كسب الجمهور بل كسب النقود وإيجاد مصدر دخل لتمويل برامج أخرى.
إن مشكلة أي برنامج يجري التحضير له في التلفزيون السوري اليوم بقنواته الثلاث... هي في الأساس مشكلة مالية... فبعد أي موافقة على أية فكرة تجد المشكلة المالية قائمة في كل مجالات العمل.. والمسألة لا تنعكس على العاملين في البرنامج فقط بل تنعكس على الشاشة.. وعلى عناصر البرنامج البصرية من ديكور وإضاءة وغرافيك وسوى ذلك... وقد وصل الأمر بإدارة التلفزيون السابقة والحالية إلى تكليف معدي ومخرجي البرامج بالبحث عن راعي إعلاني ولو بشكل شخصي من أجل تمويل البرامج، وإلقاء عبء تكاليفها على الراعي الإعلاني الذي يدفع أجور العاملين وأجور التصنيع وأجور الإشراف لمدراء التلفزيون ليكتفي ببضعة دقائق إعلانية تطول أو تقصر!
لكن الاندفاع الإعلاني نحو رعاية البرامج في أي محطة يرتبط عادة بمدى قوة مشاهدة تلك المحطة واتساع رقعة جمهورها، حتى تتسع رقعة انتشار الإعلان الذي سيبث في هذا البرنامج أو ذاك... ولهذا انصرف الكثير من المعلنين عن برامج التلفزيون السوري لأن التلفزيون السوري هو تلفزيون غير مشاهد ببساطة... وسبب تراجع جمهوره له علاقة بالعقلية الإعلامية الأمنية التي داست حرية الإعلام تحت أقدامها، وهجرت الإعلاميين البارزين فتوزعوا على المحطات العربية، وأفسحت المجال واسعا أمام البعثيين والمنافقين والمتزلفين الذين يعتقدون أن التلفزيون سلطة وأن المشاهد عبدا لشاشتهم وبالتالي لا يجرؤ على الاعتراض على كل ما يقدمونه على هذه الشاشة من كذب ونفاق وتزوير لآلام الناس وأوجاعهم..
باختصار خسر التلفزيون جمهوره وصار المعلن يعد للألف قبل أن يتورط في رعاية برنامج مقابل ترويج إعلاني.. لكن بالمقابل ظهرت أنواع أخرى من الرعاية... أنواع تعتمد على الاستثمار وعلى تحويل الشاشة إلى مصدر رزق مباشر لوسطاء وسماسرة معظمهم من أبناء المسؤولين في الدولة... وليسوا معلنين أو أصحاب مهن... وهؤلاء يعملون على الطريقة التالية:
يأتي ابن مسؤول، فيؤسس شركة اتصالات... لا تعرف منها سوى مجموعة سماسرة صغار يجوبون أروقة التلفزيون بأطقم وربطات عنق، وبابتسامات لزجة، ويعقدون الاجتماعات مع المدراء لرعاية هذا البرنامج أو ذاك.. أما رأسمالهم فهو حجز رقم موبايل رباعي من شركتي الموبايل في سورية، ثم وضعه قيد الاستخدام في البرامج التي يجب أن تتضمن مسابقة أو تصويت حصري عبر أرقام الموبايل الرباعية تلك التي تتضاعف فيها قيمة دقيقة المتصل خمسة مرات... وعندما تأتي إيرادات المتصلين تسدد الشركة ما عليها لشركتي الموبايل، ثم تعطي التلفزيون نسبة من الأرباح وتأخذ نسبتها!
هذا الشيء يمكن أن يفعله التلفزيون السوري بنفسه بدل أن يركب على ظهره أولاد المسؤولين عبر شركات خلبية تريد أن تحشر نفسها لتجني الأرباح من دون أي رأسمال تحتاجه أو تخشى أن تخسره.. ولكن لا أحد يريد أن يطرح السؤال لماذا يصر التلفزيون أن يكون تابعا لشركات أولاد المسؤولين... ولماذا يصبر التلفزيون عندما تتلكأ هذه الشركات في تسديد حصته المالية حتى بعد انتهاء بث تلك البرامج.. أو لماذا يسكت التلفزيون على تسديد تلك الشركات لحصته بالقطارة وبالتقسيط المريح.. دون أي غرامات تأريخ.. مع أن النظام المالي السوري المطبق على المواطن السوري من فاتورة المياه حتى فاتورة الهاتف.. لا يعفيه أبدا من غرامات التأخير!
إذا غياب المعلن الذي يمكن أن يرعى البرامج مقابل دقائق إعلانية تروج لأسماء شركاته ومنتجاته، ودخول المعلن الذي يتسلل إلى جيوب المشاهدين عبر إغرائهم بالاتصال عبر الموبايل للمشاركة في مسابقة أو سوى ذلك.. وبالتالي الإضافة لرصيده المالي بدل أن يضيف هو لرصيد البرنامج.. غياب المعلن الحقيقي وحلول سمسار الاتصالات الذي لا يطلب أن تعلن اسم شركته عبر التلفزيون لأن ما يهمه هو استجرار المشاهد للاتصال.. كل هذا أدى إلى أن البرامج التي يمكن أن تحظى بالرعاية يجب أن تتضمن فقرة اتصالات عبر الموبايل حصرا.. وبالتالي أصبح على التلفزيون السوري أن يفصل برامجه لخدمة شركات السمسرة والاتصالات هذه، لا لتحسين أدائه البرامجي.. وقد بلغت الصفاقة بأصحاب هذا المنطق، أن عقدوا اجتماعا في إذاعة دمشق، لتحويل فقرة شكاوى المواطنين الهاتفية... إلى فقرة ترعاها شركة اتصال على أن يتم اتصال المواطن لبث شكواه عبر الموبايل حصرياً وأن تحسب الدقيقة بخمس أضعاف سعرها الأصلي.. إلا أن عددا من الإعلاميين الذين حضروا الاجتماع قد انتفضوا محتجين... وهم محقون في ذلك.. لأن هذا الاقتراح يعني أننا لا يجب أن نستغرب مستقبلا أن يصبح الاتصال بسيارات الإسعاف محصورا بأرقام موبايل رباعية ترعاها شركة اتصالات... تأخذ نسبتها من كل طالب استغاثة... فأي عار وصل إليه هذا الإعلام الرسمي السوري الرصين والجاد الذي كانت الدولة تمن على المواطنين طيلة الثلاثين سنة الماضية بأنه إعلام ثوري هدفه خدمة الجماهير!
وليست هذه هي كل معطيات المشكلة المالية في التلفزيون.. فهناك آليات يصح أن يطلق عليها (قانون الطوارئ المالي) تجعل من المستحيل على التلفزيون أن ينهض برامجيا... وهذا القانون اخترعه بعض مستشاري السوء في الإدارة والمالية المختصة... حين سنوا قانون نصب واحتيال على العاملين في التلفزيون السوري وهم أكثر من خمسة آلاف موظف في مهن فنية وإدارية مختلفة... أسموه (السقف)
فمن المعروف أن العاملين في المحطات التلفزيونية يتقاضوا أجورا على البرامج التي ينجزونها حتى لو كانوا موظفين... وذلك لأن آلية العمل التلفزيونية تستغرق وقتا طويلا لا يحده دوام رسمي.. وإذا قارنا أجور العاملين في التلفزيون السوري لوجدنا أنها لا تساوي عشر ما يدفع في محطات أخرى.. لكن بسبب كثافة العمل فقد تكبر تعويضات العمل البرامجي فتصبح قادرة على سد الاحتياجات المعيشية للموظف أو الفني التلفزيوني (القاعدة السائدة في سورية، أن راتب أي موظف وتعويضاته لا يجب أن تسد احتياجاته المعيشية) وللحد من ذلك سن بعض مستشاري السوء قانون (السقف) الذي يعني أن تعويضاتك يجب أن لا تتجاوزا الثلاثمائة أو الأربعمائة دولار أميركي.. وإذا ما كان هناك طلب على مخرج أو مونتير متميز في عدد من البرامج.. فقد يخصم خمسين من المائة من تعويضاته البرامجية زورا وبهتانا لأن السقف لا يسمح له أن يأخذ أجره كاملاُ، مع أنه يدفع الضرائب المستحقة عليه للدولة سواء بلغ السقف أم يبلغه!
وهكذا ساوى (السقف المالي) بين البرامجي الجيد والبرامجي الرديء.. وأصبح ضريبة مضافة على العاملين في التلفزيون من قبل جهابذة النفاق ومستشاري قوانين تسويد عيشة المواطنين.. أما المحصلة الإعلامية فهي أن السقف صار سقفا للمهنية.. فأي صاحب اجتهادات سوف يصطدم بالسقف، وأي متحمس للعطاء بلا حدود سوف يصطدم بسقف يضع له وللعاملين معه كل الحدود... باعتبار هذه الحدود جزءا من قانون طوارئ مالي يضعك أما ثلاث خيارات: إما أن لا تعمل إلا بما يسمح به السقف.. أو أن تعمل بالمجان... أو أن تلجأ لشركات الرعاية الإعلانية لتدفع لك أجورا خاصة تتجاوز السقف بقليل... لكنها تندرج تحت سقف لعبة الاتصالات والسمسرة والضحك على ذقون الناس.. وتسفيه معارفهم من خلال اختراع مسابقات غاية في السخف ليس هدفها إثراء معلومات المتصل وإنما تشجيعه على الاتصال وكفى!
إن هذه الصورة المضحكة المبكية للوضع المالي الذي يدفع التلفزيون السوري لإعلان حالة التسول فعلا... ليست مسألة إدارية أو مالية تهم مجموعة من المختصين بهذا الشأن أو العاملين في التلفزيون السوري كما قي يتصور بعضهم.. إنها في المحصلة تعكس الصورة الإعلامية التي تظهر على الشاشة أخيرا... وهي تعكس حقيقة أن الدولة الشمولية التي وضعت يدها على الإعلام طيلة ثلاثين عاما.. لم تنجح بتطويره لا إعلاميا ولا جعله رابح ماديا... فهذا الإعلام الذي انصرف عنه المشاهد، وانصرف عنه المعلنون هو خاسر ماديا ومعنويا... وهذا الإعلام الذي أصبح مضطرا أن يضع شعارات الرصانة جانبا لم يكن مقنعا في شعاراته يوما، ولا هو مقنع حين يبرر لنفسه أن يخون شعاراته.. وهو يؤكد أن دولة التقدم والاشتراكية التي كان يقودنا إليها حزب البعث العربي الإشتراكي تنتهي إلى مؤسسات خاسرة ماديا ومعنويا، لا تصلح لا لصنع دعاية مقنعة للنظام السياسي التي تنتمي إليه ولا للدفاع عنه من جهة، ولا لتحقيق الربح التجاري من جهة أخرى.
إنها مؤسسات صالحة فقط لضخ جيوب أولاد المسؤولين عبر منافذ سمسرة تقتات على الانهيار الإعلامي والبرامجي.. إذ لولا هذا الانهيار هل تقبل محطة في العالم بتشجيع السمساسرة على نهبها ونهب العاملين فيها، ونهب مشاهديها بلا أي قيود أو شروط!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الضفة الغربية: مقتل 7 فلسطينيين بنيران القوات الإسرائيلية في


.. زيلينسكي يطمئن الأوكرانيين ويعيد التأكيد على الحاجة الماسة ل




.. الأطفال في لبنان يدفعون غاليا ثمن التصعيد في الجنوب بين -حزب


.. ردود فعل غاضبة في إسرائيل على طلب إصدار مذكرات توقيف بحق نتن




.. جيل شباب أكثر تشدداً قد يكون لهم دور في المرحلة المقبلة في إ