الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيكولوجية الإنتاج الإبداعي و المرض النفسي: الشاعر أرنست هرباك نموذجا

حاتم الشلغمي

2014 / 2 / 19
الادب والفن


في كتابه "النظرية العامة للأمراض العصابية" أعطى فرويد تحليلا موسعا للتساؤل هل توجد علاقة بين الإبداع و المرض النفسي, اذ يشير فرويد إلى إن المرضى تشغل بالهم أفكار لاتهمهم في الواقع ، وتمثل في أنفسهم محرضات تبدو لهم غريبة شاذة ، ويجدون أنفسهم مدفوعين إلى إعمال لا يعود إليهم الإتيان بها بأي متعة ، لكنهم لا يستطيعون منها فكاكا ، وقد تكون الأفكار المتسلطة عارية من المعنى بحد ذاتها ، أو عديمة الأهمية بالنسبة إلى الشخص المعنى ، غالبا ما تكون سخيفة وعبثية وتستثير في كل الأحوال نشاطا عقليا مكثفا ينهك المريض ولا يقوم به إلا على كره ومضض ، فهو مضطر رغما عنه إلى التفحص والتقصي وإعمال الفكر.
في هذا الإطار يجسّد الشاعر النمساوي أرنست هرباك* (1920-1991) مثالا و نموذجا متميزا لتشكّل العلاقة بين العمل الإبداعي و المرض النفسي من خلال رابط متداخل.
ففي قراءتنا لسيرة هرباك الذاتية يتجلّى لنا قول الكاتب و المتخصص في العلم النفسي "فيليب ساتديلوم" في كتابه الشهير "المرض و الإبداع" بأن أهم الخبرات المرتبطة بالإبداع هي خبرة الألم...
أرنست هرباك الذي قضّى معظم فترات حياته في مصحة نفسية بالنمسا على اثر إصابته بمرض خلقي سبّب له إزعاجا و ألما نفسيا عميقا لم يمكّنه من المواصلة في أي مجال دراسي أو مهني. و لكن رغم هذا الشرخ الذي تمكّن منه و الذي أوصله حتى إلى حالات الشيزوفرينيا, تمكّن هرباك من رفع التحدّي –بوعي أو بدون وعي- من خلال فعل التفكير و نظم مئات القصائد, الشيء الذي مكّنه من افتكاك موقعه الرمزي في الساحة الأدبية.
يقول الشاعر "نوفاليس" الذي رحل عن سن لم يتجاوز 28 ربيعا "لا يمكن أن يكون المرض وسيلة للتكاليف الأرقى حساسية, حساسية قوية يمكن تعويلها إلى قوى أعلى" و هذا القول يتماشى مع المدرسة الرومنطيقية الألمانية في إن المعاناة هي جوهر الإبداع, عكس ما يتبناه شعراء المدرسة الرومنطيقية الانكليزية الذين يعتبرون إن نجاح العمل الشعري يقوم على الصحة الجيدة للشاعر.
فالعمل الإبداعي –بحسب نوفاليس- إذن هو نتيجة لانغماس المبدع في حساسية مرضية ليس لها مخرج سوى نجاح ذلك الانجاز. أبعد من هذا التعبير نجد قولة الروائي مارسيل بروست الذي وضعه تقييم النقاد في قمة الإبداع الروائي في العصر الحديث خصوصا في تقييم روايته "البحث عن الزمن الضائع" إن كل شيء عظيم في هذا العالم أبدعه العصابيون.
فهرباك الذي لم يكمل دراسته و الذي لم يتمكن أبدا من قراءة كتب أدبية أو نصوص نثرية أو شعرية, تمكّن من الانخراط بلا اختيار في منظومة "الفن الفطري" الذي كان طبيبه المباشر د. ليو نفراتيل سببا رئيسا في ذلك. فكل ما كتبه ارنست هرباك من قصائد أو نصوص كانت –برغم أنها من توجيهات طبيبه- بصفة تلقائية فطرية غير ملتزمة بشروط أو ضوابط شعرية تقليدية كانت أو تجديدية. و لكن كانت انتاجاته الذي قام طبيبه المباشر بجمعها و نشرها في كتاب يحمل اسم "الانفصام و اللغة" و قد ضم 83 قصيدة و ديوان تم نشره سنة 1977 تحت عنوان "نصوص الكسندر الشعرية" محل إعجاب لدى عموم الشعراء في زمنه و لاقت قصائده صدى و قبولا واسعا لدى عموم المهتمين بالشأن الأدبي في العالم.
إن الإنتاج الإبداعي ليس سليل الصحة الذهنية أو العقلية فقط فلحظة الإبداع هي نتاج وعي بعينه يخالج العقل المبدع. فليس من دوافع الإحراج إن نسم العقل المبدع بالمضطرب لان اغلب ما نراه من إنتاج إبداعي لدى الكثير من المبدعين هو نتاج لاضطرابات معينة أو ألم معين و هذا نجده في سيرة عدد كبير جدا من المبدعين و المفكّرين و خصوصا المثقّفين و هم الأكثر عرضة للاضطرابات النفسية التي عادة ما تكون سليلة وعي و إدراك مختلف لواقع معاش أو لإحساسات معينة و مختلفة بظروف بعينها. ففي كل الحالات يكون الألم أو الشعور بذلك الهّم الإنساني و فعل الإدراك بالقضية الإنسانية قادرا في أغلب الأحيان على انتاج وعي مختلف بعيد عن الوعي الجمعي فيكون نتاجا للحظة الانجاز الإبداعي.
لقد كان ارنست هرباك رمزا حيا و حقيقيا للتداخل بين العمل الإبداعي و المرض النفسي في منظومة الفن الفطري و هذا أكثر ما يميز هذا الشاعر في تجربته الذاتية و الشعرية, فكان خير مثال على أن الإبداع متجاوز للاضطرابات و الإمراض و الإعاقات و أن لحظة الإبداع هي تجسيد للحظة الوعي الذاتي في قراءة و تصوير كل الأفكار المحيطة بالعقل و النفس.
و خير ما أختم به مداخلتي هي كلمات للشاعر ارنست هرباك:
الأمل
لباقة الأمل
أمل الحظ السعيد.
الحذاء يضغط بقوة
الأمل يضغط على القلب
القلب يوجع.
أبدي هو الموت.
الذي هو جمال للأمل
لوعة الغربة
أنا لا أعاني من الحنين فقط
وإنما أكثر من هذا .
الحنين لوعة نعجز عن وصفها،
إذ لا يستطيع الإنسان المكوث خارجا،
أنا أريد العودة إلى البيت.

ألقيت هذه المداخلة في تظاهرة "تنسى كأنّك لم تكن" احياءًَ لذكرى الشاعر أرنست هرباك – نادي زوربا للفلسفة و الفكر و الفنون 25-01-2014 سوسة – تونس.
• تجدون تعريفا للشاعر أرنست هرباك على صفحة الويكيبيديا. http://fr.wikipedia.org/wiki/Ernst_Herbeck








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم


.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في




.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش