الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عصفور .. مواطن مصري

طلال سيف
كاتب و روائي. عضو اتحاد كتاب مصر.

(Talal Seif)

2014 / 2 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


عصفور
مواطن مصري
حدث بالفعل ، وبالفعل عاش متفردا فى دولته الخاصة والمؤطرة بطاقة لا يقوى عليها البشر فى العادة . بين الوحدة والعزلة التى فرضها على ذاته بذاته ، عاش بيننا عم محمد عصفور . بائع الأرانب والبيض والكتاكيت فى شوارع قريتنا . لا أعرف تحديدا ذلك السر الذي دفعه إلى عدم التعامل مع الدولة منذ ستينيات القرن الماضي وإلى اللحظة الراهنة . دخلت الكهرباء والماء إلى بيوتنا عدا بيته الذي ظل مظلما وبلا صنبور واحد للماء . مازال يشعل مصباح الجاز ويستخدم " فنطاس " الماء الذي يجلبه من أي طلمبات الضخ المنتشرة فى الغيطان البعيدة ، حتى الصرف الصحي ، رفض الإشتراك فيه . محايلات ممن يعرفونه كي يصبح طبيعيا حسب ما يري الناصحون . لكنه دائم الرفض فى مشاركة الدولة أي خدمات مقدمة . تزوج عم عصفور وأنجب وربى أولاده فى هذا الجيتو المظلم ، حتى صارت الفراخ دجاجا ، فهجروه جميعا مع أول خيط للنجاة من تلك الظلمة كما يحسبونها . لكنه لم يستجب للهجر والنفور وتهديدات أسرته . ظل حبيس فكرته إلى يومنا هذا . كنا نجلس تحت شرفة بيته ، فيغافلنا ويلقى علينا بالماء المتسخ ، ثم يعنفنا ويطالبنا بالابتعاد . لم نكن نؤذيه ، فلماذا تلك الضجة ؟ سألناه عما ينفره من جلوسنا هذا . قال : الحكومة لا تحب مثل هذه الجلسات وربما يأتون للقبض عليكم وتسببون لي المشاكل . بالطبع لم يكن رده مقنعا ، لكننا آثرنا الإستجابة لمعرفتنا المسبقة بعصبيته الزائدة ، فإذا ما قامت أمهاتنا " بالفصال " معه فى سعر أرنب أو فرخة " شمورت" كان يقلب الدنيا صراحا ويقسم على رفض الصفقة ويولي دبره مسرعا هاربا . بهذه الحالة انشغلت كثيرا ، فعمدنا إلى مصاحبة أولاده كي نعرف سر الظلمة والتوجس خيفة من البشر . جاءت إجاباتهم جميعا صادمة . فهو ليس بمجنون أو مختل كما نعتقد . ليس مريضا نفسيا كما ادعى المحللون من رواد المقهى المجاور لداره . فقط هو رجل يرفض مشاركة الدولة ومؤسساتها أي شئ ، لأن الدولة شريرة . النظام لا يرحم . الأقوياء يريدوننا عبيدا . الشرطة تصفعنا على الوجوه . أمهاتنا تسب أمام أعيننا وتحت مسامعنا . فما الذي يجبرني على تلك الإهانات . فلتهذب الدولة وأنظمتها وشرطتها إلى الجحيم .
بالطبع لم تكن صيغة عم عصفور تجاه الدولة بتلك الصراحة ، لكنها كانت مجرد تسريبات من أولاده ، عن حالة الظلمة التى فرضها على نفسه وسببها من وجهة نظره . حالة من التوجس والخوف ربما ، أو احترام الذات ربما ، وربما هي نورانية لا نعرفها نحن أدعياء الثقافة والمواطنة، وربما أيضا كان عم محمد عصفور أكثر حكمة من ذلك المفكر الأمريكي الذي لا يحضرني إسمه ، وصاحب مقولة : سبني ولا تتجاهلني . فالتجاهل فن لا يجيده إلا الأقوياء والرجال ومن يمتلكون طاقة إيجابية ويرون النور فى طرقاتهم . هل كنت أنا المجنون أم عم محمد عصفور ؟ هل كنت أنا الجرئ أم عم محمد عصفور ؟ ألف سؤال وسؤال يحضرني مع هذا الرجل الطيب . هل نحن حقا فى وطن يعرف قيمة البشر أم أننا محض أجراء فى سوق اللصوصية والدعاية الرخيصة والمواءمات المنحطة باسم الله والوطن والتاريخ ؟ لا أعرف إجابة شافية لكنني أعرف اللحظة أن عم عصفور لم يكن إلا مواطنا مصريا أصيلا . فعصفور مواطن مصري ولا ريب .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغرب.. قطط مجمدة في حاوية للقمامة! • فرانس 24 / FRANCE 24


.. موريتانيا: مع تزايد حضور روسيا بالساحل.. أوكرانيا تفتتح سفار




.. إسرائيل تحذر من تصعيد خطير له -عواقب مدمرة- بسبب -تزايد اعتد


.. هدوء نسبي مع إعلان الجيش الإسرائيلي عن -هدنة تكتيكية- انتقده




.. البيان الختامي لقمة سويسرا يحث على -إشراك جميع الأطراف- لإنه