الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدث ذلك في باب المعظّم

سعدي عباس العبد

2014 / 2 / 26
الادب والفن


• قصة قصيرة ___ حدث ذلك في في باب المعظّم .. __

• على غير توقع . وعلى نحو يدعو للدهشة والصدمة والذهول . لاحت لعينيّ امّي الميّتة . لاحت واقفة فوق رأسي .. اوّل ما لمحت يدها تمتدّ عبر الفراغ الفاصل بيننا , كانت يدّا طويلة ورفيعة كحبلٍ يتدلى في هاوية ! اوّل ما رأيتها جفلت واصابني الفزع .. كنت اعتقد انها ماتت في ذلك الغروب الحزين ودخلت الجنّة تتذوق الجمال والسعادة المعطّلة في بيوتنا ونسيّت الذبح في الشوارع والخراب الممعن في النفوس ..شاعت رائحة ما , صادمة , ضاعت من اليد التي لم تزل معلّقة في الهواء .. وكما حدث انّ رأيتها فجأة , رأيت الطفل الذي كنته ينسل خلسة عبر تلك النهارات البعيدة ويجري ملهوفا .. فوجدتني اطلق صرخة مروّعة تصاعدت في فضاء الغرفة وانا ارى إلى امّي التي لاقت حتفها في سيارة كيا ملغومة بالمتفجرات ... ماتت قبل انّ اطبع قبّلة دافئة على يدها المزدحمة بالغضون والحنان والذكريات قبل انّ الثم الشيّب في شعرها وقبل انّ تمشط جبيني بقبلّ محمومة ..
في الطريق إلى باب المعظّم . الطريق المؤدي إلى الموضع الذي ماتت فيه امّي تفخيّخا ..سمعتهم يقولون بنبرة واحدة : ماتت في الكيا المفخّخة ..قلت في سري , كيف حدث ذلك وهي ما تزال واقفة فوق رأسي ... نهضت مذعورا من على السرير حالما اكتشفت غيابها .. بيد إني سرعان ما لمحتها تطل من الجدار بشعرها الطويل الابيض المسفوح في الهواء وهي تواصل كلامها القديم الذي كانت قد اطلقته في مطلع ربيع الثمانينات . الكلام الساخط والذي كانت تطلب اليّ عبره بعدم الالتحاق للجبهة . كان ذلك في عام 1982 وفي اليوم الاخير في إجازتي الدورية .. ما زلت اتذكّر انها طلبت اليّ انّ اخلع اسمال الجندية ... وكي لا تكون سببا مباشرا في اعدامي عند باب الفرقة الحزبية , طلبت مني انّ افتعل الجنون في وحدتي العسكرية , ربما يعفّونني من الخدمة في الجندية او الحرب فهزّزت رأسي دلالة الموافقة وانا لم اصح بعد من سكر البارحة .. وافقت على طلبها رفقة بقلبها الذي اتلفته التوابيت الوافدة من الجبهة على مدار الوقت .. انتظرت انّ تطبع قبلة على جبهتي كما جرت العاده في آخر يوم من إجازتي . ولكنها لم تفعل , فقد بدت مرتعبة هذه المرة , تلحس عيونها الدموع , بيد إنّي رغم ذلك استأنفت رحلتي الشاقّة , الناضحة بالخوف وقصف مدافع الهاونات وشتائم الجنرلات والعرفاء ..
كانت قد مرّت سنوات عديدة على تسريحي من الجيش لما فوجئت ضحى البارحة بموت امّي حرقا في سيارة كيا مفخّخة بالديناميت , حدث ذلك في باب المعظّم ..وقبل انّ ينتشر الخبر وقبل انّ اطلق صراخا ..سمعت صوتا يأتي من بعيد عبر النافذة المشرعة على حديقة الدار , فنظرت عبر النافذة .. عبر مسافة طويلة يبتدأ طرفها البعيد من فجر طفولتي , فلمحت امّي تلوّح ليّ من بعيد تطلب اليّ انّ اتأخر في الذهاب الى الحرب او لا اذهب _ او هكذا كان يخيّل ليّ _ .. ثم لم اعد اسمع سوى عاصفة من البكاء والعويل تهبّ من كلّ الجهات , فوجدتني اهبط درجات السلّم مسرعا كأني اتوغل مسرعا في فراغات مظلمة , وقبل انّ اجهش في البكاء لمحت ابي يجري مذعورا في الحوش .. فاجدني اتضرّع اليه انّ يدعني ارى امّي , فاسمعه يردّد باكيا : ولكنها ماتت يا ولدي ..فرأيتني اطبق وجهي على كتفه واغط في سبات عميق من الشجن والبكاء .. كنت لا املك غير انّ ابكي فلم يبق ليّ سوى طيفها وذكرياتي التي تآكلت سنواتها في الحرب .. لم يمرّ وقت طويل على غيابها عندما وجدتني ابحث عنها في الشوارع المقصوفة والسيارات والمشفيات والامكنة الملغومة وعند الجيران وملاجىء العجزة والمسنّين والمعارف والاصدقاء وفي مقرات الاحزاب والمارينز وفي الذكريات والاحلام وفي البنادق المشرعة والمنافذ المغلقة .. ولما ينال مني اليأس ويصبني باللاجدوى . اظل هائما على اوجاعي في الشوارع . وعندما يراني ابي اجري في الدرابين باحثا عن امّي يومىء ليّ ولكني لم التفت ناحيته, لم التفت للورا كأني اخشى اصوات بنادق تتعقب اثري , فاتلاشى في المنعطفات الضيّقة ,.. وفي المساءات ابيت في العراء , تاركا ابي يبحث عني ..اواقات مديدة وانا على هذه الحال .. لم ارَ بيتنا الا في اوقات ما , شديدة الجنون ..اوقات متباعدة كنت فيها انام على كتف ابي وانا مستغرق في هذيان طويل متشظّي .. فيما كان طيف امّي يركض سريعا في ذاكرتي العاطلة ........ / انتهت /








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ


.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت




.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر