الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عمادة آسيا جبّار

صبحي حديدي

2005 / 6 / 28
الادب والفن


ليس أمراً عابراً أن تُنتخب أديبة جزائرية لعضوية الأكاديمية الفرنسية، هذا الصرح الثقافي العريق العتيق الذي تأسس سنة 1635 في عهد لويس الثاني عشر، بمبادرة من الكردينال الشهير ريشليو (ذاك الذي صوّره ألكسندر دوماس في «الفرسان الثلاثة» على نحو فيه الكثير من الإجحاف والإنتقاص). وأن تكون آسيا جبّار هي هذا العضو الجديد الذي يتضمّ إلى رهط الـ «الخالدين»، كما يسمّون أعضاء الأكاديمية، أمر يضيف الكثير من المغزى الخاصّ إلى حدث متميّز في حدّ ذاته.
... ويضيف حسّ المفارقة أيضاً!
صحيح أنّ جبّار تكتب بالفرنسية، وللأكاديمية مهمّة أولى هي «السهر على اللغة الفرنسية» وتطوير الفرنكوفونية، غير أنّ معظم أعمال جبّار الروائية تناقش هذا التفصيل الجوهري بالذات: مشكلة الكتابة بالفرنسية عند أبناء المستعمرات السابقة، وطبيعة الإشكاليات التي تنجم عن هذا الاستخدام اللغوي شبه القسري في الواقع. الحال تصبح أكثر انطواء على التوتّر الثقافي حين يميل هذا العمل أو ذاك إلى استعادة الذاكرة الوطنية الجزائرية، حيث لا مناص من إعادة تمثيل صورة الإستعمار الفرنسي في أشكاله السياسية والعسكرية والثقافية، وسرد وإعادة سرد وقائع المقاومة في المستويات ذاتها، السياسية والعسكرية والثقافية.
وفي روايتها البديعة «الحبّ، الفانتازيا»، التي صدرت بالفرنسية سنة 1985، تستعيد جبّار حادثة رهيبة كانت في الآن ذاته قد دشّنت أوّل التفاصيل الدامية من تاريخ غزو الجزائر. والحادثة: عدد من المقاومين الجزائريين البربر، ممّن رفضوا الإستسلام للغزاة الفرنسيين، لجأوا إلى الكهوف القريبة من قرية القنطرة، فاستخدم الضابط الفرنسي بيليسييه سلاح الدخان لإخراجهم منها، فقضوا خنقاً، وكان عددهم 1500 من النساء والرجال والأطفال، مع مواشيهم.
وفي سردها لهذه الواقعة الوحشية، والتي ستتكرر بعد شهرين على يد الكولونيل سانت ـ آرنو، تقتبس جبّار شهادة ضابط إسباني روى أن بيليسييه أمر جنوده بإخراج ستمائة جثة من ظلام الكهوف إلى ضياء الشمس. وتضيف إليها مقاطع من تقرير رسمي كان بيليسييه نفسه ينوي رفعه إلى رؤسائه، وتقول: «بيليسييه، الذي ينطق الآن بالنيابة عن هذا الألم الطويل، وبالنيابة عن 1500 جثة مدفونة أسفل قرية القنطرة، وبالنيابة عن المواشي التي لم تتوقف عن إطلاق ثغاء الموت، سلَّّمَني تقريره وأخذت منه هذا اللوح الذي أخطّ عليه، بدوري، مشاعر الألم المتفحمة التي عرفها أسلافي».
ولأنها تستخدم لغة المستعمِر لكي تسجّل وحشيته وبعض الذاكرة الدموية التي خلّفها، فإن كتابة جبّار بتلك اللغة لا بدّ أن تأخذ صفة الإشكالية المفتوحة. إنها تضع نفسها في موقع إبنة البلد التي يجب أن تتوافق مع تاريخ بلدها الجزائر، ومع نفسها كذاتٍ عربية مؤنثة تكتب بالفرنسية، عن النساء العربيات اللواتي لا يتكلمن الفرنسية، وعن رجال عرب حجبوا عن النساء حقّ الكلام بالأصالة عن أنفسهن. وجبّار تقول: «بذلك فإن اللغة [الفرنسية] التي جهد والدي كثيراً لكي أتعلمها، تخدم الآن كوسيط لسرد التاريخ، وهي منذ الآن علامة مزدوجة متناقضة تهيمن على عَمَادتي في الحياة».
وفي نهايات الرواية لا تترك جبّار ظلاً للشك في طبيعة هذا الإنقسام الثنائي: «حين أكتب وأقرأ بلغة أجنبية، فإن جسدي يسافر إلى فضاء تدميري. الكلمات التي أستخدمها لا تعكس واقعاً من لحم ودم. وجميع ما تعلمته في القراءة والكتابة يقذف بي نحو موقع ثنائي الإنقسام. وضربة الحظ هذه تضعني عند حافة الإنهيار». تلك الثنائية في استخدام اللغة، أو ذلك التعارض بين الإنتماء والإقتلاع وبين الذات والآخر، يختزل المتكلم إلى كائن يرتكز تشكيل هوّيته على حقلين لغويين وثقافيين منفصلين، يتكاملان في ترسيخ الثنائية وتجريد الهوية من سياقاتها التاريخية والإجتماعية والثقافية والسيكولوجية.
وبين طرائق جبّار في إجراء التصالح ضمن التعارض، أنها مثلاً تلجأ إلى الكاتب والرسّام والمستشرق الفرنسي أوجين فرومنتان (1820ـ 1876) الذي يهديها، مجازياً بالطبع، «يداً غير منتظرة، يد امرأة مجهولة لم يكن بمقدوره أن يرسمها. إنه يصف، على نحو شرّير، كيف غادر الواحة بعد ستة أشهر من مذبحة الكهوف، وأثناء مسيره عثر في التراب على يد مبتورة لامرأة جزائرية مجهولة. ولكنه رمي اليد وتابع سيره». وتكمل جبّار: «لقد التقطتُ تلك اليد الحيّة، يد البَتْر والذاكرة، وحاولت أن أضع فيها القلم alamِQ (الكلام، الكتابة)». أو، في مثال آخر، استعادة ماريه ديزيريه بولين رولان، المعروفة اختصاراً باسم «بولين» (1805 ـ 1852)، وهي امرأة ثورية سان ـ سيمونية، ونسوية داعية إلى السلام، نفاها نابليون إلى الجزائر بعد ثورة 1848 فعاشت في كنف الجزائريات كواحدة منهنّ، وشاركتهنّ ظروف السجن القاسية.
أيكون هذا التماهي بالذات هو «المنفذ» الذي تحدّث عنه فرانز فانون في وصفه لسيكولوجية المقهور، الذي يلقي بنفسه، «بيأس الغريق»، على ثقافة القاهر، أو على هذا أو ذاك من عناصرها الإيجابية المضيئة في أقلّ تقدير؟ أم أنّ العكس هو الصحيح: في ضوء انتخاب جبّار للأكاديمية الفرنسية، القاهر هو الذي يسعى اليوم إلى استرداد المقهور؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضحية جديدة لحرب التجويع في غزة.. استشهاد الطفل -عزام الشاعر-


.. الناقد الفني أسامة ألفا: العلاقات بين النجوم والمشاهير قد تف




.. الناقد الفني أسامة ألفا يفسر وجود الشائعات حول علاقة بيلنغها


.. الناقد الفني أسامة ألفا: السوشيال ميديا أظهرت نوع جديد من ال




.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي