الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفكرُ المصري ودورُهُ التاريخي(8)

عبدالله خليفة

2014 / 2 / 24
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


إن الوعي النهضوي الذي كرسه بعض المفكرين المصريين لا يشير إلى وجود نهضات عربية ما، وبالتالي لا يرى مراحل واتجاهات وطبقات في التاريخ والوعي العربي الإسلامي، ويحيل هذه التلاوين إلى وجود واحد هو الإقطاع الديني. إن اتجاه نجيب محفوظ ولويس عوض وسلامة موسى في التغييب الكلي للزمن العربي الإسلامي، سوف يقابله مستقبلاً الحضور الكلي للزمن العربي الإسلامي ممثلاً في العقاد وطه حسين وغيرهما وبأشكال محافظة.
إن الشرائح الوسطى المصرية في وصولها ومشاركتها في السلطة منذ العشرينيات، أخذت تفقدُ طابعها العلماني والتحديثي، وليس ذلك لأسباب فكرية محضة، بل لعوامل اقتصادية واجتماعية متنامية في صفوفها، حيث أخذ حزب الوفد يضم أكثر فأكثر شرائح من الطبقة الإقطاعية، وغدت طبقة الأعيان مؤثرة في قراراته وتراجعت فئات (الأفندية).
إن هذا انعكس على توجهات الوفد الذي تراجعت شعاراته العلمانية، وراح النفوذُ الديني يتغلغل إلى صفوفه.
لقد أصبحت المعركة لكسب أصوات المسلمين وهم الأكثرية مسألةً حيويةً للأحزاب والقوى الحاكمة. فيما توجه الاستعمار والسراي الملكي كما أشرنا من قبل (الإقطاع الحاكم السياسي بجناحيه) لاستغلال الإسلام ضد الوفد والحداثة والعلمانية، أي بتحريك الإقطاع الديني الاجتماعي لوقف تصاعد نمو الفئات الوسطى ومشروعها الوطني التحرري الديمقراطي مسلمين ومسيحيين. إن الوفد دخل المعركة بلا فكر مكتمل وعبر العفوية السياسية والآراء المحافظة لكبار قادته.
ومن الممكن أن نرى في آراء لويس عوض نفسه، لوحةً تكشف هذه القضية وتلاوينها.
لقد وقف ضد توجهات طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل لقراءة الإسلام، وقف ضد قراءاتهم جميعاً وليس ضد قراءة معينة للإسلام، ليس لأن هذه القراءات جميعها تمثل موقفاً معادياً للحداثة، بل لأنها تقرأ الإسلام، وهم كذلك لم يكونوا قادرين على طرح موقف مصري علماني لا يتنكر لجذور طائفيته السنية والمسيحية القبطية.
إن قراءة الإسلام حسب هذا الطرح (العلماني) تمثل نكوصاً نحو التخلف، وهنا نرى مثالاً عن التضادات المطلقة لوعي لويس عوض. فإن هذه القراءات عن الإسلام متباينةٌ في اجتهاداتها، ففي حين مثلت قراءتا العقاد ومحمد حسين هيكل وعياً يمينياً لتوظيف الإسلام لمصالح القوى الأرستقراطية في المجتمع، مثلت قراءة طه حسين رؤيةً تقدمية عبر كشفها الصراع الاجتماعي بين العرب وانحيازها للقوى المضطهدة ومن أجل التقدم خاصة في كتابه (الفتنة الكبرى). وبهذا فإن لويس عوض قد وضع الإسلام كما تضعه القوى المحافظة كوعي لمصلحة المستبدين، أي فقد القراءةَ الموضوعية لرؤية الإسلام في مساره الحقيقي المركب المتنوع.
إي أن العداء الديني والشخصي تغلب على العقل في شخص لويس عوض. وهذا المسار الذي كرسهُ سلامة موسى، لم يستطع لويس عوض رؤيته أيضاً في إبداع نجيب محفوظ، الذي غادر مرحلته التاريخية الروائية، وغادر مرحلته الفرعونية كذلك، حين كتب (الثلاثية). لقد مثلت الروايات التاريخية عند نجيب محفوظ بطولة الفرعون، في حين مثلت الثلاثية بطولة الشعب.
نستطيع أن نقول عن انقلاب لويس عوض على العقاد يمثل مسيرة طبيعية في مسيرة وعيه الديمقراطي، فالعقاد في بدء حياته الفكرية كان هو صوت الدستور والحرية، ولكن منذ سنة 1935 كما يقول عنه (أصبح حرباً عواناً على الدستور وحكم الشعب والمدافع الأول عن حكم الصفوة، وتوقف عداؤه للإنجليز.. وتقارب مع الملك فاروق حتى قال فيه شعراً ونثراً. وأعلنها حرباً عواناً على مجانية التعليم وعلى مطالب العمال والفلاحين).
إذن فإن تضاده مع العقاد يبقى واضحاً، حيث استمر لويس عوض في خطه الوطني والديمقراطي، لكن تضاده مع طه حسين الذي اتخذ مسيرة مضادة للعقاد، والذي بدأ حياته الفكرية السياسية بالهجوم على سعد زغلول: زعيم الرعاع كما وصفه، ثم تحول إلى مناضل ووزير وفدي، هو الذي يكشف طبيعة تنوير لويس عوض الغربي المستورد وغير المتجذر في الإرث الوطني المسيحي الإسلامي المصري.
فعلى عكس لويس عوض قام طه حسين بكشف بعض تناقضات التاريخ العربي الإسلامي، منحازاً إلى جانب التقدم والمضطهدين فيه، في بعض أعماله الأساسية، أي إنه دخل في صميم تغيير جوانب من البنية الإقطاعية الموروثة. أي أن طه حسين من جهته، لم يطرح في الثقافة أو السياسة، ضرورة تغيير جذري للمنظومة الإقطاعية الدينية السياسية.
إن اتخاذ لويس عوض موقفاً معادياً بشكل جوهري للبنية التاريخية التي شكلها العرب في المنطقة، يجعل تحليلاته واستنتاجاته لنتائج وتطورات هذا التاريخ، غير موضوعية.
ففي رفضه للشعر العربي الكلاسيكي يرفضه بشكل مطلق، معلناً وفاته بعد وفاة أحمد شوقي. وهذه العملية ليست بحثاً مشروعاً عن تطور في الشكل الشعري العربي، ولكنها تتجاوزها إلى محاولة إلغاء النوع الشعري العربي، عبر العودة إلى العامية ونقل أشكال شعرية غربية متعالية على سيرورة تطور الشعر العربي، تجد بعضَ حيثياتها في قصيدة إليوت. يقول أحدُ الباحثين عن عمله الشعري والنقدي:(محاولته التنظير وأثر ثقافته الغربية وطغيانها عليه، بحيث جرفه ذلك إلى كثير من التطرف والتعصب اللذين - بالإضافة إلى أنه لم يكن شاعراً - أديا به إلى إخفاق دعوته وإلى محدودية أثر ديوانه، بسبب ركاكة ورادءة النماذج الشعرية التي نظمها من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب نظم كثير من هذه النماذج بالعامية، كذلك بسبب تكلف كثير من النماذج وإثقالها بالإشارات والألفاظ الأجنبية من ناحية ثالثة).
تتوارى هنا كذلك فكرة رفض الجسم العربي الثقافي بكليته، ولكن حتى هذه الفكرة تحتاج إلى غوص في النوع الشعري وفي الواقع، إنتاجاً وتحليلاً، وهذا ما لم يفعله، ولهذا فإن النوع الشعري البديل لكل النوع الشعري العربي لم يتجذر، لأنه مغامرة في الهواء.
إن لويس عوض وهو يعيدُ إنتاجَ علمانية سلامة موسى المتغربة، أي التي لا تتغلغل في الإرث العربي الإسلامي المسيحي، لكي تحصل على مواقع متجذرة في الأنواع الفنية، لا يستطيع أن يكونها، لأن ذلك يفترض عكس ما يريد وهو دخوله إلى الجسم العربي الإسلامي المرفوض لديه. أي أيجاد ديالكتيك داخل هذا الواقع والتراث، وبدون وجود سمات متضادة، يستحيل حدوث صراع ونمو وتجاوز.
نكتشف عبر الجوانب الإيجابية التي طرحها لويس عوض عبر العلمانية والديمقراطية والتحديث التي أصر عليها، جوانب أخرى تمثل نقصاً هي بمثابة الإشكاليات التي عاشتها هذه المفاهيم.
وتعود مختلف هذه الإشكاليات إلى موقف لويس عوض الوطني المتشدد، الذي يرى مصر في نسيج تاريخي وثقافي ولغوي مختلف عن العرب، ومنفصل كلياً عنهم.
ففي كتابه (مقدمة في فقه اللغة العربية) هو الكتاب العميق الثر في اللغات، يوضح آراءه، فيقول إن العرب ليسوا من الجزيرة العربية بل هم مهاجرون من منطقة القوقاز، وبالتالي هم آريون، وجذور لغتهم من اللغات الهندو - أوربية، وإن مصر وشعبها قبلهم، وإنهم هم الذين اثروا عليهم وطوروهم. وإن الكثير من كلمات اللغة المصرية دخلت العربية.
والواقع إن الآراء مختلفة في أصل العرب، فهناك نظرية تقول بمثل ما يقول لويس عوض، وهناك نظريات أخرى تقول بسكنهم الجزيرة وإن الشعوب السامية كالبابليين والكنعانيين هم من الجزيرة العربية، وهي أمور أكدتها الآثار والأبحاث المختلفة، أما الأصل البعيد الذي يستغرق آلاف السنين فهو أمر جائز لكنه غير مبرهن عليه. لكن من الغريب أن نجعل هذا الأصل البعيد جذراً لاختلافات اجتماعية وسياسية ودينية راهنة!
أما الأمر المؤكد والعياني والذي ينكره لويس عوض فهو إن العرب المسلمين لعبوا دوراً تحويلياً نهضوياً كبيراً أعادوا به تشكيل المنطقة، وجعلوا المسيحية الشرقية جزءًا من التشكيلة الاجتماعية الإسلامية العامة، أي من البناء الحضاري التعددي والمتنوع في المنطقة، كالعديد من المكونات الأخرى: اليهودية، والزنجية والهندية، التي تم ضمها واستيعابها في قوانين حضارة العصر الوسيط، التي عرفت الإدغام والضم، أكثر من التداخل الديمقراطي، والتلاقح العضوي.
ولم يتحول كتاب فقه اللغة العربية إلى قراءة لهذه الحضارة العربية الإسلامية المسيحية الخ بل هو يعيد إنتاج الصراعات الدينية بشكل (علمي) حديث، ويتجلى هنا ذلك التضاد المطلق الذي أشرنا إليه منذ البدء، وهو التضاد بين العرب والإسلام من جهة وبين الحضارة والحداثة من جهة أخرى، وهو يُدخل في القطب الأخير مصر، حيث هي أيضاً في تضاد مع العرب، ولكنه لا يدخل زمنها العربي الإسلامي الوسيط ليحلله ويكشف عناصره المتضادة، بل هو ينفيه كلياً.
أما التحليلات الموسعة فهي لحضارة الغرب التي نثمن اهتمامه بها ونقله لآثارها الإنسانية العظيمة، وخاصة للعصر التنويري الذي انشغل به لويس عوض وقدم عنه كتاباً هاماً، لكنه لم يأخذ كذلك الفكر الغربي كتكوينات متضادة، فهو يقف عند فكر عصر النهضة، ولا يقوم بتحليل العصر الإمبريالي الغربي.
وهو إذ ينتمي لتيار الاشتراكية الديمقراطية الغربية، فهو يغدو رائداً لمسيرته الديمقراطية الاجتماعية، والتي تتجلى بتاريخه السابق في العهد الملكي، كذلك باستمرار نضاله من أجل الديمقراطية في العهد الجمهوري العسكري، والتي يدفع فيها من عمره سجناً وحصاراً معيشياً وغربة، ولكنه لم يتنازل عن آرائه فضرب مثالاً عظيماً للأجيال.
وتمثل عملية اعتناقه للفكر الاشتراكي الديمقراطي كذلك استباقاً لتحولات العالم والمنطقة، وهذه تحتاج إلى دراسة متفحصة في الواقع، لأنه في سنواته الأخيرة قدم مجموعة من الأعمال الفكرية التي تتناول تيارات العصر الحديث وجوانبه الأدبية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المكسيك: 100 مليون ناخب يختارون أول رئيسة في تاريخ البلاد


.. فاجأت العروس ونقر أحدها ضيفًا.. طيور بطريق تقتحم حفل زفاف أم




.. إليكم ما نعلمه عن ردود حماس وإسرائيل على الاتفاق المطروح لوق


.. عقبات قد تعترض مسار المقترح الذي أعلن عنه بايدن لوقف الحرب ف




.. حملات الدفاع عن ترامب تتزايد بعد إدانته في قضية شراء الصمت