الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إختيار....

عائشة مشيش

2014 / 2 / 20
الادب والفن


اختيار

صعد إلى سطع المنزل هارباً ، منزعجاً ، كاتماً غيظه في صدره ، ناشداً الهدوء حتى يستطيع أن يرتب أفكاره ...
وقف برهة يستجمع قواه ، كان صدره يعلو ويهبط من تأثير تسلقه درج السطح ومن تأثير ما يعانيه ، التقط أنفاسه ثم مشى إلى حافة السطح ليحلق بشروده وقد يمم وجهه شطر ضفاف الحنين..!
نظر إلى تلك السهول الممتدة أمامه في نظام كوني بديع ، وأستنشق بعض الهواء محاولاً استرجاع هدوئه ....
كيف صارت حياته ...؟ كيف وجد نفسه فجأة معها في بيت واحد ؟ لم يعرفها من قبل ولم يخترها..؟ كانت اختيار أمه ... !! ..
كل شيء في حياته هو من اختيار أمه..
لم يختر نوع دراسته ..ولم يختر وظيفته ولم يختر زوجته ...
عُيَّن في مدينة نائية صغيرة ذات جو باردٍ شتاءً وحاراً صيفاً ... حين أقترب موعد التحاقه بعمله فوجئ بأمه وقد اختارت له طفلة !! زوَّجته بطفلة قائلة : "هيا اعجنها وشكِّلها كما تريد." ...
استند على حائط السطح بينما الهواء البارد يلفح وجهه ، تنهد ثم ابتعد ببصره كأنه يبحث عن طريقه إلى مدينته التي افتقدها ، افتقد طرقاتها وأزقتها ... كم اشتاق إليها ....هكذا قال...
كانت ليلة عرسه خفيفة لا تضم غير عائلته وعائلة زوجته وبعض الجيران، ثم فجأة وجد نفسه وجهاً لوجه مع أول أنثى ينفرد بها في حياته كانت خائفة ترتعد، صفرة الموت على وجهها رغم كل الألوان التي دهنوا بها ذلك الوجه الصغير، اقترب منها بلطف، ابتعدت وهي جالسة وقدماها ترتعدان فقد كان ثوبها يرقص فوقهما من اهتزازهما.. قال لها لا تخافي ..اهدئي ..
بدأت عبراتها تنزل كنهر فوق وجنتيها ، تمتمت بخوف : " أريد أمي ." ابتسم وقال لها:
" أنظري إليَّ ، أنت زوجتي الآن ، أنا أهلك ." ازداد بكاؤها فلم يدرِ ما عليه فعله أمام خوفها وبكائها ، نهض وبدأ يمشي ذهاباً وإياباً وهو يسترق النظر إليها ، كانت جميلةً ، عيناها واسعتان وربما الخوف زاد من اتساعهما ، اشتد الحزن في قلبه حتى شدَّ نياطه وراح ينتشرعبر الساحات والمسافات المأهولة ، توقف برهة بعد أن خَفَتَ صوتها وكأنها تعبت ، كانت تنظر إليه بتوجس وخوف لم يغادرها ، قال لها اصعدي إلى فراشك لتنامي ولا تخافي فسأنام على الأرض .....
أخد غطاء وفرشه على الأرض حتى يطمئنها ، ثم بدأ بخلع ملابسه ، ارتدى بجامته ثم امتد على الأرض بجانب السرير ولم تكن قد اعتلته ، ثم بدأ بالنظر إلى سقف الغرفة دون أن ينظر إليها إلى أن تسللت الى السرير واعتلته ، ثم وضعت رأسها المتعب على مخدة واستكانت إلى أن انتظمت انفاسها ، وراحت في غفوة ..
نهض برفق وأحكم الغطاء عليها ثم أطفأ النور ونام فقد كان التعب قد تمكن منه ....
مشى خطوات في سطح المنزل وهو يتساءل ..ماجدوى كل هذا ...؟
ألم يكن عليه أن يرفض ؟
ألم يتعرض للسخرية من أهله وأمه وهو عاجز عن أن يكون زوجاً لطفلة ...؟
كيف له أن يقترب من هذه اليانعة مثل نبات بري لم يلمس روحها أحد ؟ كيف له أن يغتصب طفولتها ؟ كيف لهم أن يفهموا أنه لا يستطيع ....؟
بعد أيام من زواجه كان عليه أن يلتحق بعمله ، سافر وإياها إلى بيته هذا ، مرت شهور وهو لا يستطيع الاقتراب منها ، كانت دائماً نافرة منه مبتعدة عنه ، كان يعتمد على نفسه في كل شيء إلى أن كان يوم رجع فيه مخموراً إلى بيته ليجدها وقد نامت ، فلم يستطيع أن يهدىء نفسه الجامحة لحظتها ، ارتمى على الفراش بجانبها ممسكاً بها وقد قامت مذعورة كدجاجة في لحظة ذبحها...
صرخت جزعة ، أسكتها مُطبقاً على فمها بفمه ، ارتعدت كطائر جريح ، غرست أظافرها في جسده محاولة إبعاده عنها ، كان وحشاً ، بل كان ذلك الإنسان الذي يدعو طواعية ضد نفسه، في تلك اللحظات المدمرة لفعل الحياة ...
بعد لحظات لم يدرِ كم كانت ، انتبه إليها ، كانت منهارة ودماء على ثوبها وجسدها ، كانت نظراتها ذاهلة ، كانت مثل يرقة كازانتزاكي التي انتحرت لمجرد شعورها بالدفء لتخرج من شرنقتها قبل الأوان ليقتلها البرد ، وسيقتلني البرد حين لا أستطيع حمايتها والحفاظ عليها ، فقد دمرتُها ودمرتُ كلَّ الجمال فينا وسوف يستمر الحال إلى مالا نهاية ...
ليتني أملك مرآة صافية الآن لأرى وجهي، ترى هل هو نفس الوجه الذي كنته قبل هذه الليلة ؟ هذا الوجه المحبط المهزوم من كل شيء أمامه ، والذي كان ولا يزال يتمنى الكثير من الأمنيات التي تبدو مستحيلة ، لكنها الآن أضحت أمام عينيه واضحة المعالم ، يجب أن يقف ليختار مالم يتاح له اختياره من قبل ...
أمام هذه الحيرة الأزلية ، كانت الفتاة مازالت واقفة تبكي وتنتظر ، كان عليه أن يقرر ..
تساءل ..أمام هذه الحيرة القديمة التي تجمعت كلها في كيانه بما يشبه الرعشة التي تسري عند لحظات الاختيارات الحاسمة...ماذا عليَّ أن أفعل..؟
وقف فجأة و كمن مسَّه تيار كهربائي وبداخلِهِ إصرار لتحطيم ذلك الإطار الذي وضعه أولئك الذين أسسوا لانهياره ولانهيار إنسانيته .... !!

عائشة مشيش








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي


.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل




.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي