الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إستدراج مصر للحرب في أفريقيا

مهدي بندق

2014 / 2 / 19
مواضيع وابحاث سياسية





إستدراج مصر للحرب في أفريقيا





في عام 1680 أساء رجال الديوان المصري معاملة جماعة من التجار الأحباش، فبعث تاكيلا هايمونت ملك الحبشة ( أثيوبيا الآن ) رسالة تهديد إلى عبد الرحمن باشا والي مصر آنذاك يقول فيها برعونة المغتاظ :
إن النيل هو سلاحي في معاقبتكم ، فقد وضع الله ينابيع هذا النهر العظيم وبحيراته في أيدينا ، وبهذا يمكننا إنزال الأذى بكم وقت نشاء !
والحق أن تلك الرسالة لم تكن أكثر من تهديد أجوف ، فلم تكن الحبشة في ذلك الوقت تملك من الوسائل ما يسمح لها بتغيير مسار النيل أو وضع سدود تحول دون وصوله كاملاً إلى مصبه شمال الديار المصرية . ومن ثم فقد تجاهل الوالي ( العثماني ) القائم على شئون البلاد تلك الرسالة ولم يرد عليها.
كان لابد من مرور قرون كي تصبح أثيوبيا قادرة على تنفيذ وعيدها بامتلاكها في الوقت الحاضر لتكنولوجيا بناء السدود الضخمة توليداً للكهرباء ، وما كان ذلك ليتم إلا بعد حصولها على الخبرة والأموال اللازمة من دولة حديثة العهد بمنطقة الشرق الأوسط وبالقارة السمراء هي إسرائيل ! فلماذا إسرائيل تحديداً ؟
مَردُّ ذلك أن إسرائيل بسعيها للسيطرة على مقدّرات المنطقة لم تكتف بابتلاع الأرض الفلسطينية أو باحتلال ما تيسر من الأراضي العربية الأخرى، بل أخذت تخطط للهيمنة على مصائر جيرانها (وعلى رأسها مصر ) في كل مناحي الحياة، وما كان لها – بهذه النزعة الإمبريالية الإقليمية – إلا أن تتذكر ذلك التهديد الحبشي القديم ، كي تبعثه حياً بواسطة الأحباش الجدد ، ليس بالأقوال بل بالأفعال . ومن هنا راحت تشجع أثيوبيا على إنشاء مشروعات على النيل الأزرق وبحيرة تانا ونهر السوباط ، وهي تعلم جيداً أن ذلك مخالف لبروتوكول 1891 والذي أعطي لبريطانيا ومصر حق الاعتراض على كل ما من شأنه التأثير على إيراد المياه المتدفقة نحو الشمال .
كانت مصر قد استنامت إلى مبدأ " تشرشل " القائل بأن حوض نهر النيل يعد وحدة هيدروليكية واحدة يجب أن تدار من القاهرة ، فراح الممسكون بهذا الملف يطمئنون أنفسهم باستحالة تنفيذ أثيوبيا لسدود كبرى تؤثر على إستراتيجية النهر في تدفقه الطبيعي من الجنوب إلى الشمال، مؤكدين أنها لو فعلت لغرقت مدنها وقراها. وهكذا ظلت مصر تعالج الموقف بنفس أسلوب الوالي أحمد باشا " العثمانللي " بحسبان الأمر لا يعدو مجرد "تهويش" من جانب النظام الأثيوبي يعلق به في رقبة مصر عجزه إزاء الحركات الانفصالية داخل أثيوبيا ونشاط ثوار إقليم أوجادين المسلوخ من الصومال لصالح الأحباش.
ومع ذلك نجحت إسرائيل في الوقيعة بين مصر وأثيوبيا خاصة حين سمحت الأخيرة للفلاشا (اليهود الأحباش ) بالهجرة إلى إسرائيل من باب رد الجميل، إضافة إلى إيغار صدر الرئيس الأثيوبي الراحل زيناوي لاستدراج مصر المحروسة للحرب بعبارات " هتلرية " بذيئة ، وربما بسبب هاجس احتمال تأييد مصر للثوار، طفق زيناوى يصيح بأن مصر لا يمكنها أن تكسب حربًا مع إثيوبيا على مياه نهر النيل، وإنه لا يخشى أن يغزو المصريون إثيوبيا، مردداً إنه لم يعش أحد ممن حاولوا ذلك قبلاً ليحكى نتيجة فعلته ! ... إلى آخر تلك العبارات الملتهبة التي تذكّر بعبارة الملك تاكيلا هايمونت عام 1686 .
بهذا شهدت الفترة السابقة لثورة 25 يناير أزمات دبلوماسية متكررة بين القاهرة وأديس أبابا بسبب مبادرة دول حوض النيل NBI التي تهدف إلى تحجيم حصة مصر والسودان من مياه النيل جراء مشروعات بناء السدود في أثيوبيا وأوغندة ورواندا ، لكن بعد ثورة يناير هدأت الأزمة قليلا خاصة بعد زيارة الوفد الشعبي المصري لإثيوبيا ولقائه زيناوي، وهى الزيارة التي أعقبتها زيارة قام بها زيناوي نفسه للقاهرة ، وكانت بالمناسبة زيارة ً لم تهش لها إسرائيل بطبيعة الحال .
وحتى الأمس القريب كان لنا أن نغمغم : لعل الأزمة مع أثيوبيا وإن كانت قد بردت وحتى قبل وفاة الرئيس زيناوي إلا أن النار ما زالت تحت الرماد . وكنا نهمس : إنه وعلى خلاف المسار الأثيوبي رأينا الرئيس البوروندي بيير كورونزيزا يبعث إلينا برسالة طمأنة خلاصتها استحالة إضرار بلاده بمصر، وكنا نشقشق : ثمة شواهد على أن تنزانيا ربما تعيد النظر في اتفاقية عنتيبي المتنكرة لحقوق مصر التاريخية في مياه النيل( وهو ما لم يحدث فعلاً ) وكنا نتحاكم قائلين : ليكن كل هذا أو حتى بعضه صحيحاً، لكن حقائق الأمن القومي ينبغي أن تلفت إلى ضرورة استمرار تحرك السياسة المصرية باتجاه تجسير الهوة التي نشأت عن تراخي علاقاتنا بالأخوة الأفارقة منذ اتفاقات كامب ديفيد المشئومة مع إسرائيل. ولكن ماذا سنقول اليوم وقد باغتتنا أثيوبيا ببدء العمل في إنشاء سد النهضة محولةً مسار النيل الأزرق ، ويا له من فعل .. هو أقرب ما يكون إلى استدراج مصر لإعلان الحرب عليها .

وفي كل ما تقدم من رصد لأحوال العلاقات المصرية الأفريقية – سيما الأثيوبية - لا يمكن للفكر الاستراتيجي أن يتجاهل مستهدفات إسرائيل في جر مصر إلى الحرب ضدا ً على هذا الطرف أو ذاك في قارتنا السمراء ، وهو ما فشلت فيه إسرائيل حتى الآن ، لكنه الفشل الذي لا يوقف صاحبه عن معاودة الكرَّة ، لعل وعسى أن يقدم نظام حكم مصري غير رشيد – وما أكثر هذه الأنظمة في مصر – هرباً من مشاكله الداخلية ، إلى الفرار للأمام بشن حرب مياه في إفريقيا!
نعم يمكن لمصر بضبط النفس إبعاد شبح الحرب ، وليكن أننا سنحتفظ لسنوات قادمة بحصة الـ ,555 مليار متر مكعب كما هي دون أن تنتقص ولو بحيل فنية مبتكرة ؛ ولكن ماذا عندما نجتاز حاجز المائة مليون نسمة ؟! المؤكد أن إسرائيل ستنجح في دفعنا إلى الحرب في إفريقيا ، ما لم نعمل منذ الآن على تطوير الأداء الاقتصادي بعامة والهيدروليكي بوجه خاص ، متجهين إلى مشاريع صنع الخلايا الشمسية استخلاصاً للطاقة لتحلية مياه البحر – كما فعلت المملكة السعودية – فضلا ً عن بناء المفاعل النووية للأغراض السلمية ، وعلى رأسها توفير المياه والكهرباء، فذلك هو الأجدر بالتفكير والتدبر.
فإذا كانت هذه بعض مطالب إسرائيل للإيقاع بمصر فما هو المطلب الآجل الذي تنشده أمريكا – بخلاف المطالب الإستراتيجية التي ذكرناها آنفاً ؟
الولايات المتحدة الأمريكية مطلبها الواضح هو تقزيم مصر بعد فشلها في تقسيم البلد إلى دويلات أربع بمعاونة التنظيم الأخواني الذي أسقطته جماهير الشعب المصري في الثلاثين من يونيو 2013 والسبب في هذا المطلب الأمريكي هو نفسه السبب الذي دفع دول أوربا في القرن التاسع عشر إلى تقزيم الدور المصري وإجهاض مشروع الباشا محمد علي الرامي لاختراق الحصار الذي فرضته " المركزية الأوربية " على مناطق الأطراف . وهو نفسه السبب الذي دعا " المركزية الأوربية " لإجهاض المشروع الناصري ( الطبعة المعدلة لمشروع محمد على باشا ) وفي هذه المرة نفذت أوربا ومعها أمريكا ضربتها لـ " البكباشى " بالوكالة ( = إسرائيل ) وذلك لضمان بقاء مصر ومن ورائها المنطقة العربية في إطار المستهلكين للمنتج الغربي .
تلك هي التحديات التاريخية الكبرى التي تواجه مصر والعرب جميعا ، ويكفي أن نذكر أن سد النهضة الأثيوبي في حالة إتمامه لن يكون مؤثراً على مصر وحدها بالدمار والإفقار ، بل وأيضاً على المملكة السعودية حيث تصبح الكعبة المشرفة ذاتها قابلة للانهيار لا قدر الله ، جراء التصدعات الجيولوجية المنتظرة كتداعيات مؤكدة لبناء هذا السد الخطِر.
ويبقى القول إن العمل على إيقاف هذا السد الكارثي ، قد صار ضرورة وطنية وقومية لا مندوحة عنه . وبالطبع ثمة بدائل كثيرة عن شن الحرب على أثيوبيا ، بدائل قانونية وثقافية وإعلامية ابدأ بالحشد الجاد لكل القوى الفاعلة لكي تنطبق من يوم 14 مارس 2014 اليوم العالمي للاحتفال بنهر النيل ، وذلك بإنتاج أفلام سينمائية وثائقية ، وبرامج تليفزيونية مكثفة بترتيبات خاصة مع الجهات السيادية العاملة على هذا الملف ، فضلا عن شحذ همم الأحزاب السياسية لتوجه شبابها نحو التواصل مع الموقع العالمي International Reveres لشن حملات تهدف إلى تبصير شباب إفريقيا والعالم المتحضر بالكوارث المحتملة بيئياً وإنسانياً جراء استمرار أثيوبيا في هذا العمل المعادي للطبيعة وللبشر .
أما الحكومة المصرية فعليها من اليوم وليس الغد إنشاء مفوضية باسم حماية نهر النيل تتولى مسئوليتها شخصية وطنية خبيرة ذات علاقات دولية ، وربما لا نجاوز القصد لو رشحنا لهذه المهمة المستشارة هايدي فاروق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هل من مجيب؟
خالد سالم ( 2014 / 2 / 19 - 23:04 )
الأستاذ بندق أشكرك على دق ناقوس الخطر مرة أخرى....
مشكلة مياه النيل سبق وأن حذر منها خبراء كثيرون، وقالوا إن الحرب القادمة في الشرق الأوسط ستكون بسبب المياه، ويبدو أننا هذا المرة سنضطر مضطرين التوجه صوب الجنوب للحفاظ على ما بقي لنا من مياه النيل التي شحت في الدلتا وفي المصب بشكل مقلق. ومع كل هذا فنحن نلعب الكراسي الموسيقية منذ عقود صراعًا على سدة السلطة بينما البلد تنضب مياهه وتصعد مياه المتوسط في مجرى أفرع ورياحات النيل
في الدلتا إلى مسافة عشر كيلومترات.
لعمري ما شهدت حكامًا جرفوا بلدهم وشاركوا في تقزيمه مثلما يحدث في مصر كي يكنزوا في المصارف مليارات لن يحملوها إلى الجحيم.
.

اخر الافلام

.. بايدن يهدد بإيقاف شحنات الأسلحة إلى إسرائيل ما تبعات هذه الخ


.. أسو تتحدى فهد في معرفة كلمة -غايتو- ????




.. مقتل أكثر من 100 شخص.. برازيليون تحت صدمة قوة الفيضانات


.. -لعنة الهجرة-.. مهاجرون عائدون إلى كوت ديفوار بين الخيبة وال




.. تحديات بعد صدور نتائج الانتخابات الرئاسية في تشاد.. هل تتجدد