الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإرهاق النفسي لدى الخارجين من السجون وأفة سلب الإعتبار

عبد الله أبو إياد العلوي

2014 / 2 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


الإرهاق النفسي لدى الخارجين من السجون
وآفة سلب الإعتبار
كثيرا ما يوظف مفهوم الإرهاق النفسي في توصيف العديد من الإستجابات أو ردود الفعل الناتجة عن تعرض المرء للاستفزاز أو جراء حدوث تغير طارئ ملموس داخل واقعه البيئي الأسري والإجتماعي. فقد يستثر الإرهاق النفسي الشخصي الإنساني أو يسهم في الرفع من مستوى الانتباه لديه وهو ما يدعم تفاعله مع ما يواجهه من أعباء الحياة بكل مستجداتها وخاصة تلك المفعمة بالصعوبات .
ومن الجدير بالذكر هو أو وجود الفرد داخل الواقع المعيش المليء بالضغوط المتعدد الأبعاد والمتسم بالتوالد المستمر كما ونوعا والمؤثر على قدرات الفرد ومستوى تكيفه مع المستجدات الطارئة قد يسهم في إصابة الفرد بأمراض عضوية أو إضطرابات نفسية. وقد تختلف إستجابات الأشخاص بل والشخص الواحد للإرهاق النفسي وذلك من خلال الأسلوب الذي تتفاعل فيه الذات مع أي مثيرات أو إستفزازات أي فعل له ردة فعل أو إستجابة.
لكن ماهي مسببات الإرهاق النفسي ؟ وماهي صنوفه؟ وكيف يتم إدراكه؟ وماهي أثاره على البناء النفسي والتفاعل الإجتماعي لدى الخارج من السجن؟ وماهي أثاره على تصرفاته؟وماهي المسببات المحفزة على الإرهاق النفسي لدى الخارج من السجن؟ وكيف نستطيع الإسهام في تحصينه وتمكينه من مقومات التوافق النفسي والتكيف الإجتماعي؟.
إن مختلف الأعباء والتحملات المعيشية عامة وإحتياجات العمل والإستقرار قد تشكل القاسم المشترك في صياغة وإنماء الإرهاق النفسي، إلا أنه وبالرغم من سلامة هذا المعطى يتبين وجود عوامل أخرى لدى هذا الصنف من الناس وتتجلى في مدة الإبعاد عن المجتمع التي طالته داخل السجن وما يؤطرها من مناهج وبرامج وما يستثمر فيها من إمكانيات، وطبيعة العلاقات التي تحكم الحياة السجنية ونوع الإتصالات التي تربطه ببيئته البعيدة على المستويات النفسية والعاطفية والإجتماعية والمادية.
ولعل من أهم صنوف الإرهاق النفسي الذي يعانيها الخارجون من السجون حسب المعاينة الميدانية الإرهاق النفسي الناجم من الأزمات. والإرهاق النفسي سبب القلق والإرهاق النفسي الوظيفي والإرهاق النفسي البيئي . وإذا كانت هذه الأنواع من الإرهاق مجرد أمثلة عن حالة الإرهاق الذي يعانيه الخارجون من السجون والتي تختلف مدتها من شخص لأخر، فإن التساؤل الذي يطارد الباحث في هذا الصدد يعود إلى حقيقة تمثلنا كقيمين على علاج وتأهيل وإدماج هذا الصنف من الناس الذين يعانون من إرهاق نفسي وما يخلفه ذلك من صعوبات سلبية تنعكس على واقع دوافعهم وتكوين إتجاهاتهم وصياغة سلوكاتهم المتصارعة مع القيم والمعايير الإجتماعية.
وإذا كانت للإرهاق النفسي عدة مصادر منها الناتج عن الرغبة في حب البقاء أو الناجم عن الأزمات وذلك الإرهاق النفسي الداخلي والإرهاق النفسي الوظيفي والإرهاق النفسي بسبب العوامل الكيمياوية أو الناتج عن التغذية، فإن الخارجين من السجون كثيرا ما يعانون من عدة صنوف من الإرهاق النفسي. فحسب مجموعة من الحالات التي مازالت متابعة أحوالها على قواعد التقبل والمساندة والمصاحبة بشكل تطوعي وعددهم عشرة أفراد من بينهم ثلاث نساء، يتبين بأن طبيعة ودرجات الإرهاق النفسي تختلف في النوع والحدة والتأثير والتحفيز على العود إلى السلوك الإجرامي بشكل يصعب القول بحصره في خلفية معينة.
فالخارج من السجن حسب عملنا مع هذه المجموعة يعاني من هيمنة القلق والتوتر إلى درجة تجعله عاجزا عن التحكم في أحواله، فهو فاقد لراحته غير مطمئن، مضطرب التركيز، على المستوى الذهني لا يستطيع النوم، متشنج في عضلاته، دائم الإحساس بالألم ويشكو من التعب رغم عدم بدله لأي جهد، عصبي في مزاجه وهي أمور تنعكس سلبا على كيانه الشخصي وعلى وسطه الأسري الذي لا يدرك أحوال الخارج من السجن الناتجة عن القلق النفسي الذي تدعم وتقوي من خلال العقوبة السجنية التي لا تقيم وزنا للوازع النفسي لدى من تستهدفهم والخروج من السجن الذي يحول الفرد إلى محطة للحيطة والريبة والحذر والوصم الإجتماعي بالإضافة إلى سلب الإعتبار الذي يفرضه عليه القانون لعدة سنوات في غياب رعاية لاحقة تنشد المصاحبة والمساندة والتوجيه والرعاية من أجل الإدماج الإيجابي في الحياة. هذه الضغوط وغيرها والتي يعجز عن التعامل معها قد لا تصل إلى درجة المرض الذي يحتاج إلى العلاج النفسي أو العلاج بالأدوية، ولكن يحتاج هذا الصنف من الناس التأهيل الجيد من أجل التعامل مع ما يعانونه من إرهاق نفسي.
فحسب نتائج التشخيص الذي طال الحالات التي حاولنا تتبعها نجد هيمنة مجموعة من الرغبات والإعتقادات غير الواقعية التي تسهم لدى هؤلاء نساءا ورجالا في الإرهاق النفسي بمستويات مختلفة من حيث الكم والنوع والحدة.
فهؤلاء يفتقرون إلى محبة الناس لهم، فلا ينالون إعجابا داخل أوساطهم فيعانون من سوء المعاملة مما يدفعهم نحو كل تصرف تملكي يؤمن لهم مكانة لدى الآخرين ولو كان ذلك مخالفا للقيم والمعايير الإجتماعية ، وتسودهم أحاسيس النقص وعدم القدرة على الإتصاف بالكمال والإتقان فلا يستطيعون التعلم من التجارب الشخصية السابقة وتهيمن عليهم المعتقدات الخاطئة المتمثلة في أن هناك أمورا خارجية تسبب للفرد سوء الحظ والنحس، وبهذا يتدعم هروب هؤلاء من دواتهم ومواجهة ما تحتاج إليه من تطوير وتأهيل للياقتها وتمكينها من التبصر السليم.
وهذا الوضع المتوتر الذي يطال الخارجين من السجن والمتمثل في الإرهاق النفسي الداخلي يؤكد بشكل دال فرضية الباحث ألبرت أليس"albert ellis" التي ترى بأن هذا الصنف من الإرهاق النفسي ينتج عن هيمنة مشاعر العجز والاعتقادات اللاعقلانية والطموحات غير الواقعية.
ويظهر الإرهاق النفسي لدى الخارجين من السجن فيما يحاصرهم من أزمات منها ما يتعلق بالوجود والكينونة المسلوبة بقوة القانون أو بحكم الثقافة السائدة داخل المجتمع ومنها ما يعود إلى ضعف التأهيل وضيق أفاق العيش الكريم والرزوح تحت التهديدات اللاشعورية المشكلة للخوف المستمر من المجهول والتهديدات الخارجية التي تضع الخارج من السجن محل إنتباه بشكل دائم يفرض عليه الإستعداد للخضوع للبحث بمناسبة التحري من وقوع جريمة معينة.
ففي علاقاتنا اليومية مع أفراد هذه العينة نلاحظ بإستمرار أنه كلما مر بجانبهم شخص غير معروف إلا وتنتابهم انقباضات تختلف من حيث الحدة وتدفع بالكثير منهم إلى مغادرة ذلك المكان وعدم العودة إليه إلا وبعد مدة. كما أن غالبيتهم في حالة فزع مستمر من مجرد مرور سيارة الشرطة حيث تتسارع نبضات القلب وتتعجل الأوامر الصادرة عن الدماغ بزيادة إفراز الهرمونات التي تعمل على إفراز السوائل الخاصة بحركة العضلات التي تتمدد أو تحفز تبعا لهذا الموقف وهي تجعله يتنفس بسرعة، وغالبا ما يكون في حاجة لكمية أكبر من الأوكسجين والطاقة. وفي هذه اللحظات يكون مهيأ إما لاقتراف سلوك مضطرب يعتقد بأهميته في تحصين نفسه ولو بالاعتداء على الآخرين أو اللجوء إلى التخفي أو الهروب من الإهانات التي تمارس عليه من قبل المحيط والشرطة والإدارة...هذا كله يحصل في لحظات تعبر عن الإرهاق النفسي الذي ينتاب الخارج من السجن جراء محاولته العودة إلى المجتمع الذي يرفضه. هذا كله يعبر عن رغبات هذا الصنف من الناس في الحياة والتشبث بالبقاء في ظل مشاعر مكثفة بدوافع لا شعورية متناقضة وغير متكاملة مثل القلق والفزع والتحفز والتملك والتقدير والعدوانية والانتقام والخوف، وهو ما يؤكد استشكال حقيقة الإرهاق النفسي لديهم الذي لا يملكون معرفة به ولا يستطيعون التكيف مع معضلاته بسبب الأوضاع الأشد سوءا والأقوى تأثيرا مما ينعكس على الجسد في شكل أعراض بدنية مثل سوء الهضم أو ألام الرأس أو تشنج العضلات...أو في شكل أعراض عصبية مثل الأرق وتقطع النوم أو في سلوكات مضطربة تتجلى في تعاطي الخمور والمخدرات والتدخين أو العنف والقمار ...وهذا الواقع الذي تتزايد فيه الضغوط وتتراكم عليه الصعوبات كثيرا ما يسهم في تناقض قدرات الخارج من السجن على إدراك ذاته وإضطراب إتجاهاته.
وحسب الملاحظات المتكررة التي ينظمها الباحث من خلال مصاحباته ومسانداته للخارجين من السجن عامة وأفراد عينة هذا العمل بالخصوص، يتبين بأن غالبية هؤلاء ينتابهم مظاهر جسيمة تؤكد على إتساع مستوى الإرهاق النفسي كما يبدو في العرق المتزايد وبرودة الجسد والأطراف وإضطراب سرعة التنفس وتشنج العضلات والرغبة المتزايدة في التبول والإسهال والخفقات المتزايدة والمتكررة في دقات القلب.
كما يشكو غالبية أفراد هذه العينة من البرد ولو في حر الصيف وألام الظهر وضيق التنفس والربو وسوء الهضم والشعور بالضغط والإجهاد المستمر رغم سهولة المجهود الذي يقوم به كل فرد أو من دون أن يقوم بأي عمل.
ومن الأعراض السلبية التي يتميز بها واقع الإرهاق النفسي لدى الخارجين من السجن حسب هذه العينة هيمنة مشاعر عدم التقدير داخل المجتمع نتيجة القوة القانونية التي تنص على سلب الإعتبار بعد انقضاء فترة العقوبة وهذا له تأثيرات سلبية تتجلى في الإرتباك وفقدان البصر وضعف التركيز والإحباط ونقصان التفكير بوضوح في المشاكل التي تعترض الفرد في حياته اليومية وإضطرابات في الإنفعالات والعواطف.
ويظهر الإرهاق النفسي لدى هؤلاء أيضا في الزاوية السلوكية في التحدث بأصوات مرتفعة وبسرعة عالية وفي عادات قضم الأظافر أو اصطكاك الأسنان أو عض الشفتين أو الأصابع وعدم إستقرار المزاج والعنف والعدوانية وعدم القدرة على اتخاذ القرارات والنسيان والأخطاء المتكررة والتغيب عن المواعد.
إننا أمام أشخاص يعانون من ضغوطات نفسية وإجتماعية وقانونية تفقدهم القدرة على تدبير حياتهم اليومية وصناعة مستقبلهم بشكل سليم في غياب إستراتيجيات تؤهلهم للتعامل مع الحياة وصناعة التقدير ومجابهة الصعوبات الإجتماعية والإقتصادية وما تسهم يه من إنتاج الإرهاق النفسي الذي يشكل عاملا هاما من عوامل العود إلى السلوك الإجرامي. وإذا كان هذا يحتاج إلى المزيد من البحث العلمي في هذه الصعوبة فإن ما تم الوقوف عليه من خلال عملنا مع هذه العينة لهو تلك العوائق المنصوص عليها في المواد من 687 إلى غاية المادة 703 من قانون المسطرة الجنائية المغربي، حيث لا ينحصر جزاء صاحب السلوك الإجرامي في العقوبة الحبسية أو السجنية التي طالته، بل يمتد الأمر إلى سلب إعتباره الذي لا يمكنه إسترداده بقوة القانون إلا بعد مضي أجل سنة واحدة تحسب من يوم أداء الغرامة أو من يوم إنتهاء الإكراه البدني أو إنصرام أكد التقدام . أما إذا تعلق الأمر بعقوبة حبسية لمدة لا تتجاوز ستة أشهر فلا يعود الإعتبار للخارج من السجن إلى بعد مضي خمس سنوات بعد خروجه من السجن. أما إذا كانت العقوبة الحبسية المنفذة على صاحب السلوك الإجرامي لمدة لا تتجاوز سنتين أو عدة عقوبات لا تتجاوز مجموعها سنة واحدة فإن إسترجاع الإعتبار يتطلب فترة زمنية من الإنتظار قدرها عشر سنوات تبتدئ من تاريخ مغادرة السجن، وتصل فترة إنتظار رد الإعتبار بقوة القانون إلى خمسة عشرة سنة إذا كان الجزاء الحبسي تتجاوز مدته سنتين من أجل جنحة أو فيما يخص عدة عقوبات متعددة تتجاوز مجموعها سنة واحدة. أما بالنسبة للجنايات التي تطالها عقوبة جنائية أو عدة عقوبات جنائية فلا يعود الإعتبار للشخص الذي طالته إلا بعد مرور عشرين سنة تحتسب من يوم إنقضاء أخر عقوبة إو إنصرام أجل تقادمها. أما إذا كانت العقوبة الحبسية أو المالية موقوفة التنفيذ فإن الإعتبار هنا يرد بعد إنتهاء فترة " إختيار" مدتها خمس سنوات ما لم يقع إلغاء إيقاف العقوبة.
هذا هو حال النظام القانوني السالب للاعتبار والذي لا يمكن إسترداده بقوة القانون إلى بعد مرور هذه الفترات الزمنية الواسعة والتي تسهم بشكل بليغ في إنتاج الإرهاق النفسي بالنسبة للخارجين من السجن، وبالأخص أولائك الذين يترددون على السجون ولا يسمح لهم بسلك مسطرة رد الإعتبار عن طريق القضاء حسب المواد من 690 إلى 703. فهي مسطرة تشترط لرفع طلب رد الإعتبار القضائي مرور مدة ثلاث سنوات إذا كانت العقوبة جنائية، أما بالنسبة للعقوبات الصادرة من أجل جنحة غير عمدية فيمكن التقدم بطلب رد الإعتبار عن طريق القضاء بعد مضي سنتين وبعد مضي سنة إذا كانت العقوبة مالية فقط. ويبتدئ سريان هذه الآجال من يوم الإفراج بالنسبة للمحكوم عليه بعقوبات سالبة للحرية ومن يوم الأداء بخصوص المدان بغرامة مالية.
إننا أما شرط جديد من سلب التقدير الذي كثيرا ما يكون الدافع الأساسي اللاشعوري للسقوط في السلوكات الإجرامية . إنه شوط يتم بمقتضاه حرمان الشخص من ولوج الوظائف أو المشاركة في الصفقات وممارسة أي عمل خاص، كما لا يحق له التسجيل في اللوائح الانتخابية أو الحصول على العضوية المدبرة لحركة جمعوية أو نقابية أو سياسية. كما أن الواقع الحياتي اليومي للخارجين من السجن لا يسمح لهم حتى بالعمل كحارس أو شغيل في أحد المصانع أو المزارع أو في التجارة. فهذا الصنف من الناس –حسب عينتنا- يعاني من وصم شديد خاصة في غياب عقوبات حبسية أو سجنية تنشد الردع والإنتقام بدل مناهج وبرامج تتيح للمحال على السجن فرص الحوار مع الذات بمهارات تواصلية فعالة كأساس لكل علاج أو تأهيل أو إدماج. فهؤلاء في حالة دائمة ومحتدمة من الإرهاق النفسي الذي يسهم بقدر كبير في إنتاج إرهاقات نفسية للقيمين على معاقبتهم وللمكافحين لحضورهم داخل المجتمع العام، وهذا ما يؤكد فرضية "Mbanzoulou" القائلة بأن السجين لا يخرج من السجن بل يخرج معه خاصة في واقع يتسم بالسرعة الفائقة وتعدد المهام وضيق الأفق وضعف الإمكانيات وتكاثر الطموحات والإحتياجات. وهذه أمور تسهم في ضعف أو تشتت الذهن مما يسهم في إلحاق الضرر بالعقل و بالجسد. فالخارجون من السجون –حسب عينتنا- لا يعرفون كيف يعتنون بقدراتهم الذهنية بشكل صحيح، وهو ما يبين ما ينتابهم من غموض في التفكير وبدائية في الإبداع وجمود في الإتجاهات وتصلب في العواطف جراء الإفتقار إلى المرونة اللازمة لمواجهة الضغوطات اليومية خارج السجون. وإذا كان الخارجون من السجون أو المحالون عليها في حاجة إلى إهتمام وعناية تسهم في تأمين مصالحتهم مع ذواتهم، فإن من أهم الشروط التي لا تزال مبعدة في هذا المضمار هي تلك التي تتعلق بالجانب الشخصي للفرد. فقد يكون البرنامج الغذائي المتوازن الذي يحتوي على الخضر والفواكه والحبوب والبروتين ومنتجات الألبان مساعدا على منح الجسد الطاقة اللازمة، لكن الحاجة إلى التركيز والنشاط والتواصل والرياضة والتأمل والراحة والنوم كلها أمور قد تلعب أدوارا هامة في المصالحة مع الذات وتصونها ضد الإرهاق النفسي.
فهناك من يعتقد بأن ما يواجهه الخارج من السجن يمكن تجاوزه بإمتلاك مهارة مهنية وتقديم دعم مالي أو بإبعاد الخارج من السجن عن محيطه الأصلي ليشتغل في أماكن بعيدة، بل إن الأمر يحتاج إلى متطلبات التمنيع ضد الوقوع في الخصومة مع الذات والتحصين ضد سلوكات عدم التقبل التي تطاله من خلال الثقافة السائدة داخل المجتمع وما ينتابها من نفور وحذر ومعاملات سلبية تستفز مشاعره وقد تسهم في العودة إلى الاحتماء بالسلوك الإجرامي كآلية دفاعية يسعى من خلالها إلى إعادة التوازن ناهيك عن إنعدام فرص الشغل أمام الخارجين من السجن مهما كانت مستوياتهم النفسية والمعرفية والمهنية نظرا لقيم الدونية والإبعاد وسلب الإعتبار التي يعتمدها المجتمع بكل مؤسساته في حقهم وخاصة صحيفة السوابق القضائية التي سلفت الإشارة إلى صعوباتها وما تشكله من عراقيل أمام الخارج من السجن نحو العودة السليمة للمجتمع.
فسلب الإعتبار عقوبة أقسى من السجن، كما أنها تدبير يشكل خطورة على الخارج منه وعلى المجتمع. فقد يكون السجل الخاص بالسوابق الإجرامية أداة لرصد حالة العود وضبط الترددات على السجن وهي مسألة قد تساعدنا في تقييم مردودية العقوبة وتطوير السياسات الجنائية، ولكن عندما يتحول هذا السجل إلى أداة لسلب الإعتبار الذي هو أساس الحياة لدى الفرد فهنا نكون أمام حالة من التمويت النفسي للخارج من السجن وهو إجراء يشكل خطرا على الشخص وعلى المجتمع وأمنه...فسلب الإعتبار هو أساس الإرهاق النفسي الذي يعانيه الخارجون من السجون وهو خرق سافر لحق من حقوق الإنسان التي تمنع التمييز بين الأفراد على قاعدة التوافق الإجرامية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالعمل وهذا دفع بالمشرع في العديد من الدول التي تقول بصيانة حقوق الإنسان إلى حصر سجل السوابق في رصد تطور السلوك الإجرامي لدى الفرد وتقييم مدى نجاعة العقوبات التي طالته دون أن تقول بسلب إعتباره. كما منعت تشريعات أخرى الإدارات التابعة للدولة ومن في حكمها وكذا القطاع الخاص مطالبة الأفراد الذين يتقدمون بطلبات للحصول على العمل بالإدلاء بالسجل القضائي، وقد أحسن المشرع في دولة كندا عندما نص على منع تضمين ملفات التوظيف أية خانة تخصص للإشارة إلى السوابق الإجرامية.
وحسب عملنا المتواضع مع هذا الصنف من الناس يتبين بأن من أهم إحتياجاتهم الأساسية تعزيز قدرات التركيز، وذلك عبر مصاحبة ومساندة تتأطر بمناهج وبرامج علمية وبموارد بشرية متخصصة ومتطوعة تستطيع العمل مع الخارجين من السجون بالحرص على الدفع بالدماغ نحو التركيز والتأمل والصيانة دون تشتيته وانتقاله من موضوع لأخر بدون سبب. فالمطلوب منا كمصاحبين لهؤلاء بذل كل الجهود المعرفية لتأمين التركيز على فكرة أو مشروع عمل أو في القراءة. فكلما إستطعنا العمل على توجيه تركيز مستهدفينا إلا وأسهمنا في تقوية التواصل بين خلايا الدماغ وإنمائها بشكل مستمر، وهذا هو أساس التعلم والتطور.
ويحتاج مستهدفينا أيضا إلى تقوية الحوافز التي تثيرها العقوبة التي تعمق العلاقة الحميمية بين خلايا الدماغ وتقوي من روابطها وذلك بالإقبال على كسر الرتابة. ومن هناك أنشطة محفزة للدماغ والواقية من التراجع المعرفي بالمشاكل النفسية أو السوسيوإقتصادية والتي تتمثل في البداية البسيطة بردود الفعل الإيجابية على مبادرات وإتجاهات الآخرين بدل المواقف السلبية والأحكام الجاهزة بدون تفكير أو بالاعتذار عن حضور مناسبات إجتماعية أو لقاءات ثقافية أو المشاركة في أنشطة تطوعية أو تظاهرات رياضية أو عدم الميل إلى تطوير المشاريع الشخصية والمهام الإجتماعية المعتادة.
وإذا كان الخارج من السجن يعاني من أحاسيس الغربة بعيدا من الناحية النفسية عن الأخرين غارقا في هموم وصعوبات ومعاناة خاصة لا تساعده على الإستجابة للمشاعر التي يظهرها شخص أخر، وهو ما يمنع إفراز العديد من محفزات كيميائية في الدماغ مثل الأوكسيتوسين والسيروتونين جراء عدم التواصل والتناغم مع مكونات الحياة، وهذا ما يدعم حدة التوتر ويسهم في الإضطرابات النفسية. فالحرمان من قضاء بعض الوقت في الهواء الطلق من شأنه أن يمنع انخفاض مستويات هرمون الكورتيزول الذي يزيد من التوتر. ففي مستجدات الخبرة العلمية بأن المرء في حاجة للتواصل وخاصة الخارج من السجن الذي هو في حاجة أكثر للتواصل مع الناس ومع الطبيعة للتعويض عن العزلة النفسية والإجتماعية التي لها إنعاكاسات سلبية على شخصية الخارج من السجن. فهذا الشخص في حاجة إلى ما يعزز قدراته التواصلية من خلال المصاحبة والمساندة والرعاية والتوجيه والاحتضان داخل المؤسسات والحركات الجمعوية السوسيوثقافية والتنموية التي من مسؤولياتها الإسهام في إحداث التغير الإيجابي في شخصية الخارج من السجن بالتركيز على تمكينه من مهارات التواصل الفعال.
ويمكننا تخفيض درجات الإرهاق النفسي لدى الخارجين من السجون بالتركيز على الرياضة التي من شأن ممارستها الإسهام في تحسين الأحوال الصحية وتمكين الدماغ من الإرتياح والتطور. فتمارين الإيروبيك مثلا من شأنها منح دماغ الفرد الوقود الحيوي الأهم وهو الأكسجين حيث يعطيه جرعة من الطاقة العقلية، كما أن التمارين الرياضية تفرز المواد الكيميائية التي تساعد الدماغ على إنتاج خلايا جديدة تحسن ذاكرته وقدراته على التعلم وتسهم في التقليل من مخاطر الإصابة بالسكتات الدماغية.
فحاجة مستهدفينا الذين نود العمل معهم وبناءا على إراداتهم في التحصين ضد العود إلى السلوك الإجرامي بالتركيز على بنياتهم الشخصية كثيرا ما تتجلى في دعم أسباب تحسين وظائف الإدراك من خلال الأنشطة الفردية التي تحقق المصالحة مع الذات والأنشطة الجماعية التي تستثمر الرياضة في التواصل الإنساني.
ومن مقومات الرعاية التي تؤمن للخارجين من السجن عودة طبيعية وكريمة للمجتمع هو إتاحة الفرصة للفرد للإفتحاص الذاتي لمشاعره الخاصة، وهذا لتقوية الروابط العصبية لديه والتي تساعده على التقليل من مخاطر الإصابة بالعياء الذهني وتسهم في تشغيل الدماغ بفعالية. فالتأمل كثيرا ما يسهم في تعزيز العلاقة بالذات. فبالأنشطة الدينية عامة والصلاة في وقتها ومع الجماعة تساعدنا في التركيز على الأفكار الداخلية. فحسب العمل مع الخارجين من السجون يتبين بأن تركيزهم على التأمل بشكل منتظم كثيرا ما يمتعهم بحيوية كبيرة في المناطق الدماغية المسؤولة عن التقمص العاطفي والذاكرة وكذا عبر تشغيل الفكر بالقضايا المجتمعية والثقافية والعلمية.
كما يحتاج مستهدفينا إلى الإستمتاع بالسكون والراحة وذلك بإطلاق التركيز من خلال فترة يتوقف فيها النشاط الكيميائي ليسمح للدماغ بالراحة وشحن الطاقة. ففي هذه الفترة يستطيع الفرد أن يعيش فترة زمنية من التداعي الطليق مع نفسه قد يسهم تقوية أحاسيسه بالحرية بكل معانيها الحضارية التي تدعم إستقامته وتركيزه على التفكير الجاد من أجل العمل الجاد.
وحسب عملنا مع العديد من السجناء وبالخصوص أفراد هذه العينة يتبين مدى معاناتهم من الأرق وإنعدام النوم، وهذا ما يجعلهم غير قادرين على الإنتباه ذلك لأن نقص النوم أو إنعدامه قد يرفع من مستوى هرمون الكورتيزول الذي يخفض المناعة ويضعف الذاكرة ويعيق الإبداع. وعليه، يتبين بأن مساعدة الخارج من السجن على تحديد الفترة الكافية للنوم سيمكنه من الإحساس بالإستقرار ويدعم لديه تنظيم وترتيب حاجياته ورغباته حسب الضرورة والأولوية، وهذا سيسهم في تخفيض مستوى الإرهاق النفسي الذي يطاله والذي يشكل عدم الإهتمام به المزيد من الصعوبات بما في ذلك التردد على السجن حيث يكون الفرد تحت جحيم العديد من الإضطرابات الذهنية التي تؤثر على أحواله حيث تطال الأفكار والإعتقادات والأحاسيس والعواطف. كما تظهر في عدة أعراض منها معاناة الخارج من السجن من أفكار كثيرة ومتناقضة في وقت واحد قد تسبب له صعوبة في التفاعل والتواصل مع الأخرين. وتبدو أيضا في العديد من التهيئات-الهلاوس- مثل أن يسمع الفرد و يشعر بأمور لا يسمعها ولا يحسها الآخرون وهذا يصل في وسط السجناء إلى نسبة 36 بالمائة لدى الخارجين من السجن حسب عينة هذا العمل. ويعاني هؤلاء أيضا من إحساس الإضطهاد المتمثل في إعتقاد السجين بأن هناك من يراقبه أو أن هناك أناس يعرفون أفكاره مما يدفعه إلى التصرف بناءا على تلك الاعتقادات.
ومن مميزات من نتعامل معهم من هذه الفئة الإنسانية التقلبات الواضحة في الأحوال العاطفية العلمية، فكثيرا ما يفتقدون الإهتمام بالعالم الخارجي مثل الأنشطة اليومية التي كانون يزاولونها كما يجدون تعثرات وصعوبات في نقل كل مشاعرهم إلى الأخرين بل منهم من يبتعد ويتجنب مخالطة الأخرين. كما يلاحظ عليهم عدم الإهتمام بالنظافة الشخصية والحفاظ على المواعد والحرص على إتمام العمل الذي يبدؤونه ناهيك عن صعوبة التفكير بشكل منطقي وإضطرابات في المزاج.
وعليه يبدو أن العمل الرامي إلى علاج وتأهيل وإدماج هؤلاء الأشخاص يتطلب التركيز في العلاقة معهم على مبادئ التقبل والفردية والسرية وفق ما يسمح به القانون ويجب أن ينبني على التشخيص العلمي والتقييم العملي للشخصية المستهدفة من حيث الأعراض ومدى شدتها. ومن حيث القدرات والملكات الذاتية التي يمكن الإستناد عليها في العلاج والتأهيل وذلك من خلال الحوار الجاد والمفعم بالإنصات والتفسير والتعاون بين طاقم الرعاية والمساندة وبين المستهدف وبين هذين الطرفين ومحيط المستهدف. حيث يتم تشييد مقاربة العلاج والتأهيل والإدماج وصياغة آليات أعمالها وأسلوب تقييمها ووسائل تطويرها حسب ما يلاءم كل مستهدف على حدة وما يحتاج إليه من رعاية.
إنه عمل يحتاج إلى إرادة سياسية تنشد الاستثمار في العقوبة الحبسية من أجل تأمين النماء البشري المتوازن لدى أولائك الذين لم تستطع مؤسسات التربية والتنشئة الإجتماعية العادية الإسهام في إنمائهم السليم، فهل بإمكاننا تقبل نزلاء السجون والخارجين منها وأن نحرص على عدم نبدهم والعمل على احتضانهم داخل مناخات الود والرحمة والاحترام بدل سلب إعتبارهم وعدم تقديرنا لهم واضمحلال ثقتنا فيهم مما يسهم في قتلهم النفسي ويرغمهم على العودة إلى السلوك الإجرامي.
هل نستطيع تجنيد طلبة وخريجي العلوم الإنسانية من خلال أجهزة الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية والحركة الجمعوية من أجل تأمين رعاية ملائمة لمتطلبات العلاج والتأهيل والإدماج لفائدة الخارجين من السجون؟ هل يستطيع الأثرياء من المسلمين تحبيس بعض ممتلكاتهم ووقف ريعها لتحسين أحوال الخارجين من السجون؟ هل نستطيع تنظيم تكوين لأطر السجون ورعاية السجناء بعد الإفراج وفق مناهج قوية على إعادة بناء شخصية المستهدف من العقوبة وتمكينه من الإسهام في صناعة الحياة الجماعية بشكل متحضر؟
إنها مجرد تساؤلات ترهق الباحث لكن أهون من وقع الإرهاق النفسي الذي يعانيه نزلاء السجون والخارجين منها بسجون داخل مؤسسة التأثير والحصار هي مؤسسة سلب الإعتبار بعد عقوبة الحبس أو السجن أو حتى الغرامة المالية.

عبد الله أبو إياد العلوي
أستاذ باحث في علم النفس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الاتهامات المتبادلة والدعم الكامل.. خبايا العلاقة المعقد


.. الشيف عمر.. أشهر وأطيب الا?كلات والحلويات تركية شغل عمك أبو




.. هل ستنهي إسرائيل حربها في غزة.. وماذا تريد حماس؟


.. احتجاجات طلابية في أستراليا دعما للفلسطينيين




.. أصداء المظاهرات الطلابية المساندة لغزة في الإعلام • فرانس 24