الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رماد الجنود / جنود الرماد

سعدي عباس العبد

2014 / 2 / 22
الادب والفن


ما زلت اجري بكامل خوفي . تجرّني الجهات البعيدة نحو التيه المترامي . . تاركا الكتيبة والمدافع وكيس التبغ ودفتر [ اللف ] ومعطفي الطويل وقمصلة الفرو الرومانية وارهاط من الجنود يتضورون خوفا وجوعا تحت سماء من طائرات وقذائف .. كنت اجري وحدي إلاّ من صوت الريح وانفلاقات تحدث في البعيد . يأتي طنين القصف من بعيد , مثل فحيح الثعابين , فيزداد روعي ويشتد ركضي , في ليل القصف والضّياع , باحثا عن منفذٍ في الصحراء يقودني لملاذات آمنة __ حيث لا ملاذات هنا __ .. فلا ارى غير كرات من لهب تتأجج في المدى والظلام , فتتبدى الصحراء [ صحراء حفر الباطن ] عبر ارتجاج القذائف اشد سودا ورعبا ... الصحراء التي صحوت ذات يوم فوجدتني ادرج فوق حوافها البعيدة جنديا رثا يقوده جنرلات سادييّن في مسيرة عصيبة حافلة بالمكابدات والموت والرصاص . مسيرة وعرة تذكّرني بملامح حربنا الاوّلى المشدودة إلى اكوام من البساطيل والجثث !! اكوام من البساطيل تمشي بلا اقدام .. !! وهي مغروزة في اخاديد وحفر من الرعب والظلام واللاجدوى ! . تلك حرب حدثت في زمان كنت فيه في مقتبل الاحلام وريعان العمر . ولّت تلك السنوات وباتت محض ذكرى طاعنة بالنسيان والشيخوخة , .. كم خريفا مرّ على اندثار ونسيان تلك الحرب .. لا ادري ولا ادري ايضا كيف وجدتني اعود ثانية , اخوض في مجرى مهوّل من الدخان والتيه ... لقد مرّت سنوات طويلة وعديدة ! على غياب ملامح ورياح [ عبادان وديزفول ومهران وقصر شيرين وسسون كرد ] تلك الرياح الداخنة على طول مواسم الظمأ والموت ..وعلى طول امتداد تلك التوابيت الوافده من هناك , من الرياح .. ولشد ما يدهشني انّ اشمّ زفير تلك الرائحة التي خلتها تلاشت للابد , تتصاعد من نهارات [ المطلاع ومشارف صحراء حفر الباطن ] , تتدفق من ذات الخراب الذي مرّ .... مازالت الجهات الداكنة تنأى بي .. مرّ وقت طويل من الليل على فراري من الكتيبة وبت على مشارف الغبشة التي عرّى نورها الشحيح ملامح الصحراء . اراعني التيه الذي وجدتني اتلاشى في اتساعهِ . طويت مسافات طويلة دون انّ يلوح ليّ في المدى البعيد ايما اثر [ لشارع السالمي ] . قيل ليّ قبل الفرار : اياك انّ تنعطف [ يمنة او يسرة ] سر إلى الامام عدل .. لا تنحرف عن الجادة السالكة , وعندها ستلوح لعينيك ملامح الشارع المقفر . ولكن حاذر انّ تمشي في النهار , فالطائرات الخافرة ستكون بالمرصاد في مثل هذا الوقت . . تذكرت ما قيل ليّ وانا اعاين سربا من طائرات الشبح في نور الغبشة الشحيح , فجريت ناحية كثيب رملي فلذّت بكنفه . كان الطقس باردا , فتذكّرت قمصلة الفرو الرومانية التي تركتها مع كيس التتن ..في تلك الحظة رف في اسماعي حفيف ارتجاج , دوّيَ في البعيد , فهوّي رأسي فوق البندقية التي سوف اتركها عند الكثيّب وساغدو خفيفا بلا احمال . احمال الجندي المكسور , ساكون متحرّرا من تلك الاثقال .. كما ساتحرّر لاحقا من اسمال الجندي الرث الذي كنته وحين امسي هناك , سادخل غرفتي واوّل شيء سافعله انّ اتقمّط بدثار ثقيل واتمدّد بكامل اوساخي , او ساخ الجندي , تحت الغطاء , وسوف لن ارى الصمت والظلام وساغط في نوم مديد وعميق وسأنسي في غمرة النوم , انسي وانا اتوغل في مجرى من السبات , كلّ ملامح الجنود والتيه والدخان والموت وسوف لن ارى بساطيل وخوذا تتدحرج ولن ارى اجساد تتأجج .. وعندما اصحو من منامي . لن التحق لحرب جديدة , حتى لو احتشد عند باب بيتنا فيلق من الرفاق البعثين .. حتى لو جائوا بجميع فرق بغداد الحزبية !! , سوف احشو اسماعي بالصمّم والقطن . سوف اشيّد حاجزا من السكوت يفصل بيني وبينهم ولن اكترث لتهيداتهم ووعيدهم وهتافاتهم الساخطة , .. ولكن ماذا لو ظفروا بي وأستأصلوا صيوان أذني , فتخيّلتني بلا اذن , امشي وانام واركض وانظر , افعل كلّ ذلك دون أذن , فاصابني الرعب , فتخيّلت امّي تجهش في البكاء وهي ترى إلى اذني المقطوعة .. تخيّلتها تبكي بصوت عال , فتتدفق اليها مئات الاصوات المختلطة الساخطة الناقمة . تتدفق من الابدان المكروشة المتلفعة بالزي الزيتوني . زي الرفاق الحزبين . اصوات تهتف صارخة في وجهها . فأخالها تجري مذعورة متعثّرة بخوفها ودموعها واحزانها , يأتيني بكاؤها الشجي عبر الاف الجثث ! , المتحلّلة في عاصفة الصحراء او صحراء حفر الباطن . ..ومن بعيد اسمع هتافها الأمومي حافل بفيضان مدهش من الودّ والحنو واللوعة ..
ولما افقت من شرودي او استغراقي في احلام اليقظة , وجدّت نور الغروب الفاتر يتدرّج في التبديد والتلاشي حيال زحف اوّل الليل الذي جعل يسيل سواده داكنا فيغلق منافذ الوضوح والرؤية في الصحراء . . توغلت في المديات المغمورة بالظلام , اتعقّب آثار الهاربين ممن سبقوني , اقتفي آثار رائحتهم !! رائحة خوفهم وانكسارهم وخيبتهم ! فاشمّ في الظلام رائحة حديد صدىء يتصاعد نفّاذا ,فيشيع في داخلي ذكرى الحديد والرصاص في حربنا الاوّلى .. فاتذكّر اللافتات السود التي شاعت وانتشرت في ذلك الحين ... ما زال شارع [ السالمي ] ينأى كالحلم المستحيل .. فاجري بكامل خوفي وخوائي واشجاني , فيما كانت الريح تشتد والظلام ينؤ بالبرد والضّياع , فيشتد ركضي فاتساوى مع الريح والليل وامسي جزءا من سواده القاتم , فاسمع هديرا يتصاعد .. فاجدني ارتعد , ارتعد مأخوذا في المساحة المضاءة التي فاضت بالنور المندلق من القنابل المضيئة الهاطلة من الطائرة .. فاخذني الرعب , فلاح في ذاكرتي رهط من الجنود القدامى في حربنا الاوّلى , فلمحتهم في نور القنابل ينهضون من رماد البراري الغابره __ او هكذا يخال ليّ __ رأيتهم يلوّحون ليّ باذرع من رماد . و بوخذّ مثقوب واصابع من عظام .. رأيتهم يدّعونني للألتحاق في موكبهم الرمادي , الموكب الغابر الذي تفصلني عنه سنوات مهوّلة من الدخان .. فانحسرت المسافة كثيرا حالما هجست بايديّهم المشوّهة الحافلة بالرماد والعظام , تمسح على جبهتي وشفتيّ اليابستين ..وفي لحظة شديدة الغموض خفق صوت في الريح , فارتجت الارض والظلام , فهويت بكامل بدني المدمّى فوق المساحة المضاءة بوهج ساطع ينسفح من الطائرة .. انتهت /








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ


.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت




.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر