الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تكريس القطيعة مع الماضي: فيتنام مثالا

عبدالله المدني

2005 / 6 / 28
العولمة وتطورات العالم المعاصر


في اتجاه معاكس كليا لما تعتمده كوريا الشمالية من سياسات مشاغبة الجيران واستعداء الأمريكيين و تجويع الشعب و اللهاث خلف القدرات النووية و الباليستية على حساب التنمية الاقتصادية ، تواصل فيتنام ، زميلتها في العقيدة الشيوعية، خطواتها نحو المزيد من الإصلاح و البناء و الانفتاح على العالم الخارجي و توثيق الروابط مع واشنطون وفق سياسات عاقلة و بعيدة عن الشعارات و المماحكات و التحريض و الانتقام من الأعداء التاريخيين.

وبطبيعة الحال فان النظام الحاكم في هانوي يلزمه عمل الكثير في مجال الحريات وحقوق الإنسان و الشفافية لإسباغ المصداقية على نفسه، غير انه على الأقل بدأ مسيرة "التجديد" أو ما أطلق عليها "دوا موا" منذ عام 1986 حينما قرر الحزب الشيوعي الحاكم إجراء إصلاحات اقتصادية والتخلي عن سياسات التخطيط المركزي لصالح اقتصاديات السوق. هذه المسيرة التي تزامنت مع تدشين البروسترويكا و الغلاسنوست في الاتحاد السوفيتي سرعان ما خلقت ظروفا جديدة ساعدت فيتنام على الخروج من عزلتها و الاندماج في الاقتصاد العالمي وفي التكتلات الإقليمية مثل منظومة آسيان، لتتحول في سنوات قليلة إلى ورشة عمل كبيرة وقبلة للاستثمارات الأجنبية و واحدة من أسرع الاقتصاديات نموا. وتشير إحصائيات العام الماضي إلى وصول معدلات النمو إلى 7.7 بالمئة وانخفاض معدلات التضخم من 300 بالمئة في 1987 إلى حوالي 9.5 بالمئة وارتفاع معدلات الدخول الفردية من 220 دولار في عام 1994 إلى 550 دولار مع تضاعف حجم الاستثمارات 3 مرات وتضاعف حجم المدخرات خمس مرات خلال 2004. إلى ذلك تحولت فيتنام من دولة مستوردة للطعام إلى ثاني اكبر مصدر للأرز في العالم.

وهي لئن آثرت ، بعد انتصارها على الأمريكيين و توحيد البلاد، أن تجمد اتصالاتها لنحو عقد و نصف مع واشنطون - و من دون الانشغال كثيرا أو قليلا بالانتقام من الأخيرة أو التحريض ضدها فيما عدا ما فرضه تحالفها الاستراتيجي مع موسكو أثناء حقبة الحرب الباردة- فإنها بسقوط الاتحاد السوفيتي و ما أحدثه من تداعيات ومتغيرات عالمية توجهت من دون تأخير أو مراهنة على المجهول إلى تطبيع العلاقة مع عدوها التاريخي في واشنطون.

وهكذا شهدت العلاقات الأمريكية-الفيتنامية ابتداء من عام 1991 تطورات ايجابية متسارعة ، شملت رفع الحظر الأمريكي عن فيتنام في فبراير 1994 وإقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة في أغسطس 1995 و تبادل السفراء في مايو 1997 ، وحل مسألة الديون الأمريكية التي ورثتها حكومة هانوي من نظام سايغون ، و تبادل الزيارات على المستوى الوزاري ، و الاتفاق على السماح لمؤسسة الاستثمار الأمريكية الخاصة بالعمل في فيتنام، ودعم واشنطون لعضوية فيتنام في منتدى آسيا/ الباسيفيكي (أيبك).

على أن التطورات الأكثر أهمية جاءت في أعقاب زيارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الرسمية لهانوي في أكتوبر 2000 . فهذه الزيارة التاريخية غير المسبوقة، ورغم كل ما قيل فيها لجهة عدم اشتمالها على اعتذار رسمي صريح للفيتناميين عما سببته الآلة الحربية الأمريكية من مآسي و فواجع و تدمير خلال سنوات الحرب ، دشنت لمرحلة جديدة قوامها إسدال الستار نهائيا على الماضي و التركيز على المستقبل. و لعل أفضل دليل على ذلك أن حقبة ما بعد الزيارة شهدت تدفقا اكبر للمساعدات و الهبات والاستثمارات الأمريكية على فيتنام ، و تعاونا أوسع في المجالات الدبلوماسية والاقتصادية و التجارية و الثقافية و التعليمية و الصحية و العلمية، ناهيك عن زيادة وتيرة التعاون الذي بدأ منذ عام 1988 بين الجانبين لتحديد مصير مئات الجنود الأمريكيين و الفيتناميين المفقودين منذ الحرب الفيتنامية أو التعرف على رفاتهم. بل تعدى الأمر إلى التنسيق و التعاون الاستخباراتي و الأمني ضد أعمال الإرهاب والقرصنة و التهريب والاتجار بالمخدرات و تبييض الأموال ، و إلى زيارات متكررة للأساطيل الحربية الأمريكية إلى الموانئ الفيتنامية ابتداء من نوفمبر 2003 .

و لعل من أهم ما أنجز حتى الآن ، اتفاقية التجارة بين البلدين التي دخلت حيز التنفيذ في ديسمبر 2001. هذه الاتفاقية بما احتوته من مضامين حول رفع الحواجز الجمركية وحماية الاستثمارات و حقوق الملكية الفكرية و اعتماد الشفافية أحدثت ثورة في النظام التجاري الفيتنامي و ساهمت إلى حد كبير في تنمية التبادل التجاري في الاتجاهين بدليل تضاعف حجمه عشرين مرة عما كان عليه الحال في عام 1995 ، و ارتفاعه من 1.5 بليون دولار في عام 2001 إلى 6.4 بليون دولار في العام الماضي. و تعتبر الولايات المتحدة اليوم السوق الأهم و الأكبر لصادرات فيتنام من الأقمشة و الأسماك والأثاث الخشبي، حيث ارتفعت عوائد الأخيرة منها من 800 مليون دولار في عام 2001 إلى 5 بلايين دولار في العام الماضي.

ومن هنا ، اعتبرت زيارة رئيس الحكومة الفيتنامية فان فان خاي في الأسبوع الماضي للولايات المتحدة تكريسا جديدا لسياسة فيتنام الرامية للقطيعة مع الماضي ، وتجديدا لرغبتها في التحول إلى دولة مسالمة و مستقرة لا يشغلها سوى هموم التنمية و الاندماج في الاقتصاد العالمي. فأن يحل في البيت الأبيض الرجل السبعيني الذي كان ذات يوم ضمن مهندسي الهجمات ضد القوات الأمريكية و كان قبل ذلك من رموز الشبيبة الثورية المقاتلة للاستعمار الفرنسي ، هو بلا شك حدث مثير يتساوى في أهميته ويختلف في تفاصيله مع حدث زيارة بيل كيلنتون ( الذي تهرب من أداء الخدمة العسكرية كيلا يذهب إلى فيتنام محاربا) إلى هانوي.

ويمكن التعرف أكثر على أهمية هذه الزيارة الأولى من نوعها لرئيس وزراء فيتنامي إلى الأراضي الأمريكية منذ سقوط سايغون في ابريل 1975 وقيام فيتنام الموحدة في يوليو 1976 ، حينما نتعرف على أجندتها التي احتوت على زيارة الضيف إلى أربع مدن ، كان له في كل واحدة غرض محدد.

فزيارته إلى سياتل كانت من اجل التوقيع على شراء أربع طائرات مدنية من طراز بوينغ 787 لتحديث أسطول الناقلة الوطنية من اجل جعل الأخيرة أكثر قدرة على مواجهة متطلبات النهضة السياحية الراهنة ، خاصة في ظل تزايد أعداد السواح الأمريكيين إلى فيتنام في السنوات الأخيرة (نحو 247 ألف سائح في العام الماضي فقط) و استئناف الرحلات الجوية المباشرة ما بين مدينتي هوشي منه و سان فرانسيسكو في العام الماضي من بعد انقطاع دام 30 عاما. وفي سياتل أيضا حرص المسئول الفيتنامي على الالتقاء بعملاق صناعة البرمجيات بيل غيتس من اجل تشجيعه على الاستثمار في بلاده و توقيع اتفاقية معه حول تدريب الكوادر الحكومية الفيتنامية ضمن خطة طموحة للتنمية البشرية.

و زيارته إلى بوسطون ربما أراد منها التأكيد مجددا للأمريكيين أن فيتنام لم تعد خصما و إنما نسيت الماضي و عادت إلى تبني ذات الخطاب الذي حمله زعيمها المؤسس هوشي منه يوم أن زار المدينة في أوائل القرن المنصرم طالبا مساعدة الولايات المتحدة من اجل التحرير و البناء و مشيدا بعظمة الأمة الأمريكية و نضالها في سبيل الحرية و الوحدة والتقدم و الرخاء.

وزيارته إلى نيويورك كانت بهدف تشجيع رجال المال و الأعمال الأمريكيين على القدوم إلى فيتنام كمستثمرين ووضعهم في صورة الحوافز و الفرص المتوفرة هناك والإطلاع منهم على اشتراطاتهم و طلباتهم.

أما في العاصمة واشنطون ، فقد وقع الضيف على اتفاقيات جديدة مع الأمريكيين حول التعاون الزراعي و البحري و تبادل المعلومات المخابراتية و الأمنية و استئناف عمليات تبني الأطفال الفيتناميين من قبل العائلات الأمريكية التي توقفت في عام 2002، ناهيك عن اتفاقية ملفتة للنظر وتعكس مدى التطور الحاصل في روابط البلدين هي تلك الخاصة بإرسال بعثات عسكرية فيتنامية إلى المعاهد الطبية الأمريكية و معاهد اللغة الإنجليزية. غير أن الأهم من ذلك كان التباحث حول انضمام فيتنام إلى منظمة التجارة العالمية والذي تريده هانوي سريعا و تعول فيه على تدخل شخصي من الرئيس الأمريكي بوش ، فيما تبدو واشنطون مصرة على تحقيق تقدم ما أولا في مجالات الحريات و حقوق الإنسان في فيتنام. و هذا الموقف الأمريكي لئن كان متمشيا مع سياسات الإدارة الجمهورية الحالية في الضغط من اجل الإصلاح السياسي في العالم الثالث، فانه أيضا صدى لمطالب الأمريكيين من اصل فيتنامي و الذين يقدر عددهم بأكثر من مليون نسمة، جلهم من المعارضين للنظام الشيوعي في هانوي ، بدليل تظاهر الكثيرين منهم ضد زيارة فان فان خاي وتشبيههم إياه بصدام حسين ، في وقت كان الرجل يسعى فيه إلى ترغيبهم بالاستثمار في موطنهم الأصلي و الاستعانة بخبراتهم و مؤهلاتهم.

د. عبدالله المدني
*باحث أكاديمي و خبير في الشئون الآسيوية
تاريخ المادة : 26 يونيو 2005
البريد الالكتروني: [email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية في بريطانيا.. هل باتت أيام ريشي سوناك م


.. نحو ذكاء اصطناعي من نوع جديد؟ باحثون صينيون يبتكرون روبوت بج




.. رياضيو تونس.. تركيز وتدريب وتوتر استعدادا لألعاب باريس الأول


.. حزب الله: حرب الجنوب تنتهي مع إعلان وقف تام لإطلاق النار في




.. كيف جرت عملية اغتيال القائد في حزب الله اللبناني؟