الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التجربة الجمالية والمكان في الرواية العربية

أسامة غانم
ناقد

(Osama Ghanim)

2014 / 2 / 20
الادب والفن


ان للتجربة الجمالية- المكانية، موقعها الخاص، واثرها العميق، ومدلولاتها المتعددة في الرواية العربية الحديثة.
وبدءا علينا تحديد مفهوم التجربة الجمالية، للعبور منها الى المكان، الذي ادخلها في جسد ذاته، لاستخراج دلالة حلمية من صورة مكانية، فان المكانية في الأدب تتصل بجوهر العمل الأدبي، وهي الصورة الفنية كما يقول عنها غالب هلسا، التي هي (وحدة العارف والتعرف والمعروف)(1)، بمعنى ان الفكر لا يمكن ان يكون غير الوعي بالوجود، والمكان جزء من الوجود، والرواية واحدة من ظواهر الوعي الاجتماعي، ولان الرواية (مجال ظاهراتي بصورة ممتازة، فهي المكان الذي يمكن ان ندرس فيه بأية كيفية يظهر لنا الواقع وبأية كيفية يمكن ان يظهر فيها)(2)، ولان التجربة الجمالية- المكانية توضح علاقة الفرد بالمجتمع، والفرد بالعالم في ظروف تاريخية، ولأنها واحدة من وسائل التعرف على العالم والتأثير عليه، فان هذه التجربة لا تتم خارج حدود الحياة السوسيو- تاريخية.
وهذا يقودنا الى البحث عن العلاقة الجمالية بالمكان، والوحدة الجوهرية بينهما، من خلال موقف جدلي – حواري، ضمن تحليل نصي سوسيولوجي، وحالما نعثر على هذه العلاقة ووحدتهما الجوهرية، ننطلق منها، ليؤسسا الخيال المكاني بين الروائي والقارئ، اي التقاء مخيلة الروائي في مخيلة القارئ، ولا يمكن تخيل رواية بلا مكان، بينما نستطيع تغييب الزمن او تجميده في الرواية، فالزمن يفقد سلطته وهو لا يؤدي الى اي تغيير في بعض الأحيان، ونحن في رواية (أولاد حارتنا) و( شرق المتوسط) و (القربان) ندور في دائرة، ولا سلطة الا لسلطة المكان الروائي، والمكان يترسخ فيها بشدة وعمق، وهي في الوقت ذاته، تتشكل من الوجود الحسي والوجود الفكري في الآثار الفنية فثمة (واقع هو ان الآثار الفنية القيمة حقا، و "الجميلة"، تبقى بعد زوال الظروف التي أدت الى تلك الآثار الفنية)(3) ، وهكذا كانت الرواية العربية تغوص في أعماق الحياة لتحمل هذه الأعماق الى النور والى الشكل والحس الجمالي، وعند دراسة الشروط الاقتصادية – التاريخية- السوسيولوجية للآثار الفنية، ومنها الرواية، نستطيع معرفة صعوباتها في الزمن المعاصر، ولكن (الصعوبة تنحصر في ان نفهم كيف تستطيع هذه الآثار ان تمنحنا اليوم ايضا انفعالات جمالية، وكيف يمكن ان تعتبر حتى اليوم، من بعض الوجوه، مقاييس ونماذج تحتذى ، ولا يمكن مجارتها- ماركس).
حين نقرأ روايات مثل روايات نجيب محفوظ، ومحمد ديب، وعبد الرحمن منيف، وغائب طعمة فرمان، وحليم بركات... نكتشف عبر الكلمات في باطنها ذواتنا الخفية، وهذا الاكتشاف يأتي عبر الذاكرة والمكان، لان الذاكرة تحتفظ دائما بصور الأمكنة، لقد كتب بوريس باسترناك يقول: الإنسان بذاته اخرس، والصورة هي التي تتكلم، لان من الواضح ان الصورة وحدها هي التي تستطيع ان تجاري الطبيعة(4).
وتكون الشخصية الروائية، مندمجة ومرتبطة بالمكان، سواء أكان المكان خياليا او واقعيا، مع كونه (عنصرا جماليا متحركا محسوسا مؤثرا في الأحداث والشخصيات)(5)، وهذا يظهر بأن الرواية العربية، تتميز بالشكل المكاني، أكثر مما تتميز بالشكل ألزماني، والميل نحو المكانية، مما يدفع بالقارئ الى تصور فوري للمكان.
وتتجلى أهمية المكان في كونه بعدا مهما في بنائه للسرد الروائي، وليؤسس معه السرد المكاني، وتأتي التجربة الجمالية لتدخل عليهما في علاقة تبادلية، لو قمنا بدراسة هذه العلاقة، لاكتشفنا معاني جديدة لاستبطان المكان والسرد، وان المكان المتعددة يمكنان تلعب دورها في النص- الروائي:
كنت أراقب" زهرة" من مكمني، تروح وتجيء في البيت، مكبوسة القامة إلى الأرض، يرتج نهداها، وتتكور كتفاها وتتأرجح ذراعاها البضتان، وكانت عملية المراقبة لا تبدأ إلا حين يخلو البيت من أهله، خوفا من الفضيحة(ظلال على النافذة).
وهذا بدوره يضفي عليها رمزية كثيفة، ومن خلال السرد يعمل الروائي على إبراز جمالية الأمكنة العربية، ولو (استطعنا ان نصور هذه الأماكن بديناميتها، اذا تمكنا من إدخال التنقلات والتدخلات والأبعاد والسرعة التي تصل بينها، كم يصبح عملنا عظيما وعميقا عند ذلك) ميشيل بيتور.
يجعل الروائي المكان احيانا, يطغي على العمل كله، فيكون المكان بالنسبة اليه، احد شخصياته الرئيسة الى حد ان الرواية نفسها يطلق عليها اسمه: خان الخليلي، زقاق المدق، حارة المواردي، ويترسخ في ذاكرة القارئ، وهذا يتوافق بما قاله موريس بلانشو، في انطباعية المكان في داخل الذاكرة وعلاقتها الجدلية- الحوارية فيما بينهما لتأسيس الذاكرة- المكانية:
بالنسبة لهذه الحجرة، المغمورة في ظلمة تامة، عرفت كل شيء، لقد دخلتها وحملتها في داخلي، وجعلتها تعيش حياة ليست بالحياة، بل اقوى من الحياة، والتي لا تستطيع قوة في الدنيا ان تزيلها(6).
وهذه الـ "أقوى" نلمسها في روايات نجيب محفوظ، الذي يرسم وجه القاهرة، يرسم روح المكان، اي يعمل على إطلاق عبقرية المكان كما يقول بيتور، من بين الحارات والأزقة والمقاهي والشوارع، بحيث يجعلنا نتلبس بمكانية الرواية وسحرها وروحها، مثل الروائي( كان جلوسي بمقهى الفيشاوي يوحي لي بالتفكير)(7)، وهذا ما شاهدناه في روايات غائب طعمة فرمان، التي تجعل القارئ يستشعر بالمكان يزحف عليه، يطوقه، او يلقى فيه، لينفذ الى مأساويته ولــ(ينهض تاريخيا من خلال محلة شعبية في النخلة والجيران)(8) او لينهض سوسيو- ثقافيا من خلال رؤية خمسة أشخاص في خمسة أصوات.
والروائي مؤنس الرزاز يستعلن المكان في روايته الذاكرة المستباحة ليأخذ طابع الهجاء والسخرية المبطن، فالمدينة عند الرزاز تمثل كل المدن العربية، المدينة التي لا ملامح لها، الا مع بعضها متداخلة، ويسقط القارئ في دائرة الإيحاء، فمدينة بيروت هي : عمان وبغداد والقاهرة ونابلس، ويشاركه في ذلك الياس فركوح في مدنه الشبحية المسكونة بالموت: مطار بيروت مغلق، ام طريق البر، فحقول ألغام. " رواية قامات الزبد".
وبعض الروائيين يقذف بالقارئ في مدن لا محددة ،وليمنحه متعة التخييل في تصوير مدينته، وتكون كل المدن تحت اسم مكان واسع (شرق المتوسط) فهو مكن ملئ بالإيحاء والرمز والخوف، فالمكان يتوزع في شرق المتوسط، في الزنزانات وأقبية التعذيب، انه أية مدينة من الشرق المتوسط، من العالم العربي، كما يحدث ذلك في رواية " عو " لإبراهيم نصر الله التي تجري أحداثها في مكان لا محدد، ولكنه غير غائب، ومليء بالكثافة المكانية بين المثقف والجلاد، بين المقموع والقامع، انه يستوحي مكانا من (العالم العربي الذي يواجه الكلمة بالرصاصة) (9).
والآخر قام بتقسيم روايته الى مكانين: شرق وغرب، الشرق العربي والغرب الأوربي، بمعنى مواجهة بين الحضارات، بين الثقافات، مواجهة حياة، مع نشوء الاغتراب وتعميقه كعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، وموسم الهجرة الى الشمال للطيب صالح، والحي اللاتيني لسهيل إدريس، وقنديل ام هاشم ليحيى حقي. والآخر يربط حدث الرواية بالمكان، ومن خلالهما يشكل السرد الروائي، كرواية الرجع البعيد لفؤاد التكرلي، فتجري في مكانين مختلفين، هما: مدينة بعقوبة/ حدوث المأساة- أجواء ريفية، ومدينة بغداد/ محاولة الخروج من المأساة- أجواء مدينة، وذلك عندما يغتصب عدنان خالته منيرة، معناه اقتحامه عنوة للمكان/ الجسد- الرحم، وتدنيسه (وأصبح الجسد الإنساني حيزا مفهوميا يدل على المكان الفردي الذي لا يحق للآخرين الولوج اليه)(10). او إسقاط مأساة الحرب الأهلية على الإنسان وعلى المكان وما تفعله بهما، بمعنى ما تفعله هذه الحرب في داخل ذات الإنسان وداخل روح المكان، كما في رواية "حكاية زهرة " لحنان الشيخ، وتلتقي معها في هذا المجال ابتسام عبد الله في رواية " فجر نهار وحشي "، عندما تجعل مدينة الموصل فضاءا مكانيا للحرب الأهلية، ومصورتين انتشار رائحة الموت في المدينتين: بيروت والموصل.
وتكتسب الأمكنة عند الروائي العربي قيمة خيالية تؤلد في القارئ إحساسا أسطوريا وجماليا فنيا، وهذا ما فعله الروائي غالب هلسا(11)، في إحدى قصصه عندما نقل العالم وتناقضاته، وتمزقه، ورؤيته السوسيو- نفسية ، الى غرفة صغيرة فقيرة، تقع ضمن الغرف العديدة المؤجرة لأرملة شابة مع طفليها، ورسم الرؤية غير المنسجمة وغير المتوحدة، ما بين المكان الخارجي والمكان الداخلي، وانعكاساتها على بعضها، وفيه يقول هيجل أن الجمال الفني هو الحياة والروح للأشياء، وان أفضل الأمكنة( هي التي تهم في إيضاح النمو المتكامل للشخصية)(12)، وكذلك تظهر في رواية السفينة لجبرا إبراهيم جبرا، عندما ينقل الروائي تناقضات الأشخاص والأحداث وصراعهم، وعلى الأخص البطل وديع عساف الى داخل السفينة، فالمكان – الذاكرة "الخارجي بالنسبة للسفينة" هو الذي يحدد سير الأحداث التي تقع داخل السفينة ويطبعها بطابعه، والدلالة الرمزية لسفينة جبرا، انها تحمل المدن الفلسطينية في دواخل أبطاله، وعلى درجة عالية، وعليه يؤسس جبرا اتصالا إنسانيا مكانيا بين القدس والسفينة عبر الذاكرة، والواقع، ان القدس عند جبرا/ وديع عساف:
أجمل مدينة في الدنيا على الإطلاق، بيوت كالقلاع تعلو وتنخفض مع الطرق الصاعدة النازلة كأنها جواهر منثورة على ثوب الله والجواهر تذكرني بزهور وديانها فاذكر الربيع اذكر التماع زرقة السماء بعد أمطار الربيع، والربيع في القدس كان هو الربيع "رواية السفينة".
فالقدس موشومة في ذاكرة وديع عساف وروحه وأينما يحل يترك الوشم آثاره على الأمكنة وعلى الشخصيات وليحفر عميقا في الذاكرة العربية.
وفي رواية العشاق لرشاد أبو شاور، تنطلق منها ومنذ البداية الروح الأسطورية لمدينة أريحا:
أريحا مدينة القمر، تنبت أشجارا متوسطية واستوائية وجبلية وساحلية، مدينة جهنمية، غريبة خصبة، أريحا ليست مدينة، انها تاريخ، في تربتها تمتزج الأساطير بالواقع الحي، أريحا مدينة الشمس.
وعند غسان كنفاني، تتجسد المدينة حيفا، بشكل إنساني مرهف الحس، في رواية "عائد الى حيفا"، الى حد يجعلك تشعر بأنها امرأة تستنجد بك، وشخصياته كقطع الشطرنج، لا يستطيعوا مغادرة مربعاتهم الا اذا قتلوا.
وعلى ضوء ما تقدم فالبعد المكاني في الرواية العربية والعالمية، يتمحور في أرجاء شتى من الأمكنة: أبنية- جزر نائية- مدن – سفن – حارات- مقاهي- حمامات- شوارع- صحارى- عوامات- جوامع – كنائس- معابد – سجون- زنزانات...
فهذا راسكولينكوف يعيش على (العتبة: ان غرفته الضيقة هي بمثابة " القبر")(13)، وروبنسون كروزو يعيش على حافة العالم، على جزيرة مهجورة منسية تماما، بينما أبطال رواية أرخبيل الجولاج لسولجنستين يعيشون في أرجاء البلاد، أي في كل الاتحاد السوفيتي السابق.
ويعتبر المكان من البنيات التكوينية للرواية، ومن خلالها تتكون بنية سوسيو- مكانية لذا يمتاز المكان في الرواية العربية ببنية طبقية- المكان نتعرف على الشخصيات، ففي روايات نجيب محفوظ، نعثر على شخصيات طبقية، نستدل عليهم من خلال الأمكنة، فالقاهرة القديمة، تمثل الفقر وفئاته: بائع الخضار، القهوجي، المكوجي، بائع الجرائد، الام الكادحة، والقاهرة الجديدة، تمثل الغنى وفئاته: الضباط، المهندسون، الأطباء، التجار، النساء المثقفات، المومسات الراقيات، وهذا بدوره يقودنا الى العثور على مكانين: مكان خارج النص الروائي، وهو المكان الواقعي، ومكان داخل النص الروائي، وهو المكان الخيالي، مكان تخييلي يتناسل من الذاكرة/ البصرية، ويتكون المكان داخل النص من مكانين ايضا: مفتوح ومغلق، كلي وجزئي، فمثلا المفتوح / البلد، والمغلق/ المقهى، وعليه (كانت المقاهي في روايات نجيب محفوظ رمز مصر)(14).
وعند تزاوج المكان الواقعي- الخيالي، ينجبا مكانا يحرر إنسانية الإنسان- رواية "جرماتي" نبيل سليمان- ومكانا يقهر إنسانية الإنسان- رواية "نجمة أغسطس" صنع الله إبراهيم. وتعمل هذه الرواية الأخيرة على تشعير المكان- الواقع خارج النص مع المكان الخيال داخل النص، وباتحادهما تتشكل رواية نهلستية إنسانية، وعلاقة جدلية- حوارية بين المكانين،والمقطع المستعار للروائي ادوار الخرائط يدلل على هذا:
السماء والبحر- مثلا- عندي فيما أحس ليست ظواهر طبيعي بقدر ما هي رموز كلية ووقائع حسية في الوقت نفسه من خلال هذه العوامل التي تسهم في تشكيل العمل الفني(15).
وفي رواية جرماتي تتحقق طبقية المكان، والمكان المفتوح، وذلك عندما يحقق نبيل سليمان التناقض الطبقي داخل قرية جرماتي بين أهل القرية، وتفجير الوعي الطبقي لديهم، وبين أهل القرية والعدو الإسرائيلي، وفي ترميز قرية جرماتي للوطن العربي يحقق المكاني المفتوح.
وتتفتح بعض الاماكن بدلالات ذات معاني رمزية- تأويلية لانه (نظامنا المكاني تتحد ملامحه وطبيعته من خلال تدرج يكمل حركة الشخص ونمو وعيه) (16) فالعوامة في ثرثرة فوق النيل، مكان مغلق يمتلك دلالة رمزية على هشاشة الشخصيات المتواجدة فيها، وانغلاقهم على ذواتهم، لان الروائي تقصد في ذلك، عندما وضع العوامة فوق الماء/ النهر للإيحاء الى القارئ بأن هي / هم بلا جذور، بلا أدنى ارتباط بالمجتمع ويطفون فوقه بعكس سفينة جبرا ذات الدلالة الرمزية على قوة الشخصيات المتواجدة فوقها، والتحامهم بالمكان المتواجد خارج السفينة فأنهم يمثلون روح المكان ذلك البعيد وإحساسهم به، لان العنصر الروائي المتخيل يتأسس بوساطة الإشارات الى المكان الروائي، وعلى هذا فأن جملة "لا شيء يعلو هامتي غير السماء- الياس فركوح، قامات الزبد" تدل على صياغة مكانية داخل الرواية نفسها، وتداخل المكان المفتوح بالمكان المغلق، لان (كلاهما يشتغل داخل بنية المكان / النص- الذاكرة، باستقلالية، اندماجية)(17)،وفي هذا يقول الروائي صنع الله إبراهيم، عندما كان سجينا، وانعكاس ذلك على رواية "تلك الرائحة- 1966":
ولا زلت احتفظ بأرق المشاعر لتلك اللحظات التي كنت انفرد فيها بنفسي الى جوار سور السجن مشرفا على مسطحات شاسعة من رمال الصحراء لأكتب فصولا من رواية(18).
ولهذا امتلكت الرواية خصوصية عالية في العلاقات بين الأمكنة وشخصياتها علاقة جدلية- حوارية فنية لولاها لكانت الرواية مجرد سيرة ذاتية- ولكنه في رواية "نجمة أغسطس"، يكشف لنا ازدواجية المكان المعادي" حسب المفهوم الذي حدده غالب هلسا" وخاصيته، وحدده بمسارين جسدي وفكري(أيديولوجي)، تمارسها قوة تمتلك المئذنة والسجن في الأول تكرس الخرافة وفي الثاني يعذب الجسد، ويتم ذلك عبر أيديولوجيتها القمعية فكرا وجسدا.
ويشترك المكان- الذاكرة، والمكان- المحسوس، في وحدة تشكيل المكان الخارج- الداخل، فالمكان المتشكل في داخل الذاكرة للشخصية الروائية والشخصية الواقعية، فعند الحديث- مثلا- عن حديقة جميلة منسقة، هنا تبدأ فعالية التخييل في الذاكرة لإنتاج صور عنها (فالخيال هو مبدع الصور)(19)، وبهذا تكون الشخصية قد رسمت صورة عن الحديقة حسب الخيال، واعتمادا على اللغة المحكية، مكونة صورة شعرية عنها، ولكن عندما تشاهد الشخصية الروائية والحقيقية، الحديقة فعليا دون حديث مسبق عنها، واعتمادا على حاسة البصر يكون المكان متشكلا خارج الذاكرة، بمعنى انتقال الصور الفعلية للمكان، الى الذاكرة لتستقر فيها وتمتزج مع الخيال، والمكان الحديقة يحفر بشكل مادي في داخل الشخصية فالمكان يستخدم للتعبير عن نفسية الشخصية، وهذا يثبت بأن (الداخل والخارج نعايشهما بواسطة الخيال)(20)، فالخيال يتخيل ويغني نفسه دون توقف بالصور الجديدة)(21) فالمكان في داخل الذاكرة، والمكان المحسوس يشكلان منطقة مشتركة للذاكرة والصورة ويعملان على ديمومة جدلية بين الخارج والداخل، وارتباط (الخيال بالذاكرة، كل منهما يعمق الآخر)(22)، والكشف عن حقيقة التجربة الجمالية- المكانية الكامنة في انها تتوهج بالحياة من خلال هذه الجدلية في الاثر الفني الذي يفتح ثغرة في المظاهر نحو "حقيقة مجهولة"كما تقول ناتالي ساروت الا ان المخيلة (ليست فقط ملكة تكوين الصور بل هي أساسا القدرة على إدراك علاقات جديدة سواء كانت مرتبطة بالواقع الحسي او علاقات مجردة) (23).
وقبل التطرق الى تقسيمات المكان اود عرض مفهوم المكان، كما جاء في الموسوعة الفلسفية: شكلا لوجود المادة يفيدنا كوسيلة قوية لدراسة الواقع.
فالمكان في الرواية يعبر(إذن عن نفسه من خلال أشكال معنية ومعاني متعددة)(24) وهو يخضع هنا لجدلية متطورة مع تفاعل حواري، ولو عرفنا ان مفهوم المكان الروائي عند ميخائيل باختين، هو حوارية الأمكنة، وهذه الرؤية تتغلغل في جميع أعماله كلها، لتعطي قراءة إستراتيجية مكانية فنية، تهتدي بروح المكان، لانها تظهر لنا جماليته وضرورته في الرواية و(الأرضية التي تشد جزيئات العمل كله، فهو ان وضح وضح الزمن الروائي)(25)
لقد قسم الناقدان بورنوف واونيليه المكان الى واقعي وخيالي، ويقترب الناقد ياسين النصير من تقسيماتهما كثيرا الى حد التطابق:
1- المكان الواقعي: يبني تكويناته من الحياة الاجتماعية.
2- المكان المفترض: ابن المخيلة البحت(26).
اما الناقد غالب هلسا فيقسمه الى ثلاثة اقسام:
1- المكان المجازي: وجوده غير مؤكد بل هو اقرب الى الافتراض.
2- المكان الهندسي: يعرض من خلال وصف ابعاده بدقة هندسية وحياد.
3- المكان كتجربة معاشة: المكان المعاش كتجربة داخل العمل الروائي والقادر على اثارة ذكرى المكان عند القارئ(27).
اما الناقدان بول و رومير، يقسماه الى قسمين، الأول يخضع لسلطته وهو اربعة انواع:
1- عندي: وهو المكان الذي أمارس فيه سلطتي.
2- عند الآخرين : ويشبه الأول ولكنني اخضع فيه لسلطة الغير.
3- الاماكن العامة: حيث تمارس الدولة سلطتها، ويمثلها الشرطي.
4- المكان اللا متناهي: وهي الأماكن الطبيعية الخالية من الناس، كالصحراء حيث تضعف السلطات.
والثاني : يخضع حسب علاقة الإنسان فيه:
1- أليف.
2- معاد (28).
وهناك من يتناول المكان- المدينة كخيال لا متناهي، و(الخيال الذي يحمله كل منا في نفسه هو وحده القادر ان يزيل الممنوع- ارجون) او تحويلها الى أسطورة، كأنها مدينة النحاس في الف ليلة وليلة، ولقد جمع الروائي الياس خوري في روايته" أبواب المدينة" بين الخيال والواقع في صورة شعرية، فالفكر وحده يجمع بينهما، رغم الإحساس بان النص مقطوع عن الواقع ومرتبط بالخيال، لكن القارئ لا يستطيع الإمساك بالمدينة، لانه يجد نفسه وسطها، متشكلة منهما، وحاضرة في ذاكرته، وانها تجمع بين حكايتين متداخلتين، مندمجتين، متوازيتين، حكاية رجل غريب(إنا- أنت – هم) بلا ذاكرة، دخل المدينة، ولم يستطع الخروج منها، وحكاية مدينة مغلقة، لا ذاكرة لها ايضا، من يدخلها لا يخرج أبدا، لأنه لا يصل أبوابها السبعة، لانه سيكون اما ميتا او تائها(انا أيضا دخلت المدينة، لا أتذكر متى، ومذ ذاك استمرت، توغلت ابعد في شوارعها، وها انا لم أغادرها بعد)(29)، وتلتقي مدينة الياس خوري مع مدن ايتالو كالفينو في ان "المدن لا أسماء لها" (30)، وانها متاهة (كانت الشوارع تقود الى الشوارع والأزقة تنتهي الى الأزقة- ص7. أبواب المدينة)،وانها تشكل بعدا تكوينيا، وان القص يتفكك، يتشظى فيهما، ليوصلك الى مدينة مفتوحة، مدن تبنى في داخلنا، لنحملها معنا، انها مدن خيالية لا مرئية، نطاردها في خيالنا، للعثور على جوهرها، رغم انه قيل لنا انها (غارت في العيون، وقيل انها ذهبت الى البحر، وقيل انها اشتعلت في الغابة، ولكنها غابت ولم يعد البحث عنها ممكنا- ص7. أبواب المدينة)، فأصبح الإنسان والمدينة هما الوجود كله، ويكون هنا نص خوري وكالفينو "لغة لا تحمل أسرار المتخيل وحده، وانما تحمل كذلك أسرار الذات" (31)، وأسرار المكان، لذا وجب على الإنسان ان "يمتلك طاقات الخيال والعقل ويتصرف بها" (32)، لخوض غمار التجربة وما وراء التجربة.
وفي رواية وليمة لأعشاب البحر، تتجسد الزمكانية فيها، لان الرواية تجعل (التجربة" الزمن التاريخي الحقيقي" قابلة للتطور من خلال الزمكان المتجسد في الشخصيات والأشكال واللغات)(33)، وهذا ما فعله حيدر حيدر عندما قام بمزاوجة الأمكنة بالشخصيات، مهدي جواد/ صحراء(ص121)، واسيا / العشب الأخضر(ص7)، وهكذا: جواد- صحراء/ آسيا-العشب الأخضر، عندها يستلم القارئ، قراءات عديدة، ذات دلالات رمزية- استعارية، فحيدر جعل مهدي جواد يحمل في داخله مكانين دائما، مضيئا، ومظلما، في موطنه العراق، وفي منفاه الجزائر، يحمل في داخله الليل والنهار، القمر والشمس، انه الحياة، المرئية واللا مرئية، مع تجسيد شمولي الى حد انبثاق رؤية صوفية مسربلة بالمطلق، وعند اتحاده بالبحر، او فناءه فيه، عاريا الا من ذاته- العري معناه التجرد او التطهير- ليغذي بجسده الأعشاب في نهاية الرواية، (الروح الحية التي تنمو كالعشب في جميع الفصول- ص70)، انها تضحية وفداء، واحتفاء بالحياة للخلاص على الطريقة الحلاجية، وإدامة الحياة بالموت، برومانسية شعرية صوفية(البحر هو الله – ص40)، انها حكاية انسان وجد نفسه، في أتون التجربة، مكتوي بها، متوهج فيها، مثل الحلاج، وسيارتكوس، وماركس، وعند توحد المكان والزمان والتجربة يكتسب الوجود سلطة مطلقة، إننا أمام جدلية بين الإنسان والعالم، وأيهما سيحرر الآخر، بالطبع الإنسان، لكي يؤسس جدلية الإنسان بالزمكان.






الهوامش والاحالات :
1-E.F. Carritt. Philosophies of Beauty. P.285- 1966.
2- نهاد التكرلي- الرواية الفرنسية، ج1، ص51، دار الشؤون الثقافية- سلسلة الموسوعة الصغيرة(166)، بغداد 1985.
3- هنري لوفافر- علم الجمال ت محمد عيتاني، ص56، دار الحداثة، بيروت.
4- غاستون باشلار- جماليات المكان- ت غالب هلسا، ص136، دار الجاحظ للنشر، (كتاب الأقلام)، بغداد ، 1980.
5- نضال صالح – المكان في الرواية الفلسطينية، مجلة الهدف، العدد 141 في 4-4- 1993.
6- غاستون باشلار- جماليات المكان، ص251- 252.
7- جمال الغيطاني(اعداد)- نجيب محفوظ يتذكر، ص89، دار المسيرة، بيروت، 1980.
8- ياسين النصير-الرواية والمكان، ص20،وزارة الثقافة والإعلام، سلسلة الموسوعة الصغيرة(57)، بغداد ، 1980.
9- د. فيصل دراج- الرواية والمجتمع المدني- مجلة الهدف، العدد 1123 في 1/10/92.
10- د. إبراهيم جنداري- الفضاء الروائي واشكالياته، مجلة الأقلام العدد (5)، أيلول- تشرين الأول/ 2001.
11- منذ سنوات طويلة قرأت هذه القصة في مجلة الهلال المصرية، والآن لا أتذكر اسم القصة ولكن أتذكر تفاصيلها، وهي أول عمل اقرأه لغالب هلسا، ومنذ ذلك الحين بدأت بمتابعة أعماله.
12- ياسين النصير- الرواية والمكان، ص71.
13- م. باختين – قضايا الفن الإبداعي عند دستوفسكي- ت د. جميل نصيف، مراجعة الدكتورة حياة شرارة، ص250، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1986.
14- شاكر النابلسي- مذهب للسيف ومذهب للحب- ص147، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1985.
15- ادوار الخراط- مفهومي للرواية، ص311(الرواية العربية: واقع وآفاق)، دار ابن رشد، بيروتن 1981.
16- ادوارد هال- حواريات المكان- ت طاهر عبد مسلم، مجلة الثقافة الأجنبية، العدد 3- 4/ 1997.
17- أسامة غانم- سلطة المكان الجمالية في الذاكرة، مجلة عمان الثقافية، العدد76، تشرين الثاني/ 2001.
18- صنع الله إبراهيم- تجربتي الروائية، ص294 (الرواية العربية: واقع وآفاق)، دار ابن رشد، بيروت، 1981.
19- غاستون باشلار- جمالية المكان، ص36.
20- م. س، ص239.
21- م. س، ص37.
22- م. س، ص43.
23- غاستون باشلار- حدس اللحظة- تعريب رضا عزوز وعبد المنعم زمزم، ص99، دار الشؤون الثقافية ، بغداد، الدار التونسية للنشر، 1986.
24- رولان بورنوف وريال اونيليه- عالم الرواية ت نهاد التكرلي، مراجعة فؤاد التكرلي ومحسن الموسوي، ص96، دار الشؤون القافية، بغداد ، 1991.
25- ياسين النصير- الرواية والمكان، ص6.
26- م. س، ص27.
27- غالب هلسا- المكان في الرواية العربية- ص217، 220، 223، (الرواية العربية: واقع وآفاق)، دار ابن رشد، بيروت، 1981.
28- د. إبراهيم جنداري- الفضاء واشكالياته.
29- ايتالو كالفينو- مدن لا مرئية- ت ياسين طه حافظ، ص130، دار المأمون، بغداد، 1987.
30- م.س، ص129.
31- ادونيس- الصوفية والسوريالية- ص185، دار الساقين ط2، بيروت، 1995.
32- م.س، ص128.
33- ستيسي بيرتن- باختين والزمان السردي الحديث، ت د. محمد درويش، مجلة الأقلام، العدد السادسن 199.
• نشرت في مجلة الطليعة الادبية –العدد الثالث /2002








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا