الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صور

زين اليوسف
مُدوِّنة عربية

(Zeina Al-omar)

2014 / 2 / 24
سيرة ذاتية


أحتفظ بنوعٍ من القُدسية بصورٍ عديدة لأفراد الأسرة..كانت في الماضي عبارةٌ عن مجموعة ألبومات كثيرة كانت تضعها والدتي دوماً فوق ذلك الدولاب الذي كنت أظنه كبيراً حينها..و لكنها تبخرت ذات يوم جراء عملية هولوكوست وهابَّي!!..فبعد أن أصغت والدتي لمحاضرة ذلك الشيخ الذي أخبرها أن الملائكة لا تدخل منزلاً فيه صور قامت بحرق معظمها و لم ينجو منها إلا القليل.

كانت و ما زالت والدتي جميلة و كان والدي و ما زال وسيماً..و لكني لم أكن كذلك في الصور أبداً..فدائماً أشعر و أنا أرى صوري في الماضي بأني عالقة فيها..و كأني بجسدي قد حُشر بين عين الكاميرا و الإطار..فلم يكن مسموحاً لي أن أقف في الصف الخلفي للصورة الجماعية و الذي حُجز سلفاً لشباب العائلة و لا أنا مرتاحة بوجودي في الصف الأمامي بين فتياتها.

كنت حينها -و ما زلت- أشعر أني عالقة في منطقة وسطى..أريد أن أكون أنا دون أن يعوَّل الآخرون كثيراً على جنسي..لم يفعلها معي أي إنسان إلا والدي..فلعله هو الوحيد الذي أحبني يوماً ما بلا أي اعتبارات لنوع ذلك الجسد..و لم يُشعرني يوماً -بقدر استطاعته- بالفارق الاجتماعي بيني و بين أشقائي..و لعل وسيلته في ذلك أن أشعرني دوماً أني بالنسبة إليه واحد منهم و لست منهن.

و لكن بالرغم من ذلك التاريخ المزعج مع صوري في الماضي ما زالت لديَّ صورٌ جميلة عديدة لم تلتقطها الكاميرا و تحتفظ بها كاميرا ذاكرتي..كصورتي عندما كنت أتسلل و أنا طفلة لمجلس والدي و هو يشاهد الأخبار مساءاً فأتظاهر بالنوم على الأرض فقط لكي يحملني والدي إلى مكان نومي..كان الجميع يكتشف خدعتي بسهولة فعينايَّ كانتا ترتجفان بشكل واضح خوفاً من عدم إتقاني لدور النائمة و لعل والدي حينها كان يعلم أني أدعَّي النوم و لكن هذا لم يمنعه يوماً من حملي على كتفيه..فأشتَّمُ رائحته عن قُرب..تلك الرائحة التي لا أبدلها و لو بعطرٍ من الجنة..تلك الصورة على الرغم من تكراريتها علمتني أننا عندما نحب نتغاضى عن تلك الأكاذيب الصغيرة التي يُلقيها لنا من نحبه.

ما زلت أتذكر صورة والدي الذي كان في الصباح الباكر -كما في وقت الظهيرة- يُجاهد متنقلاً بسيارته لكي يوصل الجميع من و إلى المدرسة..فتعلمت أن هناك أنواعٌ أخرى من الجهاد..بل أني أجد أن جهاده ذك سيكون جزاءه عند الرب أعظم بآلاف المرات من جهاد دمَّاج و أفغانستان و شقيقاتهما.

ما زلت أتذكر صورته و هو يفشل دوماً في أن يكون قاسياً كما يفعل البعض تجاه أبنائهم..فهو و حتى عندما كان يفعلها و نكون حينها نستحق تلك القسوة كان يتراجع عنها سريعاً و كأنه المُذنب و ليس نحن!!..فتعلمت أن القسوة في بعض الأحيان تكون عبثية و بلا معنى و ليست السبيل الوحيد لحل مشاكلنا مع الآخرين و العالقة دوماً.

ما زلت أتذكر صورته كل مساء و هو يتناول قطعة قماش مُبللة لكي يمسح و بكل حرص أحذية أشقائي من تراب الطُرقات و قذارتها..حينها كطفلة لم أدرك معنى ما يفعله و لكن عندما أتذكره الآن أفهم أن والدي بكل بساطة و عفوية كان يحب و من يحب لا يكترث كثيراً لو انحنى كثيراً من أجل من يحبهم.

ما زلت أتذكر صورته و هو يحاول دوماً -و بالرغم من راتبه المتواضع- أن يجعلنا لا نشعر بالفقر أو بالقِلة مقارنةً بالآخرين خاصةً في أيام الأعياد أو عندما يشتري لنا هديةً لنجاحنا في آخر العام الدراسي..فتعلمت أن المال يكون نعمةً فقط إذا حاولنا عن طريقه إسعاد الآخرين و ليس إن حاولنا إذلالهم به.

ما زلت أتذكر صورته عندما سرقته أول مرة و كيف لم يُعاتبني و لم يصرخ بي أو يضربني..لقد صمت و كان صمته وقتها يكاد يقتلني رُعباً خجلاً خوفاً و حزناً..فتعلمت أن خيبة الروح في الآخرين تكون أكثر ألماً من خيبتنا تجاه أنفسنا..و أن صمتنا تجاه من يُخيَّب أملنا يكون أكثر ألماً لنا و له كلما زاد حبنا له.

ما زلت أتذكر صورته و هو يدافع عن إنسانيتي عندما كان أشقائي يحاولون لعب دوره نيابةً عنه و كيف كان ينصرني على جورهم..فتعلمت أن الرجولة ليست أن تستقوي على أنثى بل أن تنتصر لأنثى..و أن الرجولة أن لا تستنصر للآخرين فقط لأنهم من ذات جنسك بل أن تنتصر لهم أن كانوا على حق.

و ما زلت أتذكر صورته عندما أشتبك في عراكٍ عنيف عندما تصادف أن لمح شخص ما كان يُلاحقني يبغي التحرش بي..لم يعاتبني والدي بعدها و لم يلمُني و لم يخبرني بالتيمة العربية التبريرية المعروفة و القائلة:"لو كنتِ تسيرين باحترام ما كان لحق بك أي متحرش"..لقد دافع عني و حماني و هاجم من يبتغي أذيتي..دافع عني و لم ينتصر للمعتدي على ابنته و لو نفسياً بتلك الحجة اللائمة و المُكررة.

تلك بعض الصور من آلافٍ غيرها..صورٌ لم تلتقطها عين كاميرا يوجهها مصورٌ ما..تلك صورٌ تلتقطها الذاكرة..فوالدي أرهق ذاكرتي بالصور التي لا أتمنى أن يأتي اليوم الذي أنساها فيها..والدي لم يكن رجلاً مثالياً و لن أدعي ذلك الأمر أبداً و لو للحظة..فهو إنسان يحمل تلاً من الفضائل كما يحمل تلاً من النقائص..و لعله منحني صوراً سلبية كثيرة كما منحني صوراً جميلة عديدة..و لكني أتمنى أن تتساقط أو أن تحترق تلك الصور السيئة بهولوكوست النسيان ليبقى الجميل منها فقط في ذاكرتي..فالصور الجميلة تتساقط منَّا سريعاً فقط عندما نقرر أن الوقت قد حان لكي نمارس العقوق تجاه والدينَّا أو إحداهما..فنمارس النسيان لنبدأ في منحهم صوراً جديدة لذاكرتهم بدلاً عن صورهم التي أصبحت "مُهترئة" بالنسبة لنا.

إحدى شقيقاتي شاهدت إحدى تلك الصور "المادية" التي أحتفظ بها و التي نجت من المحرقة فانفجرت باكية لأنها شعرت أننا "كبرنا"..و لكني لم أبكي حينها أمامها لأننا كبرنا و لكني أبكي لوحدي كثيراً لأني اشتاق لأبي الذي كان يحملني على كتفه..أشتاق لتلك الصورة التي "مُزقت" بهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكبر هيكل عظمي لديناصور في العالم معروض للبيع بمزاد علني.. ب


.. لابيد يحذر نتنياهو من -حكم بالإعدام- بحق المختطفين




.. ضغوط عربية ودولية على نتنياهو وحماس للقبول بمقترحات بايدن بش


.. أردوغان يصف نتائج هيئة الإحصاء بأنها كارثة حقيقية وتهديد وجو




.. هل بإمكان ترامب الترشح للرئاسة بعد إدانته بـ34 تهمة؟